تكافح تونس لخفض اعتمادها على الوقود الأحفوري ورفع حصّة مصادر للطاقة المتجددة في مزيج توليد الطاقة الكهربائية في البلاد.
يعتمد إنتاج الكهرباء في تونس بشكل رئيسي على الغاز الطبيعي (حوالي 97%)، معظمه مستورد من جارتها الجزائر، وهو ما دفع الحكومة إلى التفكير في حلول طاقية جديدة مستفيدة من التطورات السياسية التي يعرفها العالم منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فيفري/شباط 2022.
تعتمد تونس أساسًا على الغاز الطبيعي المستورد في معظمه من الجزائر لإنتاج الكهرباء وهو ما دفع الحكومة إلى التفكير في حلول طاقية جديدة
ويراهن البلد الواقع شمال إفريقيا على الهيدروجين الأخضر لتعزيز أمنه الطاقي وجذب استثمارات جديدة. ورغم أنّ الهيدروجين الأخضر يبدو، نظريًّا، بديلًا مناسبًا مقارنة بخيارات أكثر تلويثًا للبيئة، تُثير التبعات البيئية والاجتماعية لهذا التوجه الحكومي جدلاً واسعًا بين مساند لإنتاج الهيدروجين الأخضر ومتخوّف من تأثيره على الموارد المائية والأمن الغذائي بالبلاد.
وأطلقت الحكومة التونسية في أكتوبر/تشرين الأوّل 2023، استراتيجية وطنية للهيدروجين الأخضر، تم تطويرها بالتعاون مع الوكالة الألمانية للتعاون الدولي (GIZ)، وهي تخطط بموجبها لتصدير أكثر من 6 ملايين طن إلى أوروبا بحلول عام 2050.
الحكومة التونسية أطلقت استراتيجية وطنية للهيدروجين الأخضر تخطط بموجبها لتصدير أكثر من 6 ملايين طن إلى أوروبا بحلول عام 2050
والهيدروجين الأخضر، هو نوع من الوقود الناتج عن عملية كيميائية يستخدم فيها تيار كهربائي ناتج عن مصادر متجددة لفصل الهيدروجين عن الأكسجين في الماء، وبالتالي تنتج طاقة دون انبعاث غاز ثاني أكسيد الكربون بالغلاف الجوي المسبب للاحتباس الحراري.
-
الهيدروجين الأخضر.. "ضرورة ملحة" أم "تبعية طاقية"؟
مع انحسار الاستثمارات الأجنبيّة في مجال الطاقة، تسعى الحكومة التونسية للاستفادة من الزخم الكبير الذي أحدثته مشاريع الهيدروجين لحجز مكان في سوقه الواعدة من خلال استقطاب الشركات الطاقية العالمية.
وخلال سنة 2024، وقّعت تونس مذكرات تفاهم مع شركات أوروبية وسعودية وأردنية لتطوير مشاريع الهيدروجين الأخضر بعدد من الولايات التونسية.
مختص في الطاقة والهيدروجين الأخضر لـ"الترا تونس": الهيدروجين الأخضر يعد ضرورة ملحة لتسريع وتيرة الانتقال الطاقي في تونس
واعتبر المختص في قضايا الطاقة والهيدروجين الأخضر، شكري العسلوج، أن "الهيدروجين الأخضر ضرورة ملحة لتسريع وتيرة الانتقال الطاقي في تونس".
وأضاف العسلوج، في حديثه لـ"الترا تونس"، أنّ "الهيدروجين باعتباره حاملاً للطاقة سيساهم في التغلب على مشاكل عدم انتظام وموثوقية الطاقة الناتجة عن المصادر النظيفة مثل الشمس والرياح".
وأشار ذات المصدر إلى أن مشاريع الهيدروجين الأخضر يمكنها تعزيز أوجه التعاون بين بلدان المغرب العربي في شراكتها مع البلدان الأوروبية التي تتفاوض غالبًا ككتلة واحدة في سعيها إلى تأسيس "شراكات هيدروجينية".
باحث في المعهد العابر للقوميات: الرهان على الهيدروجين الأخضر يتناقض مع الواقع التونسي الذي يعاني من عجز طاقي متفاقم وتبعية غذائية هيكليّة
من جهته، حذّر الباحث في المعهد العابر للقوميات، صابر عمار، من أنّ "الرهان على الهيدروجين الأخضر يتناقض مع الواقع التونسي الذي يعاني من عجز طاقي متفاقم وتبعية غذائية هيكليّة".
وأضاف عمّار أنّ هذه المشاريع تعزّز التقسيم الدولي بين دول الجنوب التي تكتفي بتصدير المواد الخام منخفضة التكلفة مقابل استيراد مواد مصنعة عالية التكلفة من دول الشمال.
وأوضح المتحدث ذاته أن تونس، التي مُنحت وفرة في الطاقة الشمسية، سيُنظر إليها باعتبارها موردًا لجزيئات الطاقة الخضراء لخدمة مراكز الطلب الصناعي في دول الشمال، بدلاً من النظر إليها باعتبارها موقعًا محتملاً للتصنيع الأخضر في حد ذاته.
عضو مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة لـ"الترا تونس": الحماس الحكومي لمشاريع الهيدروجين لن يعود بالفائدة على التونسيين كما يروج له بل سيكرّس تبعية طاقية نحو دول الشمال
من جانبه، اعتبر عضو مجموعة العمل من أجل ديمقراطية الطاقة، إلياس بن عمار، أن الحماس الحكومي لمشاريع الهيدروجين "لن يعود بالفائدة على التونسيين كما يقع الترويج له بل سيكرّس تبعية طاقية نحو دول الشمال التي تضررت من الحرب الروسية الأوكرانية".
وأبرز بن عمار، في تصريح لـ"الترا تونس"، أن "تصدير الهيدروجين الأخضر في العام 2050 يأتي بفاتورة باهظة، إذ ستستعمل أكثر من 90 غيغاوات من الطاقات المتجددة، كما ستستغل مساحات شاسعة من الأراضي تناهز 500 ألف هكتار".
-
المياه تحت الضغط
تسود المخاوف من أن يؤدي إنتاج الهيدروجين الأخضر إلى رفع حدّة الضغوط المائية في بعض الولايات التونسيّة لأن المناطق الأكثر تعرضًا لأشعة الشمس هي غالبًا الأكثر جفافًا.
إلياس بن عمار لـ"الترا تونس": مشاريع الهيدروجين الأخضر في تونس ستستنزف كميات كبيرة من المياه تعادل ما يستهلكه أكثر من 400 ألف مواطن تونسي
ويقول إلياس بن عمار، الذي يقود صحبة عدد من الناشطين البيئيين جهودًا لوقف مشاريع الهيدروجين الأخضر في تونس، أن بلاده التي تعاني من الشح المائي، ستستنزف كميات كبيرة من المياه تعادل ما يستهلكه أكثر من 400 ألف مواطن تونسي لإنتاج الهيدروجين الأخضر الذي سيصدر نحو الخارج.
ويحتاج إنتاج الهيدروجين الأخضر إمدادات ثابتة من المياه العذبة، وهو أمر يسهل توفيره إلى حد ما في مناطق مثل أوروبا وأميركا الشمالية، ولكن هذه الميزة غير متوفرة في منطقة شمال إفريقيا، إذ ستضطر تونس إلى توسيع مشاريع تحلية مياه البحر الحالية لتوفير المياه لعملية الإنتاج.
وأكّد المنسق التنفيذي للمرصد التونسي للمياه علاء المرزوقي، أن تحلية المياه لتغطية الاحتياجات المائية لمشاريع الهيدروجين الأخضر يعدّ "حلاً مكلفًا وغير ناجع".
منسق مرصد المياه لـ"الترا تونس": تحلية المياه لتغطية الاحتياجات المائية لمشاريع الهيدروجين الأخضر يعدّ حلاً مكلفًا وغير ناجع
وأضاف علاء المرزوقي في تصريح لـ"الترا تونس"، أن الإمكانيات المالية والطاقية المحدودة لتونس تجعل ضخ مياه التحلية في شبكات مهترئة عبئًا كبيرًا على الدولة التي تجاهلت حلولاً أكثر نجاعة وأقل تكلفة على غرار صيانة الشبكات وترشيد الاستهلاك في القطاع الزراعي ولدى المؤسسات الصناعية الكبرى.
ويهدّد الإجهاد المائي معظم القطاعات الاقتصادية في تونس التي لجأت إلى اعتماد نظام الحصص في توزيع مياه الشرب، وإنشاء محطات جديدة لتحلية مياه البحر في مسعى منها لإنعاش مواردها المائية الشحيحة.
ويُقلّل الخبير في قضايا الطاقة والهيدروجين الأخضر، شكري العسلوج، من تأثير مشاريع الهيدروجين على الموارد المائية، معتبرًا أن "تونس ستضطر لاعتماد تحلية مياه البحر بالهيدروجين أو بدونه".
خبير في الطاقة والهيدروجين الأخضر لـ"الترا تونس": تونس ستضطر لتحلية مياه البحر بالهيدروجين أو بدونه وتوسيع نطاق مشاريع تحلية المياه سيخفّض تكلفتها على شركة "الصوناد"
وأوضح العسلوج في تصريحه لـ"الترا تونس" أنّ توسيع نطاق مشاريع تحلية مياه البحر في تونس سيخفّض تكلفتها على شركة استغلال وتوزيع المياه الحكومية (الصوناد) تطبيقًا لمبدأ اقتصاد الحجم (وفقًا لهذا المبدأ، يبدأ متوسط تكاليف منتج ما في الانخفاض مع زيادة الإنتاج).
-
أرقام "غير واقعية"!
تبدو الأرقام الواردة في الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين "مُفرطة في التفاؤل" بشأن التأثير المرتقب لهذا الوقود الأخضر على الاقتصاد التونسي.
وتهدف الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين الأخضر إلى إنتاج 8.3 مليون طن من الهيدروجين الأخضر ومشتقاته في أفق 2050، منها 2.3 مليون طن موجهة إلى السوق المحلية و6 مليون طن موجهة إلى التصدير بقيمة استثمارات جملية تناهز 120 مليار يورو، ومتوقعة إحداث 430 ألف موطن شغل جديد مباشر وغير مباشر.
منسق شبكة الشفافية في الطاقة والمناجم: طرق احتساب الأرقام الواردة في الاستراتيجية الوطنية للهيدروجين في تونس غير واضحة
واعتبر المنسق الوطني للشبكة التونسية للشفافية في الطاقة والمناجم، شرف الدين اليعقوبي، أن "طرق احتساب هذه الأرقام غير واضحة خصوصًا في ظلّ غياب حوار وطني بخصوص التحول في قطاع الطاقة في تونس".
وتابع اليعقوبي قائلاً: "رغم أن بلوغ الحياد الكربوني عبر مشاريع إنتاج الهيدروجين مازال في مرحلة النوايا ومذكرات التفاهم، تفتقر العديد من الأرقام الواردة في الاستراتيجية الوطنية إلى تفسيرات لمختلف التقديرات الواردة فيها".
وبدوره، يشكّك الباحث في المعهد العابر للقوميات، صابر عمار، في أرقام مواطن الشغل المذكورة في الاستراتيجية، معتبرًا أن "العدد مبالغ فيه".
وأبرز الباحث صابر عمار، أن إنتاج الهيدروجين الأخضر بالنسبة لبلد مثل تونس يعتمد أساسًا على تكنولوجيا مستوردة (المحللات الكهربائية والألواح الشمسية) وهوما يجعل هذه المشاريع تخلق وظائف لليد العاملة الأوروبية لا التونسية.
المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية: البلدان المصدرة للهيدروجين ستحتاج إلى البنية التحتية والمواد والعمالة الماهرة والتكنولوجيات من الخارج
ولا يقتصر التشكيك على النشطاء المحليين فقط، إذ قلّل أيضًا المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP)، وهو مركز أبحاث يقدم المشورة لوزارة الخارجية الألمانية، من الفوائد المتوقعة التي ستجنيها البلدان المصدرة للهيدروجين، خصوصًا أن هذه الأخيرة "ستحتاج إلى البنية التحتية والمواد والعمالة الماهرة والتكنولوجيات من الخارج".
ويضيف المعهد، في دراسة حول الجغرافيا السياسية للهيدروجين، أنه سيتعين على المستوردين "إيجاد توازن عادل - إذا كان موجوداً بالفعل - بين تشجيع الواردات واحترام المبادرات المحلية، ومنع التبعيّة النيوليبراليّة وعواقبها الضارة على اقتصادات المصدرين ومجتمعاتهم".
وفي جويلية/يوليو الماضي، انتقدت محكمة المدققين الأوروبية (مؤسسة أوروبية تمتلك صلاحية تدقيق البيانات المالية للاتحاد الأوروبي) استراتيجية الاتحاد الأوروبي للهيدروجين، معتبرة أن "أهدافها لعام 2030 غير واقعية ولا أساس لها من الصحة. والهدف الطموح المتمثل في إنتاج 10 ملايين طن من الهيدروجين النظيف سنويًا بحلول عام 2030 يفتقر إلى البحث الشامل ويدفعه الإرادة السياسية أكثر من التطبيق العملي".