30-سبتمبر-2024
السياحة في تونس.. وجهة لا تزال تبحث عن مقومات النجاح

الترويج الجيد للسياحة التونسية أصبح فعالاً خاصة عندما يكون المصدر هو شهادة السائح نفسه (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

أشرف الموسم السياحي في تونس على نهايته وقد بقي وفيًا لمنواله التقليدي الذي يعتمد على السياحة الكمية في النزل والإقامات الشاطئية رغم النداءات المتكررة التي يطلقها الخبراء والفاعلون في المجال بالدعوة إلى تنويع المنتوج السياحي القائم على السياحة البيئية والصحية والسياحة الثقافية في عمق البلاد التونسية مبحرًا في عمق الحضارة التي تبعث بخصوصياتها وتشع على المحيط الخارجي بما تمتلكه من مخزون مادي ولا مادي.

انقضى الموسم الصيفي في مدينة سوسة بعد تسجيل نسبة هامة من الوافدين قدّرت وفق الإحصاءات الرسمية التي كشفها محمد بو جدارية المدير الجهوي للسياحة، بنحو 814 ألف سائح وافد على النزل في سوسة القنطاوي، أما عدد الليالي المقضاة فقد بلغت 3920000 أي بزيادة بـ 7.1 بالمائة مقارنة بالسنة الفارطة.

السياحة التونسية حافظت على منوالها التقليدي الذي يعتمد على السياحة الكمية في النزل والإقامات الشاطئية رغم النداءات المتكررة التي يطلقها الخبراء والفاعلون في المجال لتنويع المنتوج السياحي

ولفت مندوب السياحة بسوسة في تصريح أدلى به مؤخرًا لإذاعة "اكسبراس أف أم" (محلية/خاصة)، إلى أن السوق التونسية تصدرت عدد السياح الوافدين على سوسة بنحو 249 ألف حريف خلال الموسم الصيفي 2024، تليها السوق الجزائرية بعدد 140 ألف حريف أي بنسبة 36 بالمائة من حصة الوافدين على سوسة، في حين وفد 97 ألف سائح من بريطانيا و49 ألف سائح من بولونيا وما يناهز 9.8 بالمائة من جملة الحرفاء كانوا من ذوي الجنسية الألمانية والبقية من جنسيات أخرى مختلفة.

استقطبت بعض الأنشطة الثقافية والرياضية والبيئية السياح الوافدين في فضاءات خارج النزل والإقامات، غير أنها لم تكن الوجهة الهدف لأغلب الوافدين عبر وكالات الأسفار حتى أنهم حافظوا على المسالك السياحية التقليدية نفسها التي جُبلوا عليها منذ عقود من زيارة لبعض المعالم الأثرية والأسواق التقليدية والأماكن الترفيهية البحرية والبرية والاقتصار على الاستهلاك داخل فضاء النزل بعيدًا عن الفضاءات المفتوحة خارجه.

ورغم النداءات المتكررة لإدماج السائح الأجنبي في مسالك المجتمع المحلي في عمق البلاد حتى يكتشف ثراء هذه الربوع، إلا أن المحاولات كانت ضعيفة إلى حد اليوم، ولاحظنا خلال السنوات الأخيرة تنامي عدد الوافدين من السياح الذين يفضلون الإقامة خارج النزل أي في بيوت الضيافة الغابية والجبلية وبين أسوار المدن العتيقة وفي المنتجعات الصحية غير أن النسبة لا تزال دون المأمول.

رغم النداءات المتكررة لإدماج السائح الأجنبي في مسالك المجتمع المحلي في عمق البلاد حتى يكتشف ثراء هذه الربوع، إلا أن المحاولات كانت ضعيفة إلى حد اليوم والنتائج لا تزال دون المأمول

تحدث محمد هلال الباحث في المجال السياحي لـ"الترا تونس" قائلاً: "في دراستنا لتنمية القطاع السياحي بتونس منذ الاستقلال، اعتمدنا مقاربة منظومية تركز على تفاعل المتدخلين، والتي لها تأثيرات على تشكل المجالات السياحية، فالمنظومة السياحية التي تشكلت منذ الستينيات وسيطرت عليها وكالات الأسفار العالمية أنتجت وجهة تونسية مختصة في السياحة الشاطئية ووصلت إلى أزمة منظومية لتغير الطلب السياحي من جهة ولعدم تأقلم الإدارة مع المعطيات الجديدة".

وتابع الباحث في المجال السياحي: "المنظومة السياحية بتونس أصبحت ملزمة بالتأقلم لتترك الوجهة "الأم تونس" مكانها لوجهات ترابية ذات خصوصية والتي لا يمكن أن تنجح إلا بإدماج الفاعلين المحليين في تكوينها وتسويقها".

 

السياحة في تونس
السوق التونسية تصدرت عدد السياح الوافدين على سوسة خلال صائفة 2024 (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

ويضيف محدثنا قائلاً: "السياحة الكمية تطورت في الثلاثينيات أي بعد الحرب العالمية الثانية وهي مرتبطة بالمجتمع الاستهلاكي، ففي تلك الفترة تم تطويرها من طرف وكالات الأسفار العالمية التي تحجز بأعداد هائلة في وسائل النقل وفي النزل ليتم التسويق في شكل دائري معلّب".

ويرى محمد بوهلال أن "تخطيط السياحة يجب أن يخرج من المناطق السياحية المنعزلة ويصبح على أساس الجهات أو المدن الكبرى وذلك عن طريق مخططات سياحة وترفيه على أسس ترابية يساهم فيها الفاعلون المحليون وهو ما يستوجب تطوير النقل والخدمات والبنية التحتية في الوجهات الجديدة والتخفيف من المخاوف الأمنية المبالغ فيها"، وفق قوله.

باحث في المجال السياحي: لـ"الترا تونس": المنظومة السياحية التي تشكلت منذ الستينيات وسيطرت عليها وكالات الأسفار العالمية أنتجت وجهة تونسية مختصة في السياحة الشاطئية وأصبحت اليوم ملزمة بالتأقلم

إن الترويج الجيد للسياحة التونسية أصبح فعالاً، خاصة عندما يكون المصدر هو شهادة السائح نفسه، فقد لاحظنا أن بعض الناشطين المشاهير على وسائل التواصل الاجتماعي ساهموا بشكل مباشر في نقل صورة البلاد، مشاهير ومؤثرون التصقوا بالمجتمع المحلي في عاداته وتقاليده وتعبيراته الثقافية والاجتماعية فكان صدى المجتمع يتردد فيما يبعثونه من صور ومحتوى سياحي عبر منصاتهم التواصلية وكانوا ينقلون للعالم تلك القصص والحكايات المحلية التي تنبع من عمق المجتمع دون تعليب أو وسائط أو توجيه.

ولنا في مثال على ذلك قصة الكاتب الرحالة المصري عمرو سليم، إذ حلّ هذا الشاب في تونس، على متن دراجة هوائية ليجوبها من الشمال إلى الجنوب باعثًا بذلك رسائل مكتوبة ومصورة للعالم بشأن مناقب البلاد وجمالها وخصوصياتها الثقافية.

 

السياحة في تونس
الرحالة المصري على دراجته الهوائية في كورنيش سوسة عبّر عن انبهاره بالترحاب الذي تلقاه من التونسيين (ماهر جعيدان/الترا تونس)

 

أحبّ الشاب المصري عمرو سليم مهندس الكهرباء، ركوب الدراجة الهوائية، وألّف في كتب أسفاره من ذلك "رحالة المحروسة" و"يوميات رحال" و"رحلة الجنوب"، وزار الأردن والسعودية وجاب العديد من المدن فيهما وقد وثق رحلاته بالكتابة والصورة.

التقى "الترا تونس" بالرحالة عمرو سليم في كورنيش سوسة، وكان يمتطي دراجته بعد أن حل في تونس وتوجه إلى كاب أنجيلا أقصى نقطة في القارة الإفريقية بولاية بنزرت وبعدها توجه نحو مدينة الحمامات ثم القيروان ليشارك في احتفالات المولد النبوي الشريف في جامع عقبة ابن نافع ثم حلّ بسوسة ليتوجه بعدها نحو المنستير والمهدية والجم وصفاقس وصولاً إلى جزيرة جربة.

الرحالة المصري عمرو سليم زار تونس وتحدّث لـ"الترا تونس" عن حضوره احتفالات المولد النبوي الشريف، وما اكتشفه من مشاهد طبيعية في مختلف الولايات التونسية وخصوصياتها الثقافية

مثل هذه الرحلات المكّوكية تفتح الآفاق أمام السائح ليكتشف تونس في تفاصيلها الدقيقة، حتى أن الشاب عمرو سليم دأب على وصف رحلاته بدقة في كتاباته في شكل "حدوثة" مضمنة المعلومات التاريخية وموثقة بالشهادات والمعاينات ومليئة بالمقارنات بين الخصائص المختلفة للمجتمعات المحلية.

ومن بين ما كشفه لنا الرحالة عمرو سليم مما عايشه في مدن تونسية انبهاره في مدينة القيروان باحتفالات المولد النبوي الشريف، وقارنه بأجواء السيدة زينب في القاهرة، كما تحدث عن الحرية في الأماكن العامة في تونس واعتبرها من المظاهر الجميلة، كما تأثر بالمشاهد الطبيعية والعمرانية الرائعة في سيدي بوسعيد، وعبّر عن انبهاره بالمعاملة التي تلقاها من طرف بعض التونسيين البسطاء الذين رحبوا به خلال جولته بالدراجة باعتباره سائحًا عربيًا.

كل ما لمسناه من مشاعر، خلال تحدثنا إلى هذا الشاب الرحالة، يدعونا إلى تطوير السياحة التونسية نحو هذا الاتجاه الذي يكشف عمق المجتمع المحلي فيدرّ عليها منفعة مباشرة بتطوير البنية التحتية والخدمات وخلق دورة اقتصادية ينتفع بها المواطن مباشرة دون استئثار من لوبي رأس المال المحتكر للقطاع السياحي في دورة مغلقة ينتفع بها شركاء رأس المال فقط.

 

 

وبمناسبة اليوم العالمي للسياحة انتظمت في مدينة سوسة تظاهرتان إحداهما في جهة القنطاوي فكانت وفيّة للمنظومة السياحية التقليدية التي تستثمر في البيئة والمناخ لتعزيز الوجهة السياحية عبر الإقامة في المنتجعات والنزل واستجلاب السياح بشكل كمي، في حين انتظمت الثانية في فضاء المدينة العتيقة بسوسة داعية من مؤسسات الدولة الانتباه إلى الفضاءات السياحية والأثرية والإقامة في البيوت ذات الطابع التقليدي التونسي داخل نسيج المدينة وأسوارها وتغيير التشريعات بما يتماشى مع طبيعة التطور نحو استقطاب السائح في بيوت الضيافة.

واعتبر الناشط في المجال الثقافي عمر البلهوان في حديثه مع "الترا تونس"، أن "دعم دور الضيافة والإقامات في المدينة العتيقة يُحيي الخصوصية التونسية ويساهم في تشجيع النشاط التجاري فيها وينمي الصناعات التقليدية إذ لا بد من قرارات تشريعية ثورية تدمج هذه الإقامات ضمن هيكل إداري حكومي حتى تعترف به هياكل الدولة ويجلب المنفعة الاقتصادية والمالية المطلوبة" وفق قوله.

وأضاف البلهوان أن "هناك في تونس أكثر من 2200 بيت ضيافة لكن 170 منها فقط قانونية ويعود الإشكال إلى التراتيب التشريعية والقانونية في كراس الشروط"، حسب تقديره.

ناشط في المجال الثقافي لـ"الترا تونس": لا بد من قرارات تشريعية ثورية لدعم دور الضيافة والإقامات في المدينة العتيقة وهو ما من شأنه إحياء الخصوصية التونسية وتنمية الصناعات التقليدية

كما أشار عمر البلهوان إلى لزوم توفير آليات جديدة لتطوير السياحة في تونس ووجوب الخروج من منوال سياحي عماده النزل وكأنها "ثكنات" وفق توصيفه.

وشدّد عمر البلهون على أن "تنويع المشهد الثقافي والتراثي من تظاهرات ومتاحف منزلية وإكسابها الصيغة القانونية التي تؤمن وجودها وتضمن بقاءها يساهم في تطوير السياحة"، كما أشار إلى أن "المدينة العتيقة بسوسة مثلاً تضم 100 معلم أغلبها مغلق ولو تم العمل على الحفاظ عليها لتغير المكان نحو الأفضل"، حسب قوله.

إن المنوال السياحي المعتمد لايزال يشتغل وفق آليات قديمة عطلت تطويره وتنميته ناهيك عن إشكاليات أخرى تتعلق بالخدمات واللوجستيك والبنية التحتية، ورغم ما ذكرناه فإن الوجهة التونسية لاتزال تحتل مكانتها ضمن صراع العمالقة في المجال السياحي، فالمناخ التونسي يبقى العامل الأقوى في تعزيز ثقة الحريف.

 

واتساب