عند الساعات الأولى من الصباح يفتح "محفوظ" أبواب الطاحونة وقد استهلّ يومه بالدعاء. لأكثر من أربعة عقود، دأب على هذا العمل فكان يرتدي ميدعته الزرقاء ويشغل الطواحين الواحدة تلو الأخرى فينبعث أزيزها وهديرها في أرجاء أزقة المدينة العتيقة المحاذية.
طاحونة الصفرة "بن ريانة" تعدّ من أقدم الطواحين بالمدينة العتيقة بسوسة، تأسست إبان الحرب العالمية الثانية (1945) وكانت قبلة سكان سوسة والمدن المجاورة لها
أصوات الطواحين تنبعث وكأنها الموسيقى الصاخبة في آذانه، وتختلف أصوات الواحدة عن الأخرى. وكان يتحسس محفوظ بأذنيه نغماتها حتى يكشف الخلل إن أصابها ثم يزوّدها بما جلبه الزبائن من رزق. فهذا يجلب له قمحًا والآخر توابل، وهذه قد أتته بالفلفل وأخرى بالسمسم.. كان محفوظ يُطعم آلاته الواحدة تلو الأخرى ويحرص على أن تكون المادة المطحونة ذات جودة رطبة ليّنة ناعمة كما يشتهيها الزبون.
ترددت على طاحونة "الصّفرة" في المدينة العتيقة مرّات. فكلما أوشكت على بلوغ محلّه وأطللت من رأس النهج الضيق، تنبعث الروائح العطرة ثم يلوح لي جمع من الرجال والنساء يجلبون معهم سلالًا ملأى بالخيرات فهذه ارتأت أن ترحي"البسيسة" وأخرى جلبت "الزقوقو" وثالثة "الزرير" وآخر قد جلب الحمّص المقليّ وذاك اصطحب معه حبوب القهوة، وكلّ قد فرح بما لديه من غذاء.
طاحونة الصفرة "بن ريانة" من أقدم الطواحين، إذ تأسست إبان الحرب العالمية الثانية (1945) فكانت قرينة رحى الحروب ومآسيها وقبلة سكان سوسة والمدن المجاورة لها، يجلبون إليها ما جادت بها الأرض من نعمها وما اعتنت به أيادي النساء من غربلة وتجفيف وفرز وتدقيق، إنها عادات الحضّر والمدر على السواء في تأمين الغذاء والمؤونة زمن الخير والشرّ على حدّ السواء، وجبلّة الأسرة التونسية في تخزين الغذاء وما جادت به الأرض على مدار العام.
محفوظ (عامل بطاحونة الصفرة) لـ"الترا تونس": اشتغلت في هذه الطاحونة منذ سنة 1984 بعد أن علّمني صاحبها 'سي بوراوي' أصول هذه المهنة وخباياها، وحرصت على توارث الجودة والثقة منه بعد وفاته
حين زرنا الطاحونة كنا نقتنص الفرصة المناسبة لتبادل الحديث مع "محفوظ" الذي كان يصول ويجول بين الآلات ويشغّل حواس الشمّ والسمع واللمس ببراعة. فبأنفه يتشمم عبق المادة المطحونة فيعلم منها جودتها، وبسمعه يراقب آلاته ودوران الرحى، وبأنامله يتحسس جودة المرحيّ. عند منتصف النهار، أسكت حديث الطواحين وهدأت حركة الزبائن فتحدّث إلينا في نشوة واعتزاز بمهنته التي نشأ عليها منذ الصغر قائلًا: "منذ سنة 1984 اشتغلت في هذه الطاحونة وكنت صبيًا يافعًا، علّمني صاحب الطاحونة 'سي بوراوي' أصول هذه المهنة وخباياها، وبمرور الزمن تمكنت من الخبرة في مجال الرّحي وحرصت على توارث الجودة والثقة منه بعد وفاته، وها نحن نستمرّ إلى اليوم في هذه المهنة التي تطورت عبر الزمن تقنيًا ومعرفيًا ولكن يبقى القاسم المشترك بين القديم والحديث أننا نرعى ما تنجبه لنا الأرض من خيرات الحبوب والتوابل فنحوّلها إلى مخزون غذائي للعائلة التونسية بالجودة الملائمة".
ويواصل محفوظ حديثه قائلًا: "كان معلّمي في المهنة صاحب شهادات تعليمية لما فتح هذا الدكان وبدأ بآلات عتيقة ثم تطورت شيئًا فشيئًا ولا زلنا نعمل بإحداها إلى اليوم واقتنينا طواحين حديثة، وكان المميّز في القديم منها الحجر المستعمل في الرحي حتى يستوي الطحين ويبلغ المطحون أعلى جودة".
محفوظ (عامل بطاحونة الصفرة) لـ"الترا تونس": أشعر في السنوات الأخيرة بأن الأزمة استفحلت وتراجع العمل عن السابق باستثناء فترات المواسم والأعياد واستهلال رمضان
ويردف قائلًا: "عشت عقودًا في هذه الطاحونة ولكن أشعر في السنوات الأخيرة بأن الأزمة استفحلت وتراجع العمل عن السابق باستثناء فترات المواسم والأعياد واستهلال رمضان، وتوجهت العائلات التونسية التي ما تزال تحافظ على تقاليدها في التحميص والغربلة والتجفيف إلى رحي القمح لتصيّره 'ملثوثًا' وحبوب القهوة المستوردة خاصّة بعد النقص الفادح في تلك المادة خلال الأشهر القليلة الماضية، كما يتم جلب التوابل بأنوعها، ولاحظنا تواتر جلب 'الكركم' الأصفر، هذا إضافة إلى 'البسيسة' باعتبارها الوجبة الأساسية التي لا تخفى عن أي بيت تونسي، كما يتم رحي 'الزرير' و'الجلجلان' (السمسم) المحلّى باللوز و'شربة الملثوث' (عبارات تونسية متداولة).
وأضاف محفوظ: "القاموس التونسي مليء بأنواع الأغذية التي تجلب للطاحونة ومن خلال ما يتم جلبه نكتشف طبيعة الغذاء لدى المواطن الذي لا يزال يحافظ على نمطه التقليدي في الحياة وخاصّة منهم ذوي الدخل المحدود الذين يستعينون على غلاء المعيشة بتوفير المال والتعويل على الذات".
الزبائن الوافدون على الطاحونة أغلبهم من النساء، قادمات من كافة أنحاء سوسة والمدن المجاورة لها، كنّ يحملن السلال والأواني وقد حافظن على لباسهن التقليدي فتكاد تعرف من أي مدينة أو قرية قادمة كلّ واحدة منهنّ من خلال زيّهن المميّز باعتبار أن بلدان الساحل التونسي تختلف أزياء نسائهن من منطقة إلى أخرى، فمنهن من يرتدي "التخليلة" الحمراء المختلفة عن "التخليلة "الكمّوني، ومنهن من يرتدي الفوطة، وتكاد تشير إليهن بمسقط رأسهن بيقين فتقول: هذه قلعيّة (نسبة للقلعة الكبرى أو القلعة الصغرى) وهذه من زاوية سوسة أو قصيبة سوسة أو حمام سوسة (مدن ساحلية لا تزال تحافظ على اللباس التقليدي اليومي خارج المنزل وداخله).
الحاجة سعاد (65 سنة) وهي تنتظر رحي "الشعير": لعقود خلت لم أغب عن طاحونة بن ريانة، ففي كل فصل آتي إلى هنا لرحي المواد الغذائية، فأنا حريصة على تخزينها في المنزل على مدار السنة
نكاد نجزم أن النمط الغذائي التونسي التقليدي ارتبط بـ"المرأة الحرّة" (جمعها نساء حرائر وهي المرأة المتجذرة والمتصالحة مع تقاليدها الأصيلة).
الحاجة سعاد (65 سنة أصيلة القلعة الصغرى) تحدّثت إلينا بكل شموخ وقد رصدناها في الطاحونة تنتظر رحي "الشعير" الذي جلبته معها لإعداد "الملثوث" (يعتبر الشعير من أكثر وأشهر الحبوب انتشارًا واستخدامًا في العالم، وقد زاد استهلاكه في السنوات الأخيرة نظرًا لفوائده الصحية المختلفة).
تقول لـ"الترا تونس": "أنا أحافظ دومًا على ارتياد طاحونة بن ريانة، ولعقود خلت لم أغب عنها، ففي كل فصل آتي إلى هنا لرحي المواد الغذائية، وبما أننا في شهر رمضان فقد جلبت معي اليوم 'بسيسة الدرع' باعتبارها صحية ويمكن التعويل عليها عند السّحور لقضاء يوم دون مشاق الجوع والعطش، إضافة إلى منافعها الصحية العالية، كما جلبت معي الحمّص المقليّ بعد أن قمت بتنظيفه من الشوائب وقليه على 'الزحافة'، وباعتباري حريصة على الغذاء الصحي فقد جلبت معي اليوم 'العدس الأحمر' الغني بالألياف فأنا من أنصار النمط الغذائي الطبيعي وحريصة على تخزينه في المنزل على مدار السنة".
كما التقينا في الطاحونة امرأة أصيلة مساكن (60 سنة) التي كشفت عن أنها تعتمد نظامًا غذائيًا صحيًا نظرًا لمعاناتها من أمراض مزمنة فهي اليوم جلبت "زرير" خاليًا من السكر (سمسم مجفف ومحمّص)، كما جلبت معها "الشوفان" (الشوفان المطحون هو عبارة عن نوع من أغذية الحبوب المعالجة بشكل كامل تقليديًا.. إنها مصنوعة من حبوب الشوفان التي تم تجفيفها وتبخيرها وذلك قبل دحرجتها إلى رقائق مسطحة تحَت بكرات ثقيلة ثم تستقر بالتحميص الخفيف).
امرأة أصيلة مساكن (60 سنة) تنتظر دورها في الطاحونة: أفضّل أن آكل الدقيق من إنتاج يدي حفاظًا على الصحة ووقاية من الأمراض ولعدم التقيد بضوابط النظافة لدى الباعة في الأسواق
وأضافت المرأة (خيّرت عدم ذكر اسمها) أنها تفضّل أن تأكل الدقيق من إنتاج يديها حفاظًا على الصحة ووقاية من الأمراض وعدم التقيد بضوابط النظافة لدى الباعة في الأسواق مع التأكيد على احترامها لكل من يلتزم بقواعد الصحة.
من ناحيته، يقول عمر البلهوان (ناشط في المجال الثقافي) لـ"الترا تونس": "طاحونة بن ريانة تذكرنا بأيام الصبا فقد كنا نصطف في طوابير أمامها وقد أمسك كل منا رقمًا في انتظار حلول دوره وترى رجالًا ونسوة وافدين من كل المدن المجاورة يصطفون منذ الصباح الباكر خاصة عند حلول شهر رمضان المبارك أو في موسم رحي الفلفل الأحمر، وأتذكر جيدًا عندما أدخل المرحوم بوراوي صاحب الطاحونة آلة رحي 'الزقوقو' كنا مندهشين وفرحين وندور من بيت إلى آخر لإعلام أهل المدينة العتيقة".
عمر البلهوان (ناشط في المجال الثقافي) لـ"الترا تونس": لا تزال طاحونة بن ريانة القلب النابض للمدينة العتيقة وتاريخها المتجذر العميق
يضيف البلهوان: "العامل محفوظ كان شابًا يانعًا ومغرمًا بعمله ولا يتأخر أبدًا عن الطاحونة وتراه بالمطرقة ينحت الحجر حتى يستقيم في آلة رحي القمح، الأجواء كانت أجمل ولكن بعضًا من الماضي لايزال إلى اليوم قائمًا ولا تزال هذه الطاحونة القلب النابض للمدينة العتيقة و تاريخها المتجذر العميق".
لعلّ ما اطلعنا عليه خلال الزيارة إلى هذه الطاحونة الضاربة في القدم حرص النساء على الإشراف المباشر على عملية الرحي وهذا يعكس موروثًا اجتماعيًا يتمثل في الدور المحوري للمرأة في التأمين الغذائي للأسرة فهي من قديم الزمن كانت تستعمل الرحى الحجرية في البيت فتقوم من الصباح الباكر لجرش الحبوب وطحنها وتستمر في تدوير الحجر حتى يصير القمح دقيقًا ناعمًا لتصنع منه خبزًا طازجًا عند الساعات الأولى من الصباح.