يجلس محمد (58 عامًا) على كرسي وضع أمام محله، كمامته تتدلى من أذنه اليسرى عبثًا، يرتشف قهوة من إناء بلاستيكي اقتناها من المقهى المقابل لمحله والذي قام برفع الكراسي منذ ما يناهز ساعة تقريبًا امتثالًا للإجراءات الحكومية.. ينصت إلى الراديو بإمعان ليتابع آخر المستجدات في علاقة بوباء كورونا من نشرة الأخبار.
"الحال كاسدة" يقول محمد لـ"الترا تونس" متنهدًا ويتابع: صرنا نتابع نشرات الأخبار بنفس الاهتمام الذي نتابع به مباريات كرة القدم.. لكن الفرق بينهما أن كرة القدم "تزهينا" والأخبار تزيدنا إحباطًا على إحباط.. لكن ماذا عسانا نفعل؟ ها نحن مضطرون لمتابعتها لنبقى على اطلاع دائم بآخر القرارات التي تتخذها الحكومة، ولنكون على علم في حال تم اتخاذ إجراءات اجتماعية مصاحبة للتخفيف من وطأة الجائحة علينا نحن الفئات الأكثر تضررًا منها.
يملك محمد محلًا لبيع التحف والمزهريات ومختلف مستلزمات الديكور، لكنه مع اقتراب عيد الأضحى، دعمها ببعض اللوازم التي تُستعمل في العيد من كوانين و"شوايات" وسكاكين ومراوح يدوية، عساه يتمكن من ترقيع الكساد الذي شهدته تجارته منذ بداية الجائحة، وفقه.
محمد (بائع لوازم العيد) لـ"الترا تونس": صرنا نتابع نشرات الأخبار بنفس الاهتمام الذي نتابع به مباريات كرة القدم لنبقى على اطلاع دائم بالقرارات التي تتخذها الحكومة، ولنكون على علم في حال تم اتخاذ إجراءات اجتماعية مصاحبة للتخفيف من وطأة الجائحة علينا
"كلفتني الأزمة الوبائية الكثير ولا تزال تكلفني بعد.. اعتقدت أنّ بإمكاني تدارك خسارتي من خلال بيع بعض مستلزمات العيد لكني أخطأت التكهن، فعدد الذين اقتنوا مني بعض الحاجيات البسيطة يُحصَى على أصابع اليد. يبدو أن الكثيرين لن يذبحوا أضحية هذا العام"، يستنتج محمد.
وأكد أنه بات يفكر جديًا في غلق محلّه وعرضه للكراء عساه بذلك يصير بإمكانه الاستفادة منه ولو بنسبة ضئيلة، معبرًا عن امتعاضه من سياسة الدولة في إدارة الجائحة دون الأخذ بعين الاعتبار الفئات المتضررة التي تعمل لحسابها الخاص وليس لها هياكل أو نقابات تحميها، على حد تعبيره.
بدوره، أكد بشير (47 عامًا)، وهو بائع فحم، أن تجارته في تراجع العام تلو الآخر، لاسيما خلال السنتين الأخيرتين في ظل الأزمة الوبائية.
يقول لـ"الترا تونس": أنا أكتري مستودعًا في حيّ شعبي بـ300 دينار في الشهر الواحد لأضع فيه أكياس الفحم التي أبيعها. وناهيك عن أنّي صرت بالكاد أجمع ثمن الكراء والفحم الذي أقتنيه، فإني مضطر لدفع 'جعالة' (رشوة) لأمنيين حتى لا تقع مداهمة مستودعي، فأنا أُعتبَر تاجرًا غير شرعي وفق قانون دولتنا"، ويستطرد ساخرًا: "الدولة لا توفر لنا مواطن شغل، وإذا عولنا على أنفسنا واشتغلنا بعرق جبيننا تريد نصيبها مما نجنيه. يا لسخرية القدر".
ويأمل بشير أن تزدهر تجارته قليلًا بحلول عيد الأضحى، مستدركًا أن الأيام الخوالي لم يتمكن من بيع كميات جيدة كما دأبت عليه العادة في أعياد السنوات التي تسبق جائحة كورونا. "الفيروس اللعين قصم ظهورنا وحرمنا حتى فرحة الأعياد".
بشير (بائع فحم) لـ"الترا تونس": في الأيام الخوالي لم أتمكن من بيع كميات جيدة كما دأبت عليه العادة في أعياد السنوات التي تسبق جائحة كورونا. الفيروس اللعين قصم ظهورنا وحرمنا حتى فرحة الأعياد
من جانبها، تقول لطيفة (اسم مستعار)، وهي بائعة خبز "طابونة" (خبز منزلي)، لـ"الترا تونس" إنها تعودت خلال الفترة التي تسبق عيد الأضحى على تلقّي عديد طلبات العروض من أجل إعداد الخبز من مختلف المناطق المجاورة حتى أنها تصل إلى غلق باب الطلب. لكنها، هذا العيد، بالكاد تحصلت على بعض الطلبات بسبب الحجر الصحي الشامل الذي تم فرضه في المنطقة التي تقطن بها بسبب انتشار فيروس كورونا.
ومع تواصل ارتفاع عدد الإصابات والوفيات المسجلة بفيروس كورونا في مختلف ولايات الجمهورية، فضلًا عن تسجيل عدد من الإصابات بسلالات متحورة خطرة وسريعة الانتشار في أكثر من منطقة، فرضت الحكومة جملة من الإجراءات المشددة على غرار إقرار الحجر الصحي الشامل والموجه في مختلف المناطق حسب نسبة انتشار الفيروس بها.
اقرأ/ي أيضًا: من بينها تعجيل الزواج وشفاء الصدفية وتسهيل النطق.. طقوس عيد الأضحى في تونس
"جائحة كورونا مرّرت لنا 'الخبزة' (تقصد اللقمة) وصعّبت علينا عيشنا. زوجي قعيد لا يعمل وأنا من أعيله وأعيل أطفالي الثلاث"، تضيف لطيفة بصوت متقطع.
تصمت قليلًا ثم تتابع: "إن لم أبع الخبز ماذا عساي أفعل حتى أقوت أطفالي؟ ليس لنا سوى الله، فالدولة لم تفكر في الفئات الضعيفة والمفقرة، وكل مرة نسمع عن إجراءات تتخذها تزيد من تضييق حياتنا علينا أكثر مما هي عليه من ضيق. أما المساعدات الاجتماعية فلا نسمع عنها إلا في نشرات الأخبار، ولا يصلنا منها شيء"، على حد قولها.
"على كل حال، أنا لا أنتظر شيئًا من أحد، ما أرجوه هو أن يأخذوا الفقراء بعين الاعتبار في الإجراءات التي يتخذونها ويرأفوا بحالنا ولا يغلقوا أمامنا أبواب رزقنا"، تعقّب محدثة "الترا تونس".
لطيفة (بائعة خبز) لـ"الترا تونس": إن لم أبع الخبز ماذا عساي أفعل حتى أقوت أطفالي؟ فالدولة لم تفكر في الفئات الضعيفة، وكل مرة تتخذ إجراءات تزيد من تضييق حياتنا علينا، أما المساعدات الاجتماعية فلا نسمع عنها إلا في نشرات الأخبار
جائحة كورونا لم تؤثر فقط على أصحاب المهن الهشة، وحتى الموسمية منها التي اعتاد ممتهنوها أن ينتعشوا منها خلال فترات الأعياد والمناسبات الظرفية، بل أيضًا على الفلاحين الذين لم يتمكنوا من بيع خرافهم هذا العام. وتشهد أسواق بيع المواشي "الرحبة" إقبالًا ضعيفًا من المواطنين وركودًا في البيع.
"أغلب من يقصد الرحبة بات يكتفي بالمشاهدة والسؤال عن الأسعار" يقول سالم وهو عامل يومي لم يتمكن من شراء خروف بسبب غلاء أسعار الماشية، وفق تقديره. "الأسعار نار، و'الزوالي يشهق ولا يلحق"، يضيف متنهدًا.
وأوضح سالم أن سعر الخروف بات يتجاوز الألف دينار، أي ما يعادل ما يجنيه في شهرين كاملين، على حد قوله. "ها أنا لا أحرم نفسي من جولة في الرحبة ككل عام، أعاين الخرفان والأسعار، لكني سأكتفي في العيد بشراء بعض اللحم"، يضيف مشيحًا بوجهه كي يداري غصة في القلب.
وكثيرون، على خطى سالم، اضطروا إلى الاستغناء عن الأضحية هذا العام لارتفاع الأسعار بشكل كبير، ويرون أن حتى فرحة عيد الأضحى باتت "لمن يستطيع إليها سبيلًا".
وعن الارتفاع الكبير في أسعار المواشي، يقول فتحي (فلاح) لـ"الترا تونس" إن الأسعار لا تعتبر مرتفعة مقارنة بما ينفقه الفلاحون على مواشيهم، مسلطًا الضوء على ارتفاع أثمان الأعلاف التي وصفها بـ"المشطة".
"الجميع يتحدثون عن ارتفاع أسعار الخرفان، لكن لم يتحدث أحد سابقًا عن ارتفاع أسعار الأعلاف. لا أحد يراعي الفلاح الذي يعاني على مدار العام شح الأمطار الذي يرافقه ارتفاع ثمن العلف. كنا قد حذرنا آنذاك من أن تداعيات ذلك ستمسّ المواطن أيضًا وليس الفلاح فقط، فهي حلقة مترابطة، لكن لم نجد آذانًا صاغية"، يردف فتحي.
فتحي (فلاح) لـ"الترا تونس): الجميع يتحدثون عن ارتفاع أسعار الخرفان، لكن لم يتحدث أحد سابقًا عن ارتفاع أسعار الأعلاف. لا أحد يراعي الفلاح الذي يعاني الأمرّين على مدار العام
"بعد ما كلفتنا تربية المواشي من أموال هل نبيعها بأسعار أدنى من كلفتها ليرضى المواطن؟" يتساءل محدث "الترا تونس" معقبًا أن الفلاح حتى في البيع يعاني الأمرّين، لاسيما وقد منعت الحكومة بيع الأضاحي في غير الأماكن التي خصصتها الدولة في إطار إجراءات الحد من تفشي جائحة كورونا، وبالتالي أصبح مضطرًا للاقتصار على كراء موضع في "الرحبة" لبيع الخرفان، "لا يكفي ما خسرناه بسبب الجائحة على مدار العام، وها نحن حتى في البيع نخضع لإجراءات مضيقة ومجحفة. كيف لي أن أبيع خرافي هكذا؟".
وكانت اللجنة الوطنية لمجابهة فيروس كورونا، في إطار الإجراءات التي فرضتها في إطار الحد من انتشار كورونا، قد وجهت دعوة إلى الولاة لإحكام تنظيم نقاط بيع الأضاحي بما يراعي الإجراءات المتخذة بمرجع نظرهم الترابي، والتنسيق مع رؤساء البلديات لمنع كل انتصاب لنقاط البيع في الفضاءات المغلقة أو داخل مناطق العمران، وبالحرص على اعتماد بروتوكول صحي ملائم والضامن للحد الأدنى من قواعد التباعد الجسدي، وفق ما جاء بلاغ لرئاسة الحكومة بتاريخ 8 جويلية/يوليو الجاري.
يذكر أن الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري كان قد أعلن، بتاريخ 29 جوان/يونيو 2021، أنه تم الاتفاق على اعتماد سعر مرجعي موحد لأضاحي العيد سواء "العلوش" أو "البركوس" في حدود 13 دينارًا للكيلوغرام (حي) وذلك للاستئناس به عند بيع الأضاحي بالميزان.
وأوضح الاتحاد، في بلاغ له، أن الترفيع في السعر المرجعي لأضاحي العيد جاء تبعًا لجلسة عمل انعقدت بمقر المجمع المهني المشترك للحوم الحمراء والألبان بحضور كافة الأطراف المتدخلة، وإثر تدارس الوضع الحالي الذي يعيشه قطاع تربية الماشية وخاصة الصعوبات المرتبطة بارتفاع كلفة الإنتاج جراء الزيادة غير المسبوقة في أسعار الأعلاف.
وفي ذات السياق، أكد مدير الإنتاج الحيواني بالاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري منور الصغيري أن هناك فائضًا في الإنتاج هذا العام يعود بالأساس إلى مشكلة الترويج إثر تفشّي جائحة كورونا، وتراجع الإقبال على المطاعم والنزل والمشاوي ونشاط المبيتات والمطاعم الجامعية، فضلًا عن تدهور القدرة الشرائية للمواطن والتقلص الكبير في ظاهرة التهريب إلى دول الجوار بسبب إجراءات أزمة كورونا"، مفيدًا أن "المتوفر من أضاحي العيد في حدود مليون و600 ألف أضحية، أي أن هناك ارتفاعًا بنسبة 7% مقارنة بالسنة الماضية التي توفرت فيها الأضاحي بحوالي مليون ونصف أضحية"، وفقه.
وأضاف، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنه لا يمكن الحديث عن ربح وخسارة بالنسبة إلى الفلاح لأن الوضعية صعبة والأهم هو ضرورة البيع لتوفير السيولة، قائلًا: "منذ 5 سنوات تقريبًا دخلنا في منطق الخسارة ولم نعد نتحدث عن الربح"، على حد قوله.
وأكد الصغيري أن "الفلاح سيتكبّد وحده الخسائر إذا لم يبع منتوجه، إذ يكلّفه الخروف الواحد في اليوم تقريبًا 2500 مليمًا، ولهذا فإن الوضع سيكون كارثيًا إذا لم يبع الفلاح في العيد" وفق وصفه.
أثرت جائحة كورونا بشكل عام على التشغيل في تونس وعمّقت هوّة البطالة إذ سجل عدد المشتغلين في تونس تراجعًا بـ 4.6 ألاف مشتغل خلال الثلاثي الأول لسنة 2021 مقارنة بنفس الفترة من العام الفارط
وبغضّ النظر عن أصحاب المهن الموسمية أو الظرفية، فقد أثرت جائحة كورونا بشكل عام على التشغيل في تونس وعمّقت هوّة البطالة، إذ أفاد المعهد الوطني للإحصاء، في نشريته حول مؤشرات التشغيل والبطالة الثلاثي الأول 2021، أن عدد المشتغلين في تونس يواصل الانخفاض مسجلًا تراجعًا بـ 4.6 ألاف مشتغل خلال الثلاثي الأول لسنة 2021 مقارنة بنفس الفترة من العام الفارط.
ويقدر عدد السكان المشتغلين في الثلاثي الأول لسنة 2021 بـ 3428.8 ألف مشتغل، مقابل 3433.4 ألفًا خلال الثلاثي الرابع من سنة 2020، مسجلًا بذلك انخفاضا بحوالي 4.6 ألاف مشتغل.
كما أفرزت نتائج المسح الوطني حول السكان والتشغيل للثلاثي الأول من هذه السنة، 742.8 ألف عاطل عن العمل من مجموع السكان النشيطين مقابل 725.1 ألف عاطل عن العمل تم تسجيله خلال الثلاثي الرابع لسنة 2020. وبالتالي، ارتفعت نسبة البطالة لتبلغ 17.8% خلال الثلاثي الأول من سنة 2021، مقابل 15.1% مقارنة بنفس الفترة من سنة 2021، ومقابل 17.4% مقارنة بالثلاثي الرابع من سنة 2020، وفق معطيات المعهد الوطني للإحصاء.
اقرأ/ي أيضًا: