يعرف عضو الجمعية الأميركية للطب النفسي وأكاديمية نيويورك للعلوم الدكتور فريدريك ديلانو نيومان صفات الطفل المدلل بأنه غير مستعد لتقبل رغبات الآخرين ولا يلتزم بروتين الحياة العائلية اليومية ويحاول دائمًا تصنع العناد والضجة في حال تم رفض تحقيق رغباته. كما ينصح نيومان الأولياء بتحفيز أبنائهم ليدفعوا ثمن كل شيء قبل الاستمتاع به وهو سلوك هجره أغلب الآباء التونسيين الذين أصبحوا يفرطون في تلبية رغبات أبنائهم ولو كان ذلك على حساب ذواتهم ويتجاوز مقدرتهم.
وتحت راية الحب والحنان والعاطفة يلجأ البعض في تربية الأطفال في تونس إلى الإفراط في تدليلهم وتجنب إغضابهم والسعي لنيل رضاهم حتى وإن أخطؤوا متناسين ما لهذه السلوكيات من آثار سلبية على شخصية الطفل وسلوكه.
تحت يافطة الحب والحنان والعاطفة يلجأ البعض في تربية الأطفال في تونس إلى الإفراط في تدليلهم وتجنب إغضابهم والسعي لنيل رضاهم حتى وإن أخطؤوا متناسين ما لذلك من آثار سلبية على شخصية الطفل وسلوكه
تقول ماجدة، وهي أم لثلاث أبناء، إنها أفرطت في تدليل ابنها الأصغر ومن شدة حبها ووالده له بالغا في الاهتمام به والاستجابة لجميع طلباته حتى اصطدموا منذ سنوات طفولته الأولى بشخصية عنيدة وأنانية يصعب التواصل معها حتى بالنسبة لمن همُ في مثل سنه.
وتضيف، في حديثها لـ"الترا تونس": "عندما أنجبت ابنتيّ التوأم لم يكن لدي متسع من الوقت لأستجيب لكل ما تطلبانه مني، كما أن كونهما في نفس السن عزّز ثقافة التشارك بينهما في اللباس والألعاب والأكل وغيره، لكن بقدوم ابني الصغير بعد حوالي خمس سنوات كرست كل حياتي من أجله حتى أني تقدمت بطلب عطلة أمومة بدون أجر لمدة ثلاث سنوات لأتمكن من رعايته، وفي النهاية أجد نفسي غير راضية على سلوكه الذي يتسم بالتسلط والتقلب والمزاجية وغيرها من السمات السلبية التي ساهمت للأسف في تناميها وتغذيتها دون قصد مني، بينما تتحلى ابنتاي اللتان لم تحظيا بمغالاة في الاهتمام بشخصية مرنة وملتزمة".
أم لـ3 أطفال اـ"الترا تونس": أفرطت في تدليل ابني الصغير فصدمت في سنوات طفولته الأولى بشخصية عنيدة وأنانية يصعب التواصل معها وأجد نفسي مضطرة للخضوع لجميع رغباته خاصة في الشارع لتفادي نوبات الغضب
وتبين المتحدثة أنها تجد نفسها مضطرة للخضوع لجميع رغبات ابنها خاصة في الشارع لتفادي نوبات الغضب التي يرافقها تقليل من احترامه لها وهو ما يجعلها في إحراج أمام الآخرين. كما تقول إنها تتلقى وابلًا من الشكاوى من تصرفاته في روضة الأطفال التي تتسم بالعدوانية تجاه أصدقائه والتمرد على المربين وهو ما يجعلها في حاجة ملحة لحلول عاجلة وناجعة تمكنها من تهذيب سلوك ابنها والسيطرة عليه قبل أن ترافقه الآثار الجانبية للدلال الزائد إلى فترة المراهقة والشباب.
- "انحراف تربوي غريب جدًا" في تربية الأطفال في تونس
بسبب سعي العديد من الآباء إلى توفير الرعاية الأمثل لأبنائهم ظنًا منهم أنهم يحسنون إليهم، يتمادى الأطفال في طلباتهم ويستشعرون أن تلبيتها حق لا تنازل عنه ويطبّعون مع ذلك دون مراعاة عناء الوالدين في تحقيق ما يطلبونه، فيثقل كاهل الأب والأم في توفير ما يكلفون به سواء على الصعيد الجسدي أو المادي. ومع مرور الوقت وتقدم الأطفال في السن تتزايد المسؤوليات وتتعدد المطالب وتتحول العلاقة بين الطرفين من علاقة عائلية إلى علاقة تحكمها المصلحة يكون فيها الوالدان أكبر الخاسرين فيها.
المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه لـ"الترا تونس": الإفراط في تدليل الطفل يفسد سلوكه وذلك يعد من بين الأخطاء التربوية الشائعة في مجتمعنا وهنا تبرز أهمية دور الوالدين في ضبط رغبات أبنائهم لتخضع لضوابط المجتمع
ويشدد علماء النفس على أن الإفراط في تدليل الطفل والاهتمام المبالغ فيه يعد من بين الأخطاء التربوية الشائعة في مجتمعنا هذا وهو ما ذهب إليه المختص في علم النفس عبد الباسط الفقيه الذي بين أن التدليل المفرط يفسد سلوك الطفل وأن مدرسة تحليل علم النفس تقول إنّ الإنسان يمشي بين حدين، الأول مبدأ اللذة والثاني الواقع. أي أن كل الرغبات التي يريد الحصول عليها تصطدم بمقتضيات الواقع، فعندما يكتسب الإنسان الضوابط السلوكية العادية في عائلته يبدأ في كبح رغباته مثلا عندما يريد الطفل لعبة ولا يشتريها بسبب غلاء ثمنها فقد كبح رغبته، أي أنّ هناك ضغوطًا يفرضها الواقع تكبح الرغبات.
كما لفت الفقيه، في حديثه لـ"الترا تونس"، أن العديد من الأولياء خاصة في بعض الأوساط الاجتماعية يؤمنون بمقولة "لا أريد حرمان ابني من أي شي" وهي عبارة عن صناعة انحراف، فالنتيجة بالنسبة للذكور هي السرقة في حال لم يحصل على ما يريد، أما الفتاة فتُستدرج بسهولة من أجل المال لأن كلا الطرفين لم يكتسبا ضوابط وكوابح السلوك، والمهم بالنسبة لهما هو تحقيق الرغبات مهما كلفهما ذلك.
وشدد المتحدث على أن السلوك هو عبارة عن ضغط كبير محكوم بكوابح المجتمع ليجد الإنسان توازنه، فالطفل إذا لم يتعلم إدارة الإحباط والإحساس المر لعدم تنفيذ رغباته في منزله وسط عائلته سيصبح منحرفًا بالضرورة، مشيرًا إلى وجود انحراف تربوي غريب جدًا تسقط في فخه العائلات محدودة الدخل وليس بالضرورة العائلات ميسورة الحال.
كما تساءل عما إذا كانت العائلات واعية بأنّ كل ما تزرعه الآن هو غرس لشخصية مستقبلية، أو أنها بصدد تربية أبنائها على نزوة اللحظة، حسب تقديره.
عبد الباسط الفقيه لـ"الترا تونس": السلوك هو عبارة عن ضغط كبير محكوم بكوابح المجتمع ليجد الإنسان توازنه، فالطفل إذا لم يتعلم إدارة الإحباط والإحساس المر لعدم تنفيذ رغباته وسط عائلته سيصبح منحرفًا بالضرورة
وبين المختص في علم النفس أن تبعات الإفراط في تلبية حاجيات الطفل يلاحظها المربون فيكتشفون السلوك القهري لدى الأطفال الذين لديهم تعلق شديد بتحقيق رغبتهم مهما كلفهم الأمر، وهو ما يؤذن بشخصية ستواجه اضطرابات كبيرة في المستقبل. كما يلاحظه الشخص الغريب الذي يزور العائلة سلوكيات الطفل الذي يصر إصرارًا كبيرًا على الحصول على ما يريد دون اعتبارات أو مراعاة.
ولفت محدث "الترا تونس" في هذا الصدد إلى أهمية دور الوالدين في ضبط رغبات أبنائهم لتخضع لضوابط المجتمع وتدريبهم على إرجاء تحقيق الرغبات ليكونوا ناضجين في المستقبل.
- التربية المالية المبكرة
وتحدث الدكتور عبد الباسط الفقيه عن التربية المالية المبكرة التي تعلم الطفل منذ التعليم الابتدائي كيفية التصرف في ما يحصل عليه من مال وإدارة رغباته حسب متطلبات الواقع.
وشدد، في هذا الصدد، على ضرورة حصول الطفل على مصروف جيب متساوٍ مع أصحابه، فعندما يتحصل على نصيب وافر جدًا من المال يكون عرضة لتجمع أشخاص ذوي طباع انتهازية أو يصبح عرضة للسرقة والسطو، بالتالي لا بد أن يكون ما يضعه الأولياء بين أيدي أطفالهم متناسبًا مع حاجاتهم وسنهم والقدرة الشرائية السائدة في محيطه، قائلًا "ما معنى أن تشتري لابنك في المدرسة هاتفًا بقيمة ألف دينار والحال أن حارس المدرسة يمكن أن لا يبلغ راتبه هذه القيمة".
وختم المتحدث بالتشديد على أن "الإفراط في التدليل يحدث انفلاتًا في الشخصية في فترة المراهقة لأن المراهق طلباته ستزيد كثيرًا عن الطفولة باعتبار أنّه سيكتشف الفضاء الذي يعيش فيه والمحلات التجارية وغيرها، وسيرافق أصحابه للعديد من الأماكن بالتالي إذا لم يتمكن من ضبط سلوكه سيضطر لاستعمال القوة"، حسب رأيه.
- "تعويض للحرمان؟"
"الدلال يخلّف الهبال" هكذا لخّص أجدادنا المغالاة في الاهتمام بالأطفال والمبالغة في تدليلهم وتحقيق رغباتهم، فتحدثوا من خلال هذا المثل الشعبي المتداول إلى يومنا هذا عن النتيجة السلبية المحتملة لتدليل الطفل.
"الدلال يخلّف الهبال" هكذا لخّص أجدادنا المغالاة في الاهتمام بالأطفال والمبالغة في تدليلهم وتحقيق رغباتهم، فتحدثوا من خلال هذا المثل الشعبي المتداول إلى يومنا هذا عن النتيجة السلبية المحتملة لتدليل الطفل
وقبل أن يولي التونسيون أهمية لدراسات علم النفس والاجتماع للآثار الجانبية للخنوع لرغبات الطفل، استنتج الأولون من خلال تجاربهم أنه لا فائدة ترجى من تدليل الطفل المفرط مؤكدين أنه يعود بالضرر عليه.
وقد بينت الباحثة في علم الاجتماع نسرين بن بلقاسم أن معايير التربية تغيرت اليوم خاصة مع التطور التكنولوجي الذي حدث، فأصبح كل شي متوفر للطفل ولم يعد هناك حدود لتلبية رغباته منذ الصغر.
نسرين بن بلقاسم (باحثة في علم الاجتماع): تلبية جميع رغبات الطفل ناتجة عن رغبة الأولياء في تعويض الحرمان الذي عاشوه في الصغر، فيبذلون ما بوسعهم كي لا يعيش أطفالهم نفس الشعور
وأكدت بن بلقاسم، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنّ ذلك يؤثر سلبًا على الطفل، لافتة إلى أن العائلة في السابق تحث الابن على الاجتهاد والدراسة ليوفر فيما بعد كل الأشياء الثانوية التي يرغب فيها وهو ما يحفزه على العمل والنجاح، لكنه اليوم يجد كل متطلباته الترفيهية متوفرة من السفر للهواتف الذكية واللباس من الماركات العالمية وغيرها من الكماليات، فيفقد الرغبة في تحقيق الأفضل لأنّ بحوزته كل ما يريد وأكثر أحيانًا، حتى أنّه يشعر في بعض الأحيان بالملل والرغبة في التجديد، ما يتسبب في جره إلى مربع الانحراف أحيانًا ودخوله عالم المخدرات أو ما شابه.
وتوضح الباحثة أن تلبية جميع رغبات الطفل ناتجة عن رغبة الأولياء في تعويض الحرمان الذي عاشوه في الصغر، فيبذلون ما بوسعهم كي لا يعيش أطفالهم نفس الشعور، كما أنها نتاج فهم خاطئ للتربية التي يعتقدون أنها تتلخص في توفير كل طلبات الطفل.
نسرين بن بلقاسم: معايير التربية في تونس ليست مبنية على أسس صحيحة، فبعض العائلات قاسية على الطفل وهو ما يتسبب فيما بعد في بروز شخصية عنيفة في الوسط العائلي والخارجي، بينما تنتهج أخرى سياسة الإفراط في التدليل
ولفتت إلى أن معايير التربية في تونس ليست مبنية على أسس صحيحة، فبعض العائلات قاسية على الطفل وتعامله بطريقة عنيفة وتمنع عنه كل شيء حتى الحوار، وهو ما يتسبب فيما بعد في بروز شخصية معقدة عنيفة في الوسط العائلي والخارجي، بينما تنتهج عائلات أخرى سياسة الإفراط في التدليل والخضوع لجميع رغبات الطفل وهو ما يولد شخصية غير مسؤولة وفاشلة على الصعيد الاجتماعي والمهني، وكلا النموذجين غير صحيين ويؤثران على مستقبل الطفل والعائلة والمجتمع برمته، مشددة على ضرورة تنشئة الطفل على القيم والأخلاق وضبط رغباته عبر وضع حدود لا يجب تخطيها.
جدير بالذكر أن العديد من المختصين كانوا قد حذروا من جعل الطفل "محور الكون" في العائلة وذهبوا لتثمين ثنائية الثواب والعقاب لتحفيز الطفل على التحلي بالأخلاق والقيم والنأي به عما قد يقوده نحو الانحلال والدلال المفرط.