في إحدى الأمسيات الصيفية، كان "عبد السلام" أحد زوار المتحف الأثري بسوسة يجلس في القاعة الحسينية يستمتع بأصوات الموسيقى. كان المكان داخل أسوار المدينة العتيقة يحتضن تظاهرة ثقافية وقد ازدان السقف بالفوانيس التي تضفي على الفن المعماري العتيق رونقًا وقد تموّج القبو وصمدت العرصات العريضة في وجه الزمن.
سجين سياسي بعد زيارته السجن المدني القديم بسوسة الذي تحوّل لفضاء أنشطة ثقافية: أحسست أن أعين الغدر والظلم لا تزال ترصدنا من وراء حجر
لم يكن هذا الزائر الذي يتفرّس السقف والجدران، بالغريب عن هذا المكان، ولم تكن الجدران لتنكر على هذا الزائر ظلمات الزمن الغابر. إنه السجن المدني القديم بسوسة الذي تحول إلى قاعات أنشطة ثقافية وعلمية بعد تحسينات أدخلت عليه، كان هذا المكان زنزانات ضيقة مكتظة مظلمة، وكانت تلك الشبابيك الضيقة العالية بؤر الضوء الوحيدة التي تسحب إليها الأنفاس المختنقة، وبنفس الشعور الذي كان يعتريه، اختنق "عبد السلام" من جديد ولكن في رحاب الموسيقى الهادئة التي ألبست المكان روح الألم الساكن بين الجدران.
تلمّس "عبد السلام" حجر الجدران ثم توسّط القاعة بين الحاضرين وأشار إلى الجمع قائلًا: "قضّيت في هذه الزنزانة 16 سنة تمضية لعقاب سجني على خلفية حكم سياسي في نهاية الثمانينات قبل أن يتم نقلنا إلى سجن المسعدين خارج مدينة سوسة، كانت الأسوار العالية تحجب عنا الدنيا، وكانت الجدران العريضة تفصلنا عن الزمن، وكانت أرواحنا لا تتصل وأجسادنا الصغيرة في مقام الموت والنسيان.. وكان لا يسمع لنا نداء ولا مستغيث. أما اليوم بعد أن زرت هذا المكان من جديد، أحسست أن أعين الغدر والظلم لا تزال ترصدنا من وراء حجر".
كانت تلك إحدى الشهادات التي اعترضتني خلال زيارتي لمتحف سوسة الأثري وقد تردد على مسامعي من قبل قصص المساجين الذين سكنوا تحت برج "خلف الفتى" (منارة سوسة حاليًا)، ذلك البرج الذي كان شاهدًا على أهازيج السجناء وصياح السجانين وأزيز الأقفال وسياط الجلادين.
غير بعيد عن السجن القديم داخل المدينة العتيقة بسوسة، اتجهنا نحو "الدريبة" وهي مقر الحكم في عهد البايات الحسينيين ومقر الحاكم العسكري خلال الاستعمار الفرنسي، هناك التقينا مراد البحري، وهو مستشار ببلدية سوسة، أين قادنا إلى الدهليز الخلفيّ لتلك البناية التي تتخذ الآن كمقر للدائرة البلدية، "هذا القبو التحت أرضي كان سجنًا يتخذه البايات والقائد (الوالي في تلك الفترة) وما يعتقد عندنا اليوم بأنه مركز احتفاظ للموقوفين على ذمة القضاء الشرعي أو الحربي ولمرتكبي الجرائم" وفق ما حدثنا به مراد البحري.
مستشار ببلدية سوسة لـ"الترا تونس": "دار عْدَلْ" هي مكان احتجازي زجري خاص بالنساء، يقمن فيه المشمولات بالعقوبة بأعمال وأشغال من خياطة وتطريز
مررنا في بعض مسالك هذا الدهليز شديد الظلمة ومرتفع الرطوبة، وقد كشف لنا جانبًا من هول هذا السجن في تلك العهود، إذ كان جزءًا من السجون مشيدًا تحت الأرض أين لا يسمع للمرء صوت ولا نداء. وهو ما يحيلنا إلى ما كانت عليه السجون في العهد العباسي. إذ يذكر في "تاريخ الطبري" أن "السجون كانت في هيئة حفر عميقة أو سراديب أو مطمورات يتم تغطيتها بقباب أو منارات تمنع دخول النور وأشعة الشمس وتجعلها مظلمة وشديدة الرطوبة وتوجد في تلك الحفر تجويفات تستعمل كزنزانات شديدة الضيق".
على مسافة أمتار من سجن "دار الباي" في "الدريبة"، نجد "دار الشرع" وهي مؤسسة قضائية شرعية تستغل منذ بداية القرن السابع عشر ميلادي في التقاضي وفضّ الخلافات، وقد تم تشييده على النمط العمراني المغربي والأندلسي، وبجانب "دار الشرع" يوجد باب أخضر كبير مزدان طوقه بحجر الكذال الأصفر والمربعات من السيراميك التقليدي العتيق، ويخفي الباب وراءه سجنًا وإقامة للنساء الجانحات اللاتي يقضين عقوبة "بحكم شرعي" ويسمى هذا المكان في سوسة "دار عْدَلْ"، وكما يذكر لنا مراد البحري قائلًا: "دار عْدَلْ هي مكان احتجازي زجري خاص بالنساء، يقمن فيه المشمولات بالعقوبة بأعمال وأشغال من خياطة وتطريز وشؤون تختص بها النساء، مقيّدات بعادات المجتمع التونسي، وهو إطار سجني كذلك للزوجة (الناشز) ومركز للتأهيل على معنى القضاء الشرعي والنمط المجتمعي في تلك العهود، ويذكر أنه تم التخلي عن هذه الصيغة القضائية منذ أواسط القرن الماضي مع ظهور مجلة الأحوال الشخصية".
لم تكن فقط هذه السجون التي كنا نذكرها في مدينة سوسة، بل هناك سجون أخرى اندثرت وحلّت مكانها بناءات حديثة، فيذكر أن أول سجن مدني كان يوجد وسط مدينة سوسة قريبًا من المسرح البلدي وقد شيّد مكانه أحد النزل الفخمة (قصر سوسة) وهو مطلّ على البحر ويشهد ذاك السجن على الفترة الاستعمارية، فكان يسجن فيه مرتكبو الجرائم وكذلك السياسيون والمقاومون. كما يوجد سجن بالثكنة العسكرية "المونتوزان" بسوسة وكانت تقع بالشارع المقابل للباب الغربي. كما يقع سجن آخر بالمحتشدات التي كانت موزعة على عدة مناطق في تونس ومن بينها "محتشد ستاد كاشلو" بسوسة حسب ما أورده الحبيب نويرة في كتابه "سنوات المحنة والكفاح".
تحمل السجون في تونس عدة أسماء وتختلف باختلاف وظيفتها، فنجد: "الزندالة" و"الكراكة" و"السجن الدولاتلي" و"الضبطية"
إنّ هذا المبحث عن السجون القديمة في مدينة سوسة يدفعنا إلى البحث عن أصناف السجون المختلفة الموجودة في تونس خاصة في العهد العثماني والاستعماري، وما يذكر في تاريخ السجون أنها تحمل عدة أسماء وتختلف باختلاف وظيفتها فنجد في تاريخ السجون بموقع الإدارة العامة للسجون والإصلاح:
- "الزندالة" وهي سجن كبير للنفي وتنفيذ الأشغال الشاقة، وهي مشتقة من كلمة فارسية تركية "زندال".
- "الكراكة" وهي سجن مجاور لميناء، تنفذ فيه أحكام الأشغال الشاقة مثل كراكة حلق الوادي وكراكة غار الملح.
- "السجن الدولاتلي" وهو حبس الداي وتنفذ فيه أحكام الإعدام، وهو تابع لإحدى مقرات إقامة الداي، يصنف إلى صنفين: سجن القصبة بتونس ودار الحاج فرج وهو سجن خاص بالنسوة.
- "الضبطية" وهي سجن إيقاف وأحكام تنعدم فيه أبسط القواعد الصحية والمرافق الحياتية قبل إحالة المودعين بها إلى الزندالة أو الكراكة.
ولعل الأحكام والقوانين الصادرة في جويلية/ يوليو سنة 1860 وتسمى "ترتيب مجلس الضبطية وبيان خدمته، يكشف لنا بعضًا من بنية السجون في ذاك العصر، إذ ينصّ الفصل الرابع والخمسين على أن يكون "الحبس مقسومًا إلى قسمين: الأول لإيقاف أهل الجرائم والمتهومين، والقسم الثاني وجب إيقافه من مستوري الحال والأعيان"، وهنا نلاحظ البعد التمييزي واللامساواة التي كانت تتسم بها البناءات السجنية، أما الفصل الخامس والخمسون فينصّ على أن يكون "للحبس شبابيك يتخلل منها الهوى وميضات لا يحصل منها ضرر على المسجونين"، وينص فصل آخر على أن "تكون الحبوسات مفروشة بالحصر".
ويذكر أنه "تم خلال الحماية تأسيس بعض السجون وتخصيص أجنحة للأوربيّين لتمييز الرعايا الأجانب عن أصحاب البلد في المعاملة السجنية وكـان (الأمن) و(العدل) تحت إشراف نفس الجهة الإدارية، ومن ذلك تم بناء السجن الجديد بشارع 9 أفريل بتونس الذي بعث بموجب الأمر المؤرخ في 2 جوان/ يونيو 1884 وسجن النساء بمنوبة الذي بعث بمقتضى القرار المؤرخ في 4 أفريل/ نيسان 1885 إضافة إلى سجن الدريبة المختص في تنفيذ الأحكام العسكرية والمحدث بموجب القرار المؤرخ في 14 أوت/ أغسطس 1885".. وفق ما ورد بتاريخ السجون بموقع الإدارة العامة للسجون والإصلاح.
أول سجن مدني كان يوجد وسط مدينة سوسة قرب منالمسرح البلدي وقد شيّد مكانه حاليًا أحد النزل الفخمة
إن الوثائق الأرشيفية في العهد الحديث، تكشف عن بنية السجون التونسية على خلاف العهود القديمة التي لا تكشف لنا عن بنيتها وخصائصها عدا بعض الوثائق التي تبيّن صبغة بعض الأملاك العقارية وانتقال ملكيتها.
ويمكن القول إنّ هناك محاولات لفك أسرار هذا الجانب المظلم فيما يتعلق بالسجون مثل دراسة حول "السجون عمارة وذهنية بالبلاد التونسية خلال العصر الحديث" للباحث محمد فوزي المستغانمي، وكذلك من خلال بعض المنشورات التي تكشف سيرًا ذاتية لمقاومين ومناضلين في الحركة الوطنية من السجناء على غرار الرسائل المنشورة "سنوات المحنة والكفاح 1925-1965 من خلال رسائل أصحابها" للحبيب نويرة وغير ذلك من الكتب.
ولعل اهتمامنا بهذه المسائل، كشفٌ للذهنية التاريخية المتوارثة المتعلقة بنشأة وتطور وظيفة السجون في تونس عبر العصور، والتي اقترنت بنظم الحكم وأنظمة الاستبداد وطرائق العقاب في تاريخ هذه البلاد. وما غاب عنا في أثر القدامى من ذاكرة السجن والمساجين نجده اليوم في كشف واقع وحقائق مراكز الاحتجاز من خلال الاطلاع على منشورات من أدب السجون.