في شهر جويلية/يوليو من كل صيف ينتظر جمهور سوسة وزائروها كرنفال أوسّو التاريخي الذي تأسس منذ 1958 إثر الاستقلال. ويعد مهرجان أوسو بسوسة أحد أهم التظاهرات التي تنتظم بالجمهورية التونسية ويبدو أن عمقه التاريخي جعل منه مناسبة احتفالية وطنية تحظى بالاهتمام تنظيميًا، خاصة وأنه أعطى لجوهرة الساحل سوسة طابعًا مميزًا في فصل الصيف وصارت المدينة بفضله قبلة للمصطافين من الداخل والخارج.
في شهر جويلية من كل صيف ينتظر جمهور سوسة وزائروها كرنفال أوسّو التاريخي الذي يعدّ أحد أهم التظاهرات في تونس ويبدو أن عمقه التاريخي جعل منه مناسبة احتفالية وطنية تعطي جوهرة الساحل طابعًا مميزًا كل صائفة
وشيئًا فشيئًا صار الكرنفال رمزًا للاحتفالية. وتمرّ فعاليات المهرجان الاحتفالية بشاطئ بوجعفر وتسخّر له جميع الإمكانيات المادية لإنجاحه وذلك بإنجاز عربات مجسمة للمؤسسات العمومية والخاصة، ويوشّح بفرق موسيقية ونحاسية واستعراضية ويزيّن بلوحات فنية وتشكيلية متنوعة.
رجال صنعوا هذا المهرجان عبر التاريخ الحديث لسوسة فارتبط بالموروث الحضاري المادي واللامادي لجهة الساحل خاصّة واكتسب على مرّ العقود حاضنة شعبية واسعة ثابتة وفية له.
مهرجان أوسّو بقي وفيًا لذاكرة الكبار من المؤسسين الذين توارث عنهم جيل جديد تجربتهم التي لا تزال مبهرة بعد مرور 61 دورة من هذا الاحتفال الصيفي الأبرز في الساحل التونسي
مهرجان أوسّو بقي وفيًا لذاكرة الكبار من المؤسسين الذين توارث عنهم جيل جديد تجربتهم التي لا تزال مبهرة بعد مرور 61 دورة من هذا الاحتفال الصيفي الأبرز في الساحل التونسي.
في مساء السبت 27 جويلية/يوليو مرّ الكرنفال في شوارع سوسة كعادته على طول كورنيش سوسة قبالة شاطئ بوجعفر مرورًا بشارع الحبيب بورقيبة.
على غير العادة تقلّصت عروض الكرنفال في هذه الدورة وزادها التنوير العمومي الخافت مسحة من الظلمة حتى بدا الكرنفال وكأنه معدّ لأهل المنصة الشرفية فقط بعد أن مرّت الفرق المشاركة مرورًا صامتًا غير عابئة بالجمهور المترامي يمنة ويسرة
الآلاف من التونسيين وقفوا على جنبتي الطريق استعدادًا لفرجة مميّزة وشيّقة، لكن على غير العادة تقلّصت العروض وزادها التنوير العمومي الخافت مسحة من الظلمة حتى بدا الكرنفال وكأنه معدّ لأهل المنصة الشرفية فقط بعد أن مرّت الفرق المشاركة مرورًا صامتًا طيلة مسار الكرنفال غير عابئة بالجمهور المترامي يمنة ويسرة وهو ما خلّف بعض اللوعة في نفوس الجمهور الذي وقف سندًا للكرنفال عبر التاريخ وهو ما عدّه عديد المشاهدين والمتفاعلين إخفاقًا فنيًا وتقنيًا في الإعداد خاصّة مع غياب التنشيط المحترف للجمهور الحاضر باعتباره شريكًا في الفرحة كما كان عليه في الدورات السابقة.
كان لنا لقاء مع مساهمين مباشرين في تأثيث هذا الكرنفال ومن بينهم الممثل بوراوي الوحيشي الذي يتغيب للدورة الثانية على التوالي عن مشاركته المتمثلة في تقمص شخصة "أوسّو"، فكان المحرك والمنشط والمساهم في فرحة أطفال الساحل بحركاته ورقصاته ونداءاته وشبهه الشديد بفسيفساء إله البحر المعروض في متحف سوسة الأثري.
تحسّر بوراوي الوحيشي الذي دأب على تقمص دور شخصية "أوسّو" في الكرنفال قائلًا: "كان كرنفال أوسّو احتفالًا متميزًا حقًًا في السابق.. يا ليته يستعيد بريقه فيكون الكرنفال محفلًا حضاريًا حقيقيًا"
تحدّث إلينا بوراوي الوحيشي قائلًا: "كان كرنفال أوسّو احتفالًا متميزًا وكنت ممتنًا لتبني شخصية أوسّو بعد أن عهّدني بها الحاج عبد الحفيظ بوراوي مؤسس المهرجان خلفًا للقدير حامد زغدان الذي كان ذا طابع فكاهي. كنت أستعد إلى هذا اليوم من شهر جويلية/يوليو إما بإطالة اللحية منذ شهر مارس/آذار أو باستعمال لحية اصطناعية، وكنت أختار بدقة اللباس والرداء وأطلق الصيحات هنا وهناك حتى تربى جيل كامل على صولاتي في كرنفال ساهم ثقافيًا وسياحيًا في تطور مدينة سوسة وارتقائها بإبرازه خصوصيات ثقافية للساحل التونسي وتقاليده وعاداته في الأفراح وموسيقاه وفرقه الشعبية التراثية ومحافله الجماعية، ولم يكن أحد يرفض دعوة الحاج عبد الحفيظ بوراوي المؤسس للمشاركة في الكرنفال".
وتحسّر الوحيشي على ماضي الكرنفال ومؤسّسيه قائلًا: "يا ليت يعود إلينا عبد الحفيظ آخر والزرقاطي آخر وزغدان آخر، ونعود إلى مكونات شخصيتنا التاريخية الأصيلة فيكون الكرنفال محفلًا حضاريًا حقيقيًا".
الإعلامي صالح السويسي الذي واكب الدورات الأخيرة في كرنفال أوسّو يحدثنا عن مهرجان أوسّو قائلًا: "كرنفال أوسّو أو استعراض أوسّو أو مهرجان أوسّو، كلها تسميات لحدث عظيم ينتظم في سوسة ويمثّل جزءًا هامًا من تاريخ تونس، تظاهرة ارتبطت بفصل الصيف، ما جعل جوهرة الساحل قِبلة التونسيين والأجانب الذين يُبرمجون زياراتهم مع موعد انطلاق الكرنفال الأضخم في شمال إفريقيا"، وفقه.
ويضيف السويسي: "لهذا الكرنفال تاريخ يمتد لأكثر من ستة عقود إعدادًا وتنظيمًا وإنجازًا. أجيال تعاقبت على تنظيمه وتطويره وجعله أيقونة التظاهرات الثقافية ذات البعد الشعبي والجماهيري في تونس. ورغم توقفه سنة 2011، عاد الكرنفال ليجمع من حوله مئات الآلاف من المتابعين من كل أنحاء تونس ومن خارجها أيضًا، حيث استعاد حضوره سنة 2015 من خلال برمجة بعض العروض في الشوارع، فيما كان الرجوع الرسمي سنة 2016 بكرنفالٍ وأيام تنشيطية".
الإعلامي صالح السويسي: "لهذا الكرنفال تاريخ يمتد لأكثر من ستة عقود إعدادًا وتنظيمًا وإنجازًا. أجيال تعاقبت على تنظيمه وتطويره وجعله أيقونة التظاهرات الثقافية ذات البعد الشعبي والجماهيري في تونس"
ويتابع حديثه قائلًا: "سنة 2017 اِنتظم كرنفال أوسّو على مستوى كبير، وبمشاركات أجنبية وإطلاق شماريخ بمواصفات فنية عالمية ولأول مرة في تونس وشمال إفريقيا يتمّ استعمال نوع الشماريخ Bombe aquatic وBombe Palmiers والتي أشرف على إطلاقها خبراء من أوروبا، كما عاش مئات الآلاف نفس الأجواء سنة 2018".
واستدرك السويسي قائلًا: إلا أن الكرنفال توقف مرة أخرى بسبب جائحة كورونا ليعود سنة 2022 في دورة متعثّرة ثم جاءت دورة 2023 والتي شهدت بالإضافة لتقاليد المهرجان تنظيم عرض مجاني للفنان صابر الرباعي تلاه عرض لفنان الراب بلطي في نفس المكان في دورة 2024".
واعتبر أنّ كرنفال أوسو تأسّس ليكون منارة ثقافية وحضارية تروي تاريخ المدينة وحاضرها وتستشرف مستقبلها من خلال العربات التي تُجسّم كل نواحي الحياة في الجهة، مع استضافات مشاركات أجنبية تضفي عليه جمالية أخرى.
وتابع محدث "الترا تونس": "أكثر من 60 عامًا من التأسيس والإنجازات والتطوير حتى تبقى هذه التظاهرة مكسبًا إبداعيًا، ليس لأبناء سوسة فقط بل لكل التونسيين"، معقبًا: "وحين نتحدث عن الإبداع فإننا لا نجانب الصواب حيث يعكف عشرات الفنانين كلٌّ في اختصاصاته أشهرًا طويلة في إعداد العربات والمجسمات التي تجوب كورنيش سيدي بوجعفر، وهو ما دأب عليه المنظمون كل عام إلى حدود آخر دورة قبل حائجة كورونا ليتم التعويل في الدورات اللاحقة على نفس النماذج مع إدخال بعض التحسينات أو إعادة التلوين".
وختم السويسي حديثه بالقول: "سيبقى كرنفال أوسو شامخًا يذكّر الأجيال الجديدة بتاريخ تليد لهذا البلد يفخرون به ويحفزهم على بناء مستقبل أفضل".
من جهته، قال الفنان غازي حسني الذي شارك لدورات عديدة منذ أكثر من 20 سنة في تأثيث الكرنفال، في حديث مع "الترا تونس": "بابا وسّو" كما تنطقها عجائزنا وأمهاتنا وما لها من تعظيم وتقدير من قبلهم، هو استعراض يندرج ضمن فنون الشارع، أسسه ووضع ركائزه المرحوم عبد الحفيظ بوراوي، ذاك الرجل الذي كان شغله الشاغل هو الرقي الفكري للفرد والمجتمع والسعي إلى تشجيع كل ما هو نشاط ثقافي، والمرحوم محمد الزرڨاطي رجل المسرح العظيم الذي يمارس أرقى أنواع التعبير على الخشبة وفي لقاء مباشر مع الجمهور".
الفنان غازي حسني: "استعراض أوسّو تقليد دأبت عليه جوهرة الساحل ليكون موعدًا سنويًا ينتظره أهالي مدينة سوسة بكل شغف وفكرته مستوحاة من موروث جماعي تراثي.. هو أسطورة تتناقلها الأجيال المتعاقبة جيلًا بعد جيل"
وأضاف: "استعراض أوسّو تقليد دأبت عليه جوهرة الساحل ليكون موعدًا سنويًا ينتظره أهالي مدينة سوسة بكل شغف وكأنه موعد غرامي مع حبيب، حتى أنّ بعض العائلات قد وضعت له بعض الطقوس تمارسها يوم الاستعراض، كتحضير مأكولات ومشروبات وأنواع من الحلوى، وتتنقل من منازلها لتأخذ لها مكانًا على الشاطئ أو بالساحة التي أصبحت اليوم نزل أبو نواس بوجعفر، لمتابعة الاستعراض وتمضية كامل اليوم في فرح وبهجة".
ويتابع محدث "الترا تونس": "استعراض أوسّو ولو أن فكرته مستوحاة من موروث جماعي تراثي، هو أسطورة تتناقلها الأجيال المتعاقبة جيلًا بعد جيل، أسطورة تسقط منها ويضاف إليها بعض التفاصيل شأنها شأن أيّ خرافة من وحي الخيال"، مضيفًا أنّ استعراض أوسّو مثّل منذ انطلاقه حدثًا هامًا محليًا ودوليًا، حيث كان حدثًا ثقافيًا بامتياز، وسياحيًا عالميًا حيث أنّ بعض السياح كانوا يزورون مدينة سوسة خصيصًا لمتابعة هذا الحدث الذي لم يكن مجرد حدث عابر"، وفقه.
كما يشير إلى أنّ "هذا الاستعراض كان يُحضّر له قبل عدة شهور، وهو التقاء لكل أنواع الفنون، أولها الفن المسرحي حيث أنه يستوجب سيناريو وحضورًا فعليًا للجسد وفن التنكر وصناعة الأقنعة وفن النحت والفن التشكيلي والغناء والرقص وفن صناعة الأزياء وغيرها.
وتابع: "يلتقي جل المثقفين والفنانين والحرفيين لتتظافر الجهود وتتقد الأفكار فيخرجوا لنا استعراضًا بهيجًا يسرد على أبصارنا وأسماعنا موروثًا ثقافيًا عظيمًا منذ تأسيس أول حجر لجمهورية قرطاج إلى يومنا الحالي، بإخراج احترافي. كما أنه يمثل نشرة إخبارية للتعريف بالمؤسسات الاقتصادية ومدى تطورها وخاصة المنشآت السياحية التي كانت تتميز بها مدينة سوسة لطابعها السياحي حتى أنه أصبح فيما مضى استعراضًا دوليًا بمشاركة عدة فرق استعراضية من عدة دول من العالم".
الفنان غازي حسني: "يلتقي جل المثقفين والفنانين والحرفيين لتتظافر الجهود وتتقد الأفكار فيخرجوا لنا استعراضًا بهيجًا يسرد على أبصارنا وأسماعنا موروثًا ثقافيًا عظيمًا منذ تأسيس أول حجر لجمهورية قرطاج إلى يومنا الحالي، بإخراج احترافي
ويقصّ الفنان لـ"الترا تونس" قائلًا: "منذ صغري كنت مولعًا بالألوان والمواد والأشغال اليدوية، وكنت أنشط بنادي الأطفال بجبانة الغربة، وأتذكر أنّنا كنا مولعين بصنع أقنعة تنكرية وعرائس عملاقة كانت عنصرًا من عناصر الاستعراض، وقد مثلت تلك الأنشطة أول مصافحة لي، ولو بشكل غير مباشر، مع التحضيرات للاستعراض قبل عدة أشهر من تاريخه".
ويستطرد القول: "بعد ذلك أصبحت من رواد دار الشباب بسوسة بنادي الرسم والبراعات، التي كانت تتحول في بداية شهر جوان/يونيو إلى ورشة مفتوحة لصناعة الأزياء والديكورات المؤثثة للاستعراض، كانت أجواءً مشحونة بالابتكار والفنون والإبحار في عوالم عدة من أجملها عالم الألوان والبهجة".
ويعقّب محدث "الترا تونس": "كان التجول بين الورشات وبين العربات وهي في طريق الإنجاز يمثل لي رحلة خارج الزمن للقاء شخصيات خرافية وتاريخية. كان الصيف بالنسبة لي وللعديد من سكان مدينة سوسة يتخلص في استعراض أوسو، وكنت أواكب ذلك كل سنة، وكنت أشارك بجميع الورشات كمتطوع، وأذكر من بين القامات الكبرى التي كان لها الأثر العظيم في إنجاز العربات والتي يتناساها اليوم البعض إما سهوًا أو عمدًا، الأستاذ الكبير أحمد الباروني ومصطفى الدنڨزلي وهاشم بوغطاس، وللعلم فإن البعض من تصاميمهم وأعمالهم إلى يومنا هذا يعاد ترميمها كل سنة وتكون من بين العربات الأولى في مقدمة الاستعراض.
الفنان غازي حسني: كرنفال أوسّو يمثل جزءًا من ذاكرتنا في سوسة.. لكنه في السنوات الأخيرة تدهور، وهو ما يستوجب منّا تشخيصًا معمقًا حتى يتعافى ويعود أحسن مما كان
ويردف الفنان غازي حسني، في حديثه مع "الترا تونس": "بمرور الزمن ولاهتمامي الكبير بهذا الحدث العظيم وبالشأن الثقافي والإبداعي في ولاية سوسة، أصبحت أشارك المنظمين في اجتماعات التحضير والنقاشات الجادة والحادة في بعض الأحيان والتي تصل إلى التشنج غيرةً على هذا الموروث وسعيًا إلى إحداث الإضافة عن كرنفال السنة الفارطة".
ويؤكد: "استعراض أوسّو بالنسبة لي يمثل جزءًا من ذاكرتي، وجزءًا مني كما هو بالنسبة للعديد من الفنانين الغيورين على ولاية سوسة. هو تاريخ عريق وتجربة رائعة.. لكنه في السنوات الأخيرة تدهور، وهو ما يستوجب منّا تشخيصًا معمقًا حتى يتعافى ويعود أحسن مما كان"، وفق تعبيره.