يحتفي التونسيون كسائر الشعوب العربية والإسلامية بعيد الأضحى المبارك. وتتميز هذه المناسبة الدينية بأجواء روحانية وعائلية تضفي بهجة على الأسر التي تشترك باختلاف تقاليدها في الكثير من العادات التي تميز تونس عن باقي الدول العربية.
على اختلاف شرائحهم وأعمارهم، يتجذر حبّ أكلة العصبان لدى عديد التونسيين الذين يتوارثون طريقة إعداده جيلًا بعد جيل رغم صعوبة إعداده وتعدّد مراحله
في صباح يوم العيد، تصدح المساجد بأصوات الذكر والتكبير والتهليل، ويتوافد الرجال والنساء على المساجد لتأدية صلاة العيد فيما تحيي مدينة تونس العتيقة "خرجة العيد" وهي مسيرة يجتمع فيها المصلّون ويتوجهون مهلّلين ومكبّرين للمسجد. ويصطحب الأطفال من جانبهم، خرفانهم في جولة في الأنهج والأحياء قبل أن يحين موعد ذبحها.
التحضيرات لعيد الأضحى تنطلق قبل أيام، فترى أسواق بيع الأغنام منتشرة في جميع مناطق البلاد، كما تزدهر مهن موسمية على غرار بيع الأعلاف ولوازم الذبح والطهي وكذلك شحذ السكاكين، فيما تنطلق النسوة في تحضير لوازم الطهي قبل العيد بيوم.
تعدّ المرأة التونسية الخبز المنزلي وعصير الليمون والسلطة المشوية (تتكون من فلفل وطماطم)، كما تقوم بتنظيف الخضر الورقية وتقطيعها (سبانخ وسلق وبقدنوس) لتستعملها يوم غد في أكلة "العصبان"، وهو طبق تشتهر به تونس خاصة في عيد الأضحى.
- إعداد "العُصبان" عادة متوارثة
تقول الخالة "نعيمة" إن إعداد "العُصبان" عادة متوارثة جيلًا بعد جيل، ورغم صعوبة إعداده وتعدّد مراحله، فإنه تقليد يأبى الاندثار ومتجذر في التونسيين الذين يحبون هذا الطبق على اختلاف شرائحهم وأعمارهم.
"إعداد العُصبان يتطلب العديد من المراحل والتحضير المسبق، فقبل يوم من العيد أقوم بتنظيف الخضر الورقية وتقطيعها وأعد الهريسة العربي (فلفل مجفف ينقع في الماء ثم يقع طحنه)، ويوم العيد مباشرة، وبعد ذبح الخروف، أقوم بتنظيف كل ما يوجد في جوف الخروف من كرش وأمعاء وأحرص على تنظيفها من كل ما يشوبها.. أضعها في الماء المغلي لتعقيمها وتطويعها للاستعمال ثم أقطعها قطعًا صغيرة متساوية وأضيف لها اللحم والكبد مقطعان أيضًا ثم أضيف الخضر الورقية المقطعة والأرز المنقوع والتوابل والهريسة.. في المرحلة الأخيرة أقطع كرش الخروف وأخيطها في شكل جيوب وأملأها بالحشو الذي ذكرته".
توضح محدثة "الترا تونس" أن "العُصبان طبق دسم ويحبذه الجميع، لكن المرأة التونسية اليوم تجد صعوبة في إعداده بسبب كثرة التزاماتها علاوة على أن أغلب العائلات التونسية تخلت عن عادة الاحتفال بالعيد باجتماع الأسرة لتتوزع المهام وتتقاسم النسوة مراحل إعداد العصبان كما في السابق".
ولئن يشترك التونسيون في تقليد إعداد العصبان فإن طريقة التحضير والطهي تختلف من ولاية إلى أخرى، فهناك جهات تحبذ العصبان الطازج وأخرى تحبذ العصبان المجفّف.
وقد بين الباحث في التراث التونسي زاهر كمون أن طريقة تحضير العصبان في صفاقس تختلف عن سائر الولايات الأخرى، فيتم تجفيف أمعاء الخروف وبعض من أعضائه على غرار الرئة والمعدة بعد تنظيفها، وتضاف لها البهارات ثم تعلق فوق حبل مع الحرص على حمايتها من الغبار أو الذباب، وبعد ذلك يتم قليها في الزيت وخزنه للاستعمال.
الخالة "نعيمة" لـ"الترا تونس": العصبان هو أن أملأ كرش الخروف وأخيطها في شكل جيوب بحشو مكوّن من الخضر الورقية المقطعة والأرز المنقوع والتوابل والهريسة..
ويقول كمون في حديثه لـ"الترا تونس" أن العصبان في صفاقس يسمى "كركوش". وخلال إعداده، يتم وضع اللحم المجفف في قطعة صغيرة من معدة الخروف وتُلفّ بالأمعاء ويتم طهيها في العديد من الوصفات أبرزها "الكسكسي والمحمص والتشيش والشكشوكة خاصة شكوشة القرع". لافتًا إلى أن هذه العادة موجودة منذ قديم الزمان وتهدف لحفظ بعض أجزاء الخروف من التلف خاصة مع عدم وجود الثلاجة.
كما بين أنه يمكن الاحتفاظ بـ"الكركوش" واللحم المقدد لأكثر من سنة في جِرار، وأنه يمكن استعمالهما أيضًا في أي وقت، وحتى عند نفادهما بالإمكان استعمال الزيت الراسب في الجِرار (الدهان) في الأكل عوض الزيت.
وقد أكد الباحث في التراث عبد الستار عمامو من جانبه، أن العصبان أكلة تميز تونس عن سائر البلدان الأخرى ويتم تحضيره بطرق مختلفة باختلاف المكان والزمان، "ففي فترة معينة، كان يُستعمل لإعداده كل ما يوجد داخل الخروف مع إضافة البرغل. ثم تم الاستغناء عنه وتعويضه بالأرز. وفي بعض الأماكن يستعمل الحمص المنقوع في الماء". كما بيّن أن طريقة تحضير المعدة للحشو تختلف، ففي تونس وضواحيها تقطع إلى أجزاء متساوية وتتم خياطتها، أما في الساحل فيتم ربطها بالأمعاء.
ولفت عمامو في حديثه لـ"الترا تونس" أن عُصبان مدينة القيروان العتيقة يختلف تمامًا عن باقي المدن التونسية، إذ يتم حشوه فقط بالكبد واللحم واللية (شحم الخروف)، أما الأمعاء والرئة وغيرها فلا يتم استعمالها وهو يعرف بـ"العصبان القروي".
زاهر كمون (باحث في التراث التونسي): العصبان في صفاقس يسمى "كركوش"، ويمكن الاحتفاظ به لأكثر من سنة في جِرار، وحتى عند نفاده يمكن استعمال زيت الراسب في الطهي عوض الزيت
ويرى المتحدث أن إعداد العصبان لا يرتبط فقط بعيد الأضحى، بل هو أكلة تحضر مع كل ذبيحة حتى في حفلات الأعراس كي تستعمل أحشاء الخروف. وعن إقبال المرأة التونسية حاليًا على إعداد العصبان، أكد عمامو أن بعضهن يرفضن إعداده لكثرة مراحله، لكن شيئًا فشيئًا حتى الشابات بدأن يتعوّدن على تحضيره لأنه أكلة لذيذة يحبها التونسي ولا تعرض في الأسواق أو المغازات، وحتى إن وجدت فإن التونسي يخشى اقتنائها لأنها تستوجب تنظيفًا خاصًا.
- العصبان والتغذية الصحية
يقبل التونسي خلال عيد الأضحى على تحضير أطباق مختلفة ومتنوعة مكونها الأساسي لحم الضأن، فيتم تحضير "القلاية واللحم المشوي" إلى جانب طبق الكسكسي بـ"العصبان" وهو ما يمثل خطورة على البعض خاصة من الذين يعانون من أمراض مزمنة، وبالتالي فان وزارة الصحة تنشر في كل مناسبة توصيات بعدم الإفراط في الأكل. ولئن يمثل العصبان الطبق الأساسي في عيد الأضحى، فمن المهم التعرف إلى قيمته الغذائية.
فقد بيّنت الأستاذة في علوم التغذية ليلى علوان أن أكلة العصبان يمكن أن تكون صحية إذا تم إعدادها بطريقة صحية، خاصة وأن طرق إعداده تختلف بين الجهات، فهناك من يعدّه بمعدة الخروف والبعض الآخر يعدّه بـ"الثرب" وهو شحم رقيق يغطي الكرش والأمعاء، وهناك كذلك جهات تطبخه بطريقة آنية وأخرى تقوم بتجفيفه، وبالتالي يتغير من الناحية الغذائية.
واعتبرت علوان في حديثها لـ"الترا تونس" أن الإشكال في العصبان المجفف هو احتواؤه على كميات كبيرة من الملح، أما العصبان العادي والذي يتم حشوه في "كرش" الخروف فلا ضرر فيه، خاصة وأنه لا يحتوي على كميات كبيرة من الشحم إلا لمرضى "النقرس"، فحامض اليوريك الذي تحتويه "الكرش" يؤثر سلباً على صحتهم.
ليلى علوان (أستاذة في علوم التغذية): الإشكال في العصبان المجفف هو احتواؤه على كميات كبيرة من الملح، أما العصبان العادي والذي يتم حشوه في "كرش" الخروف فلا ضرر فيه
وبينت المتحدثة أن "العصبان" يحتوي على الخضر الورقية "بقدنوس سلق وسبانخ" وهي خضر نافعة يضاف إليها اللحم والكبد والتوابل وكذلك القمح أو الأرز، وبالتالي فهي وجبة صحية لكن يفترض تجنب "اللية" أي شحم الخروف، وإذا تمت إضافتها فبالإمكان تقطيعها لأجزاء كبيرة وتجنب تناولها خاصة لكل من يعاني من مشاكل صحية على غرار السمنة ومرض القلب وضغط الدم والسكري.
ولفتت ليلى علوان إلى أن "كرش" الخروف صعبة الهضم خاصة لمن يشكو من أمراض تتعلق بالمعدة، وبالتالي بالإمكان تناول الحشو وتجنبها، كما شددت على ضرورة عدم إضافة الزيت في الطعام لأن "العصبان" يحتوي على كمية كبيرة من الشحوم.
ليلى علوان (أستاذة في علوم التغذية): "كرش" الخروف صعبة الهضم خاصة لمن يشكو من أمراض تتعلق بالمعدة، وبالتالي بالإمكان تناول الحشو وتجنبها، مع أخذ قسط من الراحة بعد أكله
وقالت الأستاذة في علوم التغذية إنّ "العصبان عادة ما يستعمل في طبق الكسكسي، وإذا أكلناه في هذا الحر فعملية الهضم ستكون بطيئة جدًا وتستغرق ساعات داخل المعدة، كل الأكلات التي تحتوي على شحوم تبقى أكثر من 4 ساعات في المعدة وستؤثر عليها.. وأفضّل ألا نخرج للسياقة بعد الأكل مباشرة مع هذا الطقس الحار لأن الدماغ حينها لا يحتوي على ما يكفي من الأكسجين.. ولهذا يجب تجنب الأكل المفرط مع أخذ قسط من الراحة لأن المعدة ستقوم بمجهود كبير.. ويفضّل تجنب المشروبات الغازية كذلك وتعويضها بماء يضاف له الليمون والنعناع، مع تناول الكثير من السلطة لنساعد المعدة في عملية امتصاص الشحوم".
وبينت علوان أن "العصبان" يحتوي على الألياف والبروتينات وفوائد غذائية كبيرة، أما المجفف فلا يحتوي على خضر، وبالتالي يفتقد للألياف ويحتوي على كثير من الملح "وكأخصائيين في التغذية لا ننصح به وليس مفيدًا مثل العصبان الطازج" وفقها.