30-يوليو-2022
 مهرجان قرطاج الدولي

أحد عروض مهرجان قرطاج 2022 (ياسين القايدي/الأناضول)

مقال رأي

 

عندما نفكك تفكيكًا دقيقًا وعميقًا مصطلح "منوال التنمية"، نجد أنه مصطلح مطاطي ينسحب على جميع المجالات والاختصاصات والأقاليم والمناطق الجغرافية فيما يتعلق باستراتيجيات الدولة وخياراتها في خلق الثروة وتقسيمها وخلق تلك التوازنات المتعلقة بالبنى الاقتصادية والاجتماعية.

وقد راج هذا المصطلح كثيرًا في الفضاء العام بتونس في السنوات الأخيرة خصوصًا في النقاشات السياسية والاجتماعية كلما تعلق الأمر بمناقشة الميزانية العامة للدولة واستشعار المعارضة السياسية لعدم التوازن بين القطاعات أو بين الجهات. فينبري الساسة اللذين هم في الحكم بالتحليل والتفنيد وتقديم التبريرات السياسية والفنية المتعلقة عادة بقلة الموارد وضرورة وعي الدولة بحسن التصرف في المال العمومي وتوخي سياسة الأولويات والمخططات المرنة المتسمة بالتكيّف مع الأزمات الاقتصادية والمتغيرات الجيوسياسية في العالم.

ظل قطاع الشؤون الثقافية في تونس في أسفل ترتيب القطاعات فميزانية الوزارة لم تتجاوز واحد بالمائة من الميزانية العامة للدولة التونسية

طيلة السنوات التي تلت الثورة، حاولت كل الحكومات التي تتالت على الحكم أن تغير في "منوال التنمية" وأن تتوخى تصورات بديلة لما كان سائدًا، فكان لكل حكومة منهاجها وتصوراتها التنموية في محاولة للتخلص من عقدة ما يعرف بـ "التوازن بين الجهات والقطاعات" لكن يبدو أنها كلها قد باءت بالعثرات وفشلت فيما تريد و"ظلت دار لقمان على حالها" فالجهات بقيت غارقة في التهميش القديم والقطاعات لم تعرف لها توازناً إلى اليوم.

وأبرز مثال على ذلك ويتجلى أساسًا في قطاع الشؤون الثقافية، الذي ظل في أسفل ترتيب القطاعات وذلك بالعودة إلى المنشورات السنوية لرئاسة الحكومة التونسية، فنلاحظ أن ميزانية "وزارة الشؤون الثقافية" لم تتجاوز واحد بالمائة من الميزانية العامة للدولة التونسية.

 

 

وعادة ما يقرأ ذاك الرقم قراءة سياسية مفادها أن الدولة تمعن في تهميش الثقافة والمثقفين التونسيين ولا توليهم العناية المطلوبة وعدم اعتبار هذا القطاع قطاعًا له أولوية واستراتيجية وله أدواره التاريخية في النهوض بالمجتمع وفي نحت الذائقة والتواصل والتحاور الثقافي مع الشعوب والأمم وله أيضًا دور لا مرئي في التوقي من المخاطر المجتمعية.

ضمن سياسة وزارة الثقافة التونسية، نجد أن العاصمة والجهات الساحلية لها الأولوية المطلقة في البنية التحتية الثقافية والميزانيات الجهوية وكل أنواع الدعم أما باقي الجهات فلها حسابات أخرى

لكن الملاحظ أيضًا أنه ضمن سياسة وزارة الشؤون الثقافية ذاتها نجد أن ما يمكن تسميته تجوّزًا بـ"منوال التنمية الثقافي" يمايز ضمن تمش قديم بين الجهات  والقطاعات الثقافية فالعاصمة والجهات الساحلية لها الأولوية المطلقة في البنية التحتية الثقافية والميزانيات الجهوية وكل أنواع الدعم أما باقي الجهات فلها حسابات أخرى وعادة ما تفسر الوزارة ذلك بالنمو الديمغرافي الجهوي وغياب التوجه السياحي بتلك الجهات.

وفيما يتعلق بالقطاعات الثقافية فإن الدعم والعناية بشؤونها فإنها توجه أساسًا للسينما والمسرح والموسيقى والكتاب على اعتبار أن هذه القطاعات هي صناعية وتسهم في حركة التشغيل، أما باقي القطاعات على غرار الفنون التشكيلية والفنون الشعبية وثقافة الطفل وفنون الرقص والتراث المادّي  واللاّمادي.. فإنها تحوز ما تبقى من المقدرات  المخصصة للدعم والاهتمام.

فيما يتعلق بالقطاعات الثقافية فإن الدعم والعناية بشؤونها توجه أساسًا للسينما والمسرح والموسيقى والكتاب على اعتبار أن هذه القطاعات هي صناعية على عكس قطاعات أخرى على غرار الفنون التشكيلية والفنون الشعبية

كما يمعن "منوال التنمية الثقافي" في تمييزه بين الجهات ويتجلى ذلك بوضوح في  السياسة المهرجانية المنتهجة، فالمهرجانات والتظاهرات الكبرى التي ترعاها وزارة الشؤون الثقافية بشكل مباشر وآخر غير مباشر والتي تجاوز عددها أكثر من 400 مهرجان متعدد الاختصاصات والاهتمامات يتم تقسيمها داخل الوزارة والتعامل معها بطرق وأساليب تمييزية.

 

 

فنجد تقسيمًا أساسيًا وهو: المهرجانات الشتوية الربيعية والتي تقام عادة في الفضاءات والقاعات المغلقة، والمهرجانات الصيفية الخريفية والتي تقام في الفضاءات المفتوحة ومسارح الهواء الطلق.. وجميعها لا يتعامل معها على قدر المساواة وهو تمش وتصور متقادم ومتوارث منذ الأزمنة الأولى لدولة الاستقلال وداخل هذا التقسيم نجد تقسيمًا آخر أكثر انتقائية كرّس ما يمكن تسميته بــ"المهرجانات والتظاهرات الواجهة" أو التظاهرات الدولية التي تروّج لتونس وثقافتها وترعاها بشكل مباشرة مثل مهرجان قرطاج الدولي ومهرجان الحمامات الدولي وهي من صنف المهرجانات الصيفية.. وأيام قرطاج السينمائية وأيام قرطاج المسرحية ومعرض تونس الدولي للكتاب ومهرجان الأغنية التونسية.. وهي من صنف تظاهرات الفضاءات المغلقة، حيث تحوز هذه التظاهرات ميزانيات محترمة تفوق 30 مليار دينار تونسي، وفي ذلك مركزية مطلقة تحرم باقي جهات البلاد من حقها الدستوري في تظاهرات ومهرجانات كبرى ورغم محاولات هذه التظاهرات الرئيسية تشريك الجهات بطرق مختلفة  لكنها في النهاية تبقى أنشطة مركزية تحتكرها العاصمة.

مهرجان قرطاج وأيام قرطاج السينمائية وأيام قرطاج المسرحية وبعض التظاهرات الثقافية الكبرى تحظى ميزانيات محترمة وتركز مركزية مطلقة تحرم باقي جهات البلاد من حقها الدستوري في تظاهرات ومهرجانات كبرى

ودومًا ضمن ما سميناه "بمنوال التنمية الثقافي"  فإن المهرجانات والتظاهرات بالجهات تتذيل الترتيب في اهتمامات الوزارة حيث توكل مهمة التواصل معها إلى المندوبيات الجهوية للثقافة التي تتولى رصد ميزانيات محدودة جدًا رغم معرفتها ويقينها بغلاء أجور الفنانين وكراء الأجهزة التقنية ومشاكل الأمكنة التي ستحتضن العروض لأن أغلب الجهات لا تملك مسارح مفتوحة فتتحول بذلك المؤسسات التربوية العمومية بالجهات إلى فضاءات مفتوحة للعروض..

كما تحاول جاهدة لجان إدارات تلك المهرجانات الحصول على منح إضافية من البلديات ومندوبيات وزارات أخرى وغيرها وإبرام عقود استشهار لدعم الميزانية المحدودة وفي ذلك بذل لماء الوجه والكثير من العبث والاستهانة بحق جهة تحلم بعروض فنية وثقافية راقية لمواطنيها.

 

 

وبخصوص المهرجانات الصيفية الدولية فإن وزارة الشؤون الثقافية في تونس تتوخى نفس أسلوب التمييز في التعامل معها على مستوى التمويل والترويج إذ يتصدر الترتيب مهرجاني قرطاج والحمامات بميزانية تتجاوز الخمسة مليارات تونسية ثم تأتي باقي المهرجانات الدولية الأخرى على غرار مهرجانات  سوسة وبنزرت وصفاقس ودقة والجم وجربة.

هذه التفرقة في التعامل بين المهرجانات تونسيًا لها شديد التأثير على المادة الثقافية المقترحة على جمهور المتلقين من مختلف الشرائح فتتدنى الذائقة لدى الناس كما يتعمق الشعور بالحيف الثقافي بين الجهات

كل ذلك له شديد التأثير على المادة الثقافية المقترحة على جمهور المتلقين من مختلف الشرائح فتتدنى الذائقة لدى الناس كما يتعمق الشعور بالحيف الثقافي بين الجهات، ويكرّس المركزية بكل أنواعها بما في ذلك المركزية الجهويّة ذاتها خاصة عندما تسعى ولاية من الولايات إلى التمييز بين المعتمديات مرجع نظرها.

لقد حان الوقت أن تفكر وزارة الشؤون الثقافية في تونس ضمن خططها الإصلاحية في مراجعة "منوال التنمية الثقافية" بما يكرس الحق الدستوري في الثقافة لكافة المواطنين أينما كانوا على أرض تونس من شمالها إلى جنوبها، وأن تراجع سياستها المهرجانية والتظاهراتية وأن ترفع كل أوجه التمييز بين المهرجانات والتظاهرات والجهات.      

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"