تصدير: "ما أقسى حراسة الأزهار.." (عبد الفتاح بن حمودة ـ شاعر تونسي)
الرسالة الحقيقية أو الرسالة المضادة للألم أو الرسالة المزهرة بالشجن في أقاصي القلب أو الرسالة الشقية هي تلك التي تتحول إلى " أغنية لا تهدأ أبداً " نرددها في الصحو كما في المطر والتي نكتبها بحبر الروح ونقرأها بعيون القلب، هي تلك التي تتلاعب حروفها المرتجفة والمترددة بالمعاني تمامًا كخيطان طائرة ورقية بين يدي طفل منطلقًا مع الريح وهو يردد أهزوجة مدرسية.. هي رسالة لا تحتمل وزرها الأوراق فتخرج إلى العلن لتكون تحت السماء الواسعة كنجمة قطبية بها تهتدي قلوب أخرى مسها الانكسار فتينع وتسعد وتهدأ.. وتخرج بلا مطرية تحت وميض الفجر الشبيه بأزهار اللوز راقصة طورًا وطاربة طورًا أخرى..".
هذه الرسائل القوية التي تشبه هتافات البحارة العائدين من منافيهم البعيدة لا تحتملها الأوراق البيضاء وشاشات الحواسيب والهواتف النقالة، فنراها تشق أفئدة أصحابها لترتسم بهدوء على الجدران والحيطان في الشوارع والأزقة لتكون على مرأى الناس في زوايا مرورهم في نوع من المشاركة النفسية عل البراكين الداخلية تهدأ ولعل العصافير تعود إلى بيتها الأول وعل الشرفات الذابلة تتلألأ في عيون رائيها.
في تونس وعبر أزمنتها القديمة والحديثة كانت الجدران والحيطان بالمدن كما القرى محملًا مشتهى لرسائل كثيرة ملتهبة بهموم الحب والسياسة والأيديولوجيا تكتب باكرًا من أجل مباغتة المتلقي المقصود ولفت انتباهه وإدهاشه وإسعاده وضمان بعض الزهو أو بعض الألم الملذّ، وهذا المتلقي قد يكون حبيبة شاردة، منشغلة بجمالها ولا تبالي أو وطنًا تائهًا مستعمرًا كفلسطين أو طائفة دينية أو إثنية تتعرض الى الضيم كمسلمي بورما أو جهة سياسية في إطار من التنافس وأوجه الاستقطاب أو من أجل التأثير الفكري والأيديولوجي على المجتمع وتوجيهه.
في تونس وعبر أزمنتها القديمة والحديثة كانت الجدران والحيطان بالمدن كما القرى محملًا مشتهى لرسائل كثيرة ملتهبة بهموم الحب والسياسة والأيديولوجيا تكتب باكرًا من أجل المباغتة ولفت الانتباه والإدهاش
الرسالة تُخط على عجل كقبلة، ولا يهم جمال الخط الذي قُدّت به، بل تأتي في شكل مفهوم أو حكمة أو تكثيف شعري مزدحم العواطف والأحاسيس، يتضمن موقفًا وفاعلية شعرية انفعالية تقدم لنا عالمًا جماليًا على حدة.
جمال الرسائل الحائطية لا يتصل بما تضمه من كلمات أو ألوان بقدر تعبيرها عن أكوان داخلية تعتمل في عقل كاتبها وفي أروقة النفس، فهو الذي يوجهها ويحييها فنحبها لذاتها "فهي لا تُشرح عقليًا بل تُشرح بدءًا من الحساسية والانفعال وجملة المشاعر الإنسانية البسيطة والمعقدة، الغامضة والواضحة، وهي لا تحاول إعادة خلق الواقع بل تتحدث عنه بلغة مخصوصة، ولا يهم الرسالة أن تكون متناسقة ومتلاحمة بلاغيًا بقدر ما يهمها أن تأتي مخلصة لواقع ما ولمشاعر إنسانية ما..".
وعادة ما يترصد كاتب الرسالة الحائطية كل ردود الأفعال فيعود إلى المكان بشكل من الأشكال بحثًا عن المجد العاطفي والامتلاء الداخلي، حتى يرى ما يفعل في قادم الرسائل. إنه في بحث دائم عن التغيير والتعديل والطمأنينة واليقين والخروج من الضياع وتضعيف المشاعر مع الآخر متلقي الرسالة.
زمن الاستعمار الفرنسي لتونس، توخى التونسيون الرسالة الحائطية من أجل استنهاض همم بعضهم البعض من أجل مواجهة المستعمر فكانت الرسائل تكتب ليلاً على جدران البيوت بالفحم
زمن الاستعمار الفرنسي لتونس من أواخر القرن التاسع عشر إلى أواسط القرن العشرين، توخى التونسيون الرسالة الحائطية من أجل استنهاض همم بعضهم البعض من أجل مواجهة المستعمر فكانت الرسائل تكتب ليلاً على جدران البيوت بالفحم لتكون ردة فعل "الجندرمة" الفرنسية قوية بحثًا عن صاحب الفعلة من أجل معاقبته.
- حب سائل على الجدران..
أما رسائل الحب فهي عابرة لكل الأزمنة ولكل المجتمعات والقارات والحضارات، فنراها ممشوقة على الدوام كسهم في اتجاه قلب متوثب لكل شيء، تسيل على الجدران بكل الألوان وكل الارتعاشات وكل الأسماء: ندى وميساء وفاطمة وجلنار ودعاء وأسماء وآمال وأحلام.. أسماء حبيبات يفقن صباحًا ليجدن أسماءهن متاحة بكل شجاعة فيمررن دون التفات وقلوبهن تنبض وتفيض بالسعادة. إنه الحب المستحيل المشبع بالاإصرار.
تأتي رسائل الحب المنتشرة عادة على الجدران التونسية مليئة بالأسى والحسرة والغزل والألم والفخر، مشحونة بطاقات فريدة تبحث عن متلق تعوزه الكلمات الجياشة ومفاتيح الوصول إلى أرض الشعر وأرض المعنى حيث الأبدية وحيث الزمن خارج الزمن. عبر هذه الرسائل يتحول العاشق إلى شاعر هايكو أو حكيم عتقته التجارب والأيام فكلمة واحدة تكفي أحيانًا لإيصال الشحنة العاطفية المراد إرسالها، فكلمة "نحبك" وحدها تكفي لتقول كل شيء.
تأتي رسائل الحب المنتشرة عادة على الجدران التونسية مليئة بالأسى والحسرة والغزل والألم والفخر
- في البدء.. رسائل سياسية وأيديولوجية على الجدران
أما رسائل السياسة فهي تزدهر وقت الانتخابات وفي أحلك الأحوال السياسية والاقتصادية فتتحول الجدران والحيطان التونسية إلى ساحة وغى بين المتنافسين والمرشحين لهذا الاستحقاق أو ذاك فتراهم يطلقون كلمات كالرصاص موجعة وكاشفة ومعرّية، وتتحول جدران بعض الشوارع إلى منصات طولى لإطلاق الصواريخ السياسية من أجل التوعية ولفت الانتباه والتحريض والاستقطاب.
التاريخ السياسي التونسي الحديث مليء بلغة الجدران وتزدهر رسائل السياسة على الجدران وقت الانتخابات وفي أحلك الأحوال السياسية والاقتصادية التي تمر بها البلاد
والتاريخ السياسي التونسي الحديث مليء بلغة الجدران ففي أواخر ثمانينيات القرن الماضي خاضت "حركة الاتجاه الإسلامي" التي تحولت فيما بعد إلى حزب "حركة النهضة" حرب كتابات على الجدران مع السلطة وتحديدًا مع الحزب الحاكم حينها " الحزب الاشتراكي الدستوري" الذي غير هو الآخر تسميته إلى "التجمع الدستوري الديمقراطي" حيث يستفيق التونسيون في صباحات سنة 1989 على اتهامات متبادلة بين الخصمين السياسيين.
كما كان لليسار التونسي بمختلف تشكيلاته وتنظيماته قصصًا طويلة مع لغة الجدران، حيث يكتبون باستمرار وبلا هوادة معتبرين أن الالتحام بالشعب يكون أيضًا عبر تلك الوسائل فكانت الجدران التونسية ملاذًا لهم في فترات اتسمت بالدكتاتورية وكانت لغتهم مغايرة تمامًا، فإلى جانب الاستقطاب الأيديولوجي كانوا يتوخون لغة بديعة مفعمة بالشعرية والتكثيف البلاغي وينحون إلى الحكم الإنسانية عبر مقولات الأدباء والشعراء والسياسيين المشاهير مثل الثائر " تشي غيفارا " أو " غاندي " أو" نيلسن مانديلا " أو " ماركس ".
في فترة ما بعد ثورة 2011، شهدت الجدران التونسية معارك أيديولوجية بين الخصوم السياسيين التاريخيين كما سجلت حضورًا لافتاً للمجتمع المدني الثقافي المختص فيما يعرف "بثقافة الشارع"
وفي فترة ما بعد ثورة 2011، شهدت الجدران التونسية معارك أيديولوجية بين الخصوم السياسيين التاريخيين في فترات الاستحقاقات الانتخابية، كما سجلت حضورًا لافتاً للمجتمع المدني الثقافي المختص فيما يعرف "بثقافة الشارع" فشاهد التونسيون على جدران منازلهم وأحيائهم فن الغرافيتي ولنا في " جربة هود " خير مثال.
"تجريم التطبيع يا منظومة التجويع" (تاغ بإمضاء شبان حزب العمال اليساري في تونس)
كتابات حائطية ناقدة للوضع السياسي والاجتماعي في تونس
كتابة حائطية لحملة "تعلم عوم"
- خصومات الجماهير الرياضية تنطلق أحيانًا من كتابات على الجدران..
الجدران التونسية تشهد أيضًا خصومات الجماهير الرياضية وتحديدًا جماهير كرة القدم وأحيانًا بين أنصار الفريق الرياضي الواحد ضمن ما يعرف " بثقافة الألترا " على غرار ما تشهده المدن والأحياء بالدول الأوروبية ضمن بطولات كرة القدم الشهيرة.
وأيضًا فإن أنصار الفرق قد يهاجمون بعضهم البعض بالكتابة على الجدران وأحيانًا تكون الكتابة على الجدران منطلقًا للعنف فيما يشبه حرب شوارع بين الأحياء.
وجماهير الفرق الشهيرة في تونس على غرار الترجي الرياضي التونسي والنادي الإفريقي والنجم الرياضي الساحلي والنادي الرياضي الصفاقسي وعديد الفرق الأخرى، لها ضمن هيئات الأحباء مختصون في الكتابة على الجدران وإدارة العنف الرياضي الذي قد يندلع في كل لحظة.
كتابة حائطية في تونس دعمًا لإحدى الفرق الرياضية
- فلسطين بوصلة كل التونسيين..
فلسطين البهية الزكية والزهرة البرية الندية كانت ولا تزال ابنة كل الجدران والحيطان التونسية من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب. فلسطين لا اختلاف حولها بين السياسيين وبين الرياضيين وبين الفنانين والمثقفين في تونس تقريبًا، إنها البوصلة التي وحدت كل التونسيين ووحدت جدرانهم.
فلسطين وعبر تاريخ الأزمة صدحت بها الحناجر التونسية وتغنت بها بكل فخر، ولكنها أيضًا كٌتبت على الجدران والحيطان بكل الألوان وكل الأشكال وقيلت بكل اللغات وصيغت بكل الخطوط
فلسطين هي الشمس التي لا تغيب عن تونس منذ اندلعت أزمتها بداية القرن العشرين وافتكها الغزاة العتاة دون وجه حق فتحولت إلى وصم نازف في وجه الإنسانية. فلسطين وعبر تاريخ الأزمة صدحت بها الحناجر التونسية وتغنت بها بكل فخر، ولكنها أيضًا كتبت على الجدران والحيطان بكل الألوان وكل الأشكال وقيلت بكل اللغات وصيغت بكل الخطوط، حيث انبرى الشباب التونسي منذ سنوات إلى الكتابة والتلوين وإعلاء راية فلسطين عاليًا كوطن يسكننا ونسكنه.
ومع بداية طوفان الأقصى وما حققته المقاومة الفلسطينية الباسلة من نصر أثلج كل الصدور ، طبعًا صدور أحرار العالم والمدافعين عن القضية الفلسطينية، وما تبعه من هجمات انتقامية همجية وبربرية قام بها الكيان الإسرائيلي وطالت أبناء الشعب الفلسطيني في غزة الأبية، عادت فلسطين مجددًا إلى الجدران التونسية أكثر بهاء وأكثر شموخًا وأكثر ألقًا والهدف من ذلك هو الدعم المعنوي والرمزي للأشقاء الفلسطينيين وكشف ممارسات المستعمر الغاشم والمستبد واستثمار تلك الكتابات عبر شبكات التواصل الاجتماعي حتى نرفع صوت فلسطين إلى كل الآفاق.
كتابة على حائط معهد في تونس "كتائب القسام"
كتابة على حائط المعهد الثقافي الفرنسي في تونس تتضمن "التطبيع جريمة"
فلسطين كتبها الشباب التونسي على جدران المدارس والجامعات والواجهات المطلة على الشوارع الكبرى تحية صادقة من تونس إلى " أم البدايات وأم النهايات.. فلسطين".
في هذا السياق، يقول الدكتور كريم الطرابلسي ، وهو أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية والمختص في الجماليات وله مقالات عديدة تتعلق بثقافة الشارع، إن "توخي الرسم والكتابة على الجدران من قبل مجموعة من المجتمع هو نوع من الإبداع اللا مقصود المستوحى من عالم الغرافيتي، ذاك الفن الذي كان منطلقه الثورة على المعايير الكلاسيكية للفن".
المختص في الجماليات كريم الطرابلسي لـ"الترا تونس": كتابة رسائل على الجدران هي في العمق نزول بالفضاء العمومي من حديقة النخبة المحكومة بالتوافق إلى أرض الكادحين والعابرين واللامبالين
وأوضح الطرابلسي، خلال حديثه لـ"الترا صوت تونس" أن "ممارسي الكتابة على الجدران أو المتمردون الجدد تتحول كتاباتهم وخطوطهم المائلة إلى تعبيرة عفوية مشحونة بمعاني مختلفة قد تكون سياسية أو عاطفية أو أيديولوجية أو قيمية، ميزتها الخروج عن السائد والمألوف وتحطيم كل القيود وخاصة القيود النفسية وامتلاك القدرة على المواجهة". وبيّن الدكتور كريم الطرابلسي أن كتابة رسائل على الجدران هي في العمق نزول بالفضاء العمومي من حديقة النخبة المحكومة بالتوافق إلى أرض الكادحين والعابرين واللامبالين.
وأضاف أستاذ الفلسفة بالجامعة التونسية أن الكتابات على الجدران هي فضاء عمومي استيطيقي مضاد قد يكون التوافق الحقيقي فيه كونه لا تماثلي وامتثالي ومتمرد ومنطق هذا التمرد بدايته تتجلى في تحول في معنى تمثّل جميل لما هو موجود نحو تمثيل الجميل بما هو قبيح وبالتالي فضح وحشية الواقع بأشكال وألوان لا تناسقية ومحايثة للأحداث التي تشغل الناس والعالم على غرار ما يحدث هذه الأيام في الأراضي الفلسطينية.
تظل الكتابة على الجدران والحيطان من السلوكات التعبيرية القديمة المتجددة التي يتوخاها البشر للقول والتعبير عن خوالجهم ودواخلهم وهواجسهم وأحزانهم وانكساراتهم وأفراحهم، يذهب إليها عند الضيق وعند الفرح وعند الحرب، إنها ظاهرة تاريخية لا تغيب عن أي مجتمع وهي تحمل في داخلها ذاك الجوهر الحر المشتعل على الدوام داخل الإنسان.
رسم حائطي في تونس دعمًا لفلسطين