روى أحد الأصدقاء أن جده أصيل أرض "الخلصة" الممتدّة في خاصرة مكثر من محافظة سليانة، كان رجلاً سامقًا كجبل، أسمرًا يشبه لون الأرض، يضع شاشية قرمزية ولحافًا أبيض فوق رأسه ويدلل فرسه الشهباء ويقول فيها كلامًا كغزل الشعر ويعشق رائحة الثّرى عند الروي لكنه يحبّ الأشجار أكثر فهو يحدث زياتينه وكرومه كما يحدث أبناءه ويحنو عليهم ويجزع ساعة إمساك المطر.
وفي إحدى المرات، أراد الجد بيع قطعة أرض لأحد أبناء عمومته وبعد الاتفاق وقبل كتابة عقد البيع اشترط الجد أمام الحضور استثناء ثلاث أشجار "خرّوب" من عملية البيع موجودات على حافة قطعة الأرض خوفًا عليها من الاقتلاع أو الضرر، وشرح الجد الأمر للعائلة بأن "الخروبات" الثلاث عزيزات على قلبه فهي علامات بهية من طفولته وذاكرته وأن والده حكى له أن تلك الأشجار كانت للاستظلال والجلوس تحت فيئها في المساءات وحدثهم أيضًا أنه كان يحلم بزرع بستان من الخروب حبًا في هذه الشجرة الأنيقة الجميلة باخضرارها الدائم وذكر بأنها في أيام الحصاد تتحول إلى مكان لتناول الأطعمة والبيع والشراء الفلاحي والنكات فتتناهى القهقهات إلى أطراف المنازل العائلية القريبة.. لذلك قرر عدم بيع الشجرات.
لشجرة الخرّوب أهمية في حياة التونسيين ولها دور في النسيج الفلاحي والغابي التونسي والتوازن البيئي، لكن يبدو أن تلك الأهمية قد ولّت وزالت وأن هذه الشجرة المعمّرة بدأت في الزوال من تونس
هذه الحادثة، التي حصلت في ثمانينيات القرن الماضي، تشي بأهمية شجرة الخرّوب في حياة التونسيين ودورها في النسيج الفلاحي والغابي التونسي والتوازن البيئي، لكن يبدو أن تلك الأهمية قد ولّت وزالت وأن هذه الشجرة المعمّرة بدأت في الزوال من تونس نتيجة للإهمال وتعرضها للقطع والعبث وعدم حمايتها بالإكثار والتشجيع على زرعها.
شجرة الخروب تصنف من فصيلة الأشجار القرنية، وهي شجرة متوسطية عريقة ويعود وجودها إلى أربعة آلاف سنة خلت ونجدها أساساً باليونان وجزيرة كريت وغابات البوسنة وتونس وليبيا والبرتغال ولبنان وإسبانيا.
وهي شجرة سامقة إذ يصل طولها الأقصى حوالي 17 مترًا وتبدو بجذع بني مجعّد وخضرتها دائمة وداكنة ميّالة للسواد بأوراق شبه دائرية خشنة، وتعرف هذه الشجرة بخشبها الممتاز الذي يستعمل للتحف والديكورات، لكنها تشتهر أيضًا بثمارها أو قرونها البنية التي تستعمل في العادات الغذائية المتوسطية كالخبز والمحليات كما تستعمل قرون الخروب كبديل للكاكاو وذلك لخلوها من مادة الغلوتين، أما الحبوب التي توجد بالقرون فكانت قديمًا تستعمل لوحدة لوزن الذهب وهو ما يعرف بالقيراط وحاليًا يستخرج من هذه الحبوب زيت ثمين يتم استعماله في مستحضرات التجميل وفي بعض الأدوية.
الحبوب الموجودة بقرون شجرة الخروب، كانت قديمًا تستعمل لوحدة لوزن الذهب وهو ما يعرف بالقيراط وحاليًا يستخرج من هذه الحبوب زيت ثمين
واستعمل الفراعنة شجرة الخروب في عمليات التحنيط وكانوا يقومون بجلبها من ليبيا ومن الجزر اليونانية ونقلها الإسبان إلى القارة الأمريكية سنة 1854 كما كانت بريطانيا تنقل سنويًا مئات الأطنان من قرون شجرة الخروب من مستعمراتها وتقدمها كعلف رفيع إلى الخيول الملكية ولسلاح الفرسان بالجيش البريطاني.
وتونس باعتبارها بلدًا متوسطيًا فهي من البلدان التي يتلاءم مناخها مع فلاحة الخروب وقد زرعها البربر والفينيقيون على سفوح جبال خمير بالشمال الغربي وبالسلسلة الظهرية وبالجنوب التونسي وكانت قرطاج تمعن في زراعتها وتقوم بتجفيف غلّتها من القرون ثم تطحنها لتتحول إلى دقيق بني كان يصدر بحرًا إلى جنوب أوروبا ويقايض بعدة مدن متوسطية ويتم استعماله مشروبًا وفي بعض الأطباق الغذائية الأخرى.
وتقريبًا توجد شجرة الخروب في كل الغابات التونسية وتعرف لدى جميع السكان في الشمال والجنوب، وحسب منشورات "المعهد الوطني للدراسات والبحوث الهندسية الريفية والمياه والغابات"، فإن شجرة الخروب تتلاءم والمناخ التونسي وتعيش لأكثر من قرن ونصف قبل أن تتحول الى حطب رفيع وهي تبقى ست سنوات كاملة حتى تطعم وتقدم ثمرتها المتمثلة في القرون وقد تعطي حوالي 23 كلغ عند البلوغ وفي سنّ الثلاثين يمكن أن تعطي الشجرة الواحدة 90 كلغ وأيضًا تساعد على ترطيب الهواء وتنقيته كما تعتبر موصلًا جيدًا للأزوت من الهواء إلى الأرض.
ويوجد على الكرة الأرضية تسعة أصناف من شجر الخروب منها نوع تونسي وهو نوع "صفاقس" والمنتشر بكثرة في أستراليا، أما باقي الأنواع فهي: إيميلي ، كاسودا، كليوفورد، سنتاقي، تونتلو، ليليري ، كندوركا، وكومبوتا.
تونس باعتبارها بلدًا متوسطيًا فهي من البلدان التي يتلاءم مناخها مع فلاحة الخروب وقد زرعها البربر والفينيقيون على سفوح جبال خمير بالشمال الغربي وبالسلسلة الظهرية وبالجنوب التونسي
ووفق مؤشرات وزارة الفلاحة التونسية فإن إنتاج تونس من الخروب يسهم بنسبة تفوق واحد في المائة من الإنتاج العالمي المقدر بـ 350 ألف طن نصفها تقدمه الغابات والحقول الإسبانية وخاصة مقاطعة كاتالونيا، كما تحرص وزارة الفلاحة على تشجيع المنابت الوطنية والخاصة على تشتيل هذه الشجرة الهامة ذات الأدوار الاستعمالية العديدة في حياة التونسيين.
ورغم الحرص الذي تؤكده عادة مؤسسات الدولة في تونس على حماية النسيج الغابي وخصوصًا شجرة الخروب إلا أن الواقع له حقيقته فشجرة الخروب آخذة في الاندثار والزوال نتيجة النسيان والإهمال والاعتداءات المتكررة عليها من قبل المواطنين وخاصة صناع "مردومة الفحم".
وأدى كل ذلك إلى تراجع منتوج الخروب من الأسواق التونسية وارتفاع سعر الكلغ الواحد من دينار تونسي واحد سنة 2010 إلى ثمانية دنانير تونسية سنة 2021 ، كما أثر ذلك على بعض العادات الغذائية التونسية إذ يستعمل التونسيون الخروب في منتج "البسيسة" وكمشروب وكمحلي في بعض الحلويات التي يعدها أهالي الساحل والوطن القبلي.
أدى تراجع منتوج الخروب من الأسواق التونسية إلى ارتفاع سعره كما أثر على بعض العادات الغذائية التونسية إذ يستعمل التونسيون الخروب في منتج "البسيسة" وكمشروب ومحلي في بعض الحلويات
وفي ظل غياب الدولة عن حماية هذه الشجرة العريقة من الاندثار، انبرت بعض الجمعيات البيئية للذود على الخروب بالتوعية المستمرة والتشجيع على غراسة هذه الشجرة ومرافقة بعض المشاريع الاستثمارية الصغيرة التي تتعلق بمنتج الخروب كصناعة الخل والمربى وإنتاج الزيوت المستخلصة من قلوب القرون والدقيق المستعمل في الأدوية... وتعليبها وترويجها في الأسواق المحلية والعالمية.
إن شجر الخروب في تونس بصدد التحول إلى فصيل غابي وفلاحي نادر جراء التراجع الواضح لعدد الأشجار، وبالتالي فإن الدولة وخاصة وزارة الفلاحة مطالبة بالتدخل العاجل للحماية والتثمين وتشجيع المستثمرين المحليين والأجانب على بعث مشاريع لها ارتباط بثمرة شجرة الخروب وألا تكتفي الدولة بإصدار طابع بريدي يحمل صورة شجرة الخروب وتمرّ.