رسامون ومبدعون وجدوا طريقهم إلى السياحة في تونس عبر الفن الذي كان جوازهم إلى هذه البلاد، فأقاموا في فندق أتى على بهائه الزمن فقاوم لعقود ليبقى منارة على شاطئ بوجعفر بمدينة سوسة الساحلية، غرف عشّش في نوافذها الحمام فغرّد واحتضنته الجدران العارية والوسائد الخالية.
صعدت الأدراج وقد رسم الغبار على الجدران تقاسيم الزمن ونادتنا الشقق التي كانت تغني للبحر عبر نوافذها وترقص لأوسّو وتتغنى بأمواج البحر وتنادي الصيادين وترقص مع النوارس.
مشروع فني أقيم في هذا النزل المهجور، في إطار مهرجان "إيتيوبيا بصرية" الذي انطلق منذ سنة 2018 ومن أهدافه تطوير السياحة الثقافية في سوسة
لم نكن يومًا نعتقد أن تلك الغرف الخالية ستحيا بالفن من خلال رسوم ونقائش وأفكار لمبدعين احتضنوا قصص البحر وحكاياه فجسدوها من خلال إبداعاتهم كلّ على شاكلته فتحول رقم الغرفة إلى رمز لإحالة فنية شارك فيها أكثر من أربعة وعشرين فنانًا من تونس وخارجها.
لازالت السياحة في تونس تتعثر بعد جائحة فيروس كورونا، فكانت تتمالك نفسها فتتهادى وقد تنهض وقد تسقط كمثل هذا النزل الذي آوى منذ أواخر الستينات الدفعات الأولى من السياح وكان شاهدًا على الزمن الذهبي لانفتاح البلاد اقتصاديًا وثقافيًا، وكان منارة للسياحة في مدينة سوسة باعتباره مشرفًا على أجمل شواطئ البلاد التونسية وأكثر حكاياه عراقة والتصاقًا بتاريخ السكان المحليين.. إنه شاطئ بوجعفر بما يحمله من خلفية تاريخية عبر الحضارات المتعاقبة على "هدريموتم" الاسم القديم لسوسة.
غرف هذا الفندق احتضنت الإنسان من كل أصقاع العالم حتى باتت القصة عشقًا للبحر وجماله ولفحات الشمس ونسيم الشرق المنعش ثم غدر الزمن بمعظمها فخلت من زوارها إلى اليوم في حين بقيت شقق أخرى تتنفس هذا الزمن وتقاوم من أجل البقاء وتنسج قصصًا جديدة باستقبالها الزائرين.
هذا المشروع الفني المقام في هذا النزل، أطلق المشرف عليه الفنان كريم الصغير اسم "fully booked" وذلك في إطار مهرجان "إيتيوبيا بصرية" الذي انطلق منذ سنة 2018 ومن أهدافه تطوير السياحة الثقافية في سوسة، وجاء هذا المشروع الفني تتويجًا لعدة أعمال سابقة وقد وقع الاختيار على هذا النزل المطل على شاطئ بوجعفر لأن أشغالًا قد شملته سابقًا كي يستأنف عمله بكامل طاقته بعد أن توقف لسنوات، ولكنّ جائحة كوفيد جعلته يتعثر ويتعرض إلى صعوبات مادية أثنته عن استكمال الأشغال وبقيت عدة شقق ذات واجهة بحرية غير مكتملة.
وقع الاختيار على هذا النزل المطل على شاطئ بوجعفر لأن أشغالًا قد شملته سابقًا كي يستأنف عمله بكامل طاقته بعد أن توقف لسنوات، ولكنّ جائحة كوفيد جعلته يتعثر
استقبل هذا المشروع الفني مجموعة متألفة من 24 فنانًا في بداية شهر جوان/يونيو وعملوا على تصورات وابتكارات فنية بتلك الشقق المهجورة المطلة على البحر ومن ثمة فتحها للعموم من الطلبة وعشاق الفن فكانت مناسبة لاكتشاف هذا المكان والوقوف على أطلاله.
يؤكد كريم الصغير أن هذا المشروع الفني الثقافي ينعش السياحة الثقافية ويدفع إلى التلاقح بين فنانين من تونس وأوروبا وأمريكا الجنوبية ومن الشرق الأوسط، وهذا يعتبر نوعًا مختلفًا من التظاهرات والعروض التي يمكن أن يستقطب شريحة واسعة من عشاق الفن ويدفع إلى تقاسم تلك الأفكار والتقاطع مع الرسائل التي يمكن أن تطلقها تلك الأعمال.
كنا نرافق هذا المشروع الذي أراده باعثوه "حلمة" (حلمًا) في كل شقّة تصورًا إبداعيًا لقصّة الإنسان في علاقته بالبحر والحياة.
للغرف الأربع والعشرين أرقام، ولكل رقم حكاية مع زائر كان يقيم بين جدرانها ويهنأ بإقامة مطلّة على البحر، وتحول اليوم كل رقم إلى حلم فنان جسد تصوره هناك بين الجدران العارية، كانت مصافحتنا الأولى مع الغرفة رقم 267 التي حيكت فيها خيوط العنكبوت في شكل فني أخرجته الفنانة كرامة الصيادي، فربط الخيوط بين الجدران حتى يخيّل إليك أنك ستقع في شرك الزمن الماضي وارتسمت على الجدران والأرضية أنشطة وألعاب شاطئية وبحرية باللونين الأبيض والأسود، إنها الذاكرة المثقوبة عبر الزمن.
ذكريات عائلة عاشت في سوسة خلال الستينات، هو عمل فني يمزج بين التكريم والحنين في إطار فريد من نوعه في الغرفة 467، صور التقطت في الستينات مغمورة بدرجة اللون الأزرق المميزة والمطرزة جزئيًا بخيط ذهبي تستحضر أبدية اللحظات العائلية المشتركة، إنها ذكريات اقترنت بأوج السياحة في سوسة فحولت هذا المكان عبر هذا التدخل الفني إلى ملاذ للحب والذكرى.
أراد باعثو هذا المشروع الثقافي أن يكون حلمًا حيث تتنزّل في كل شقّة تصورات إبداعية لقصّة الإنسان في علاقته بالبحر والحياة
الفنان السوري محمد علي دخل الغرفة 266 ليرسم فيها خطوطًا وتموّجات بالأبيض والأسود ولكن صادف أن عثر في الشقة على دعسوقة فكان إبداعه مستوحى من تلك الحشرة الهادئة الناعمة فارتسمت صور متناسقة وكأن دعسوقة الأمل تستحم في بحر من النسيان والألم، وجسد الرسام السوري دعسوقته متأثرًا بذلك المثل في الحضارات القديمة الذي يتساءل عن بيت الدعسوقة "أين بيتك يا دعسوقة؟".
الغرفة 265 كانت لفنان ذي أصول تشيلية (جنوب أمريكا) أصرّ أن تكون "الحرقة" أو الهجرة غير النظامية موضوعه الفني الذي كسا هذه الشقة، كانت تغرق في الزرقة وكأنّ البحر قد التهمها، وتحمل "رسائل إلى عابري الأفق". إنها المناجاة والصدمة والاندثار.. إنها حكايا الشباب الذي يئس من الوضع الراهن وألقى بنفسه في المجهول لعلّه يحظى بشيء من الحياة والوجود ضمن كيانات الغرب الغريب.
استنجد الفنان إدغار أندرس "EDGARD ENDRESS" برسام كوليغرافي تونسي ليكتب رسائله وخط بأنامله صورًا للعابرين وقوارب الموت وصراخ الأمهات.. كان "العابر" يروي مأساته وهو الذي اشتد به الألم لما رأى من هول البحر ورائحة الموتى وسوء المعاملة وعذاب الرحلة التي قادته إلى المجهول، إنه "الاندثار" ولوم الذات بعد القضاء، وكان يتوسط الغرفة قارب صغير وكأنه محمل الموتى إلى القبور.
هكذا أطلّ الموت في هذه الشقة على نوافذ البحر العميق الذي يتجلى من النافذة. إنها إطلالة الموت والحياة في أعين فنان يعشق البحر ويرفض العبور الحزين.
غرفة غسان كنفاني كانت الغرفة الأكثر إشراقًا في عالم مظلم، فتزينت بكتبه الملتصقة بالجدران. القناديل المضيئة على أفكاره وحكمه وأجزاء من كتاباته في حين اندثرت حِكَمُه على شظايا وبقايا بناءات مهدمة هناك، إنه عمل للفنانة نجاة زربوط التي اتخذت من الغرفة 262 سجنًا لمسيرة مكافح من فدائي المخيمات واستفزت الثورة والنضال بكتابة الكلمات على الجدران الحزينة "إن الحياة لا قيمة لها قط إن لم تكن دائمًا واقفة قبالة الموت" إنه لسان حال غسان كنفاني وهو يقول أيضًا: "لقد حاولوا أن يذوبوني كقطعة سكر في فنجان شاي ساخن وبذلوا يشهد الله جهدًا عجيبًا من أجل ذلك ولكنني مازلت موجودًا رغم ذلك".
الفنانة الكندية سارة جامبلي "SARA .A TREMBLEY" كان لها تصور "حديقة الغرفة المنفردة" فبعثت في الشقة المهجورة نفس الطبيعة وعبير الورود وثبتت على الجدران إطارات خشبية لأزهار وورود بدأت تذبل بعد أيام من تعليقها، كانت الغرفة تزدان بالزهور والنباتات المثبتة في الآجر على الفراش، إنه مشهد تحول من الفرح إلى المراسم الجنائزية، إنه الزمن الذي يذهب ببهاء الزهر ولكن تبقى نسائم البحر عطر الحياة الدائم المتسلل من النوافذ.
"غرفة المسك" إنها للفنان عابد الرباح الذي اتخذ من الغرفة 260 فضاء بعبق التاريخ والأصالة والتديّن، إنها الغرفة التي فاحت منها رائحة قطع من المسك المبعثرة في الأركان على أرضية رمادية بلون الحصى الذي افترش الغرفة وهناك ترى ثلاث سجادات ذات زخرف شرقي، إنها الغرفة التي التبست روحها بالتزهّد والإيمان، إنها الفضاء الذي يسافر مع الروح وينصهر في الآفاق مع البحر والأنوار المنبعثة من النوافذ على مدار اليوم.
الغرفة 361 للفنان محمد بن سلطان لم تعبأ بالحياة بل اختارت عنوان لها "اللعب مع الموت"، لم تكن إشراقة البحر لتلقي بأنوارها على فضاء الغرفة الحزين الذي ترامت في أرجائه رسوم تشكيلية لا تدعو إلا للخصام والخلاف وقد طغى عليها السواد، إنها لعبة الموت الذي استفزت الفنان التشكيلي الذي أمعن في ذلك وردد شعارات بذيئة من وحي الشعارات الجدارية في الأحياء والشوارع.
لم تكن هذه التجربة الأولى في "يوتيوبيا بصرية" وإنما سبقتها تجربة فنية على جدران مؤسسة تربوية انبعثت منذ أكثر من 100 سنة، فتطوع رسامون لتشكيل صور تشكيلية ضخمة على جدرانها سرعان ما أثرت على صنع القرار البلدي الذي عدل عن هدم المؤسسة
إطلالة على المستقبل كانت من الغرفة 365 التي تحررت من الحاضر والماضي وحملتنا إلى حلم المستقبل في بيئة سليمة تتجانس مع نقاء شاطئ بوجعفر وصفائه وتتماهى مع نداء أنصار الطبيعة في الحق في بيئة سليمة، إنها رحلة عبر الرؤية البصرية ثلاثية الأبعاد فتتحول الغرفة المهجورة إلى فضاء خيالي مفتوح على عوالم بيئية ذات رسائل توعوية تخرج الإنسان من عالم الوحشة إلى عالم الأمل اللامتناهي.
إنه البحر الذي يطل على جميع الغرف المهجورة بنفس إطلالته على مرّ الزمن إما هادئًا أو غاضبًا أو دافئًا أو باردًا يمسح دموع الزمن أو يرسل بريق الأمل، لكن تلك الصخرة الجاثمة هناك منذ أمد بعيد تطلّ على شعب عشق نجمتها الحمراء المرسومة عليها، إنه الفن الذي يوهج على الفضاءات المغلقة في الغرف فينعكس عليها.. إنها جدلية الداخل والخارج تبعث الحياة من جديد في نزل مهجور.
لم تكن هذه التجربة الأولى في "يوتيوبيا بصرية" وإنما سبقتها تجربة فنية على جدران مؤسسة تربوية انبعثت منذ أكثر من 100 سنة فأصبحت مكانًا مغلقًا مهجورًا كئيبًا وسط مدينة سوسة، فتطوع رسامون لتشكيل صور تشكيلية ضخمة على جدرانها سرعان ما أثرت على صنع القرار البلدي الذي عدل عن هدم المؤسسة وتحويلها إلى معلم تراثي مصنف وتم رصد الاعتمادات للترميم والإصلاح، إنه سحر الفن عبر الزمن.