تنويه: لقاء "الترا تونس" مع الحِرفي "عم علي الهمامي"، وهو رئيس الغرفة الوطنية لحرفيي ومصدري المرجان بتونس، كان منذ أيام قليلة قبل أن توافيه المنيّة الأحد 25 ديسمبر/كانون الأول 2022. نترحّم على روحه وليكُن التقرير التالي تكريمًا له.
المرجان شقيق اللؤلؤ وشقيق نُبوءة الكلام النقيّ الصفيّ. كلّ منهم يغادر أعماقًا ما قَصيّة، فضّية، نورانيّة نحو بُهَر الضوء وسُمُوّها الساطع، ويأتي من عالم آخر يلفّه جمر الماء ودروب بلا قرار من السكينة والهدوء. بعضه يُنضَّد كقصائد الشعر من أجل تجميل الجسد ومهامسته بالألوان وإعطائه منها باقات من ورد الطاقة التي يريد. أما الكلام فهو يرصّع جدران الروح فيطربها وينيرها ويجذلها ويجعلها أعلى من كل مقاييس الحياة.
المرجان، ذاك الكائن البحري الغريب الذي تتنامي أغصانه الطرية البلورية ذات اللون القرمزي الباذخ داخل إيقاع زمني خاص في أعماق أعماق البحر حيث يرقد هناك في شرنقات السكينة المثلى للوجود.
تروي الأساطير القديمة أن سيرانات البحر الجميلات التي كانت تغوي البحارة هي من علّمت عشاقها فنّ الغوص لاستخراج المرجان فانتشر لدى الصينيين القدامى والفراعنة واليونانيين وصُنعت منه الحلي والتمائم لدرء السحر وطلب تزكية النفس
وبخصوص المرجان تروي الأساطير القديمة أن سيرانات البحر الجميلات التي كانت تغوي البحارة تحت ضوء القمر هي من علّمت عشاقها والمنخطفة قلوبهم فنّ الغوص لاستخراجه والتنعّم بجماله الآسر، فانتشر لدى الصينيين القدامى ولدى فراعنة مصر القديمة ولدى اليونانيين والرومان وصنعت منه الحلي والتمائم والخرز لدرء السحر وطلب تزكية النفس، اعتقادًا منهم بأن المرجان تسكنه طاقة ربّانية يمكن أن تتسرب لجسد الإنسان عن طريق اللّمس أو التأمل.
المرجان يتوسد الشعاب المرجانية القديمة بالبحر الأبيض المتوسط وخصوصًا بحوضه الغربي وتحديدًا بالسواحل الشمالية التونسية. وتعدّ مدينة طبرقة عاصمة عالمية له، كما تعدّ تونس ثاني مصدّر له في العالم بمعدّل 8 أطنان سنويًا أي ما يمثّل 95% من جملة الكمية المستخرجة بعائدات تفوق 17 مليون دينار تونسي، وذلك وفق إحصائيات الإدارة العامة للصيد البحري بوزارة الفلاحة التونسية. وأغلب المادة المصدّرة موجهة لمدينة "توري تال قريغو" الإيطالية التي تستقبل أغلب مرجان العالم وتعيد تصديره في اتجاهات مختلفة وخصوصًا بالأسواق الشرقية كالهند والصين وباكستان.
في تونس لم يعرف قطاع المرجان استقرارًا ورواجًا مجتمعيًا إلا في سبعينات القرن الماضي عدا ذلك فإن هذا القطاع الحيوي قد شهد طيلة السنوات اللّاحقة خيبات وانكسارت عديدة عصفت بأفقه وأحلام الفاعلين فيه.
"عمّ علي الهمامي" واحدٌ من رجال المرجان في تونس وحارسٌ من حراس ذاكرته الطويلة، أو لنقل هو واحد ممن يحفظون قصص المرجان وفنون صياغته وتحويله إلى عطر منظور ومباهج للروح وجمال للجسد.
تعدّ مدينة طبرقة عاصمة عالمية للمرجان كما تعدّ تونس ثاني مصدّر له في العالم بمعدّل 8 أطنان سنويًا أي ما يمثّل 95% من جملة الكمية المستخرجة بعائدات تفوق 17 مليون دينار تونسي
"عم علي الهمامي" رجل جاوز السبعين من عمره لكنه مازال يتّقد حيوية والتزامًا بحبّ قديم وهبه قرابة النصف قرن من الزمن، التقاه "الترا تونس" بورشته الصغيرة بحي خالد بن الوليد بجهة "دوّار هيشر" من ولاية منوبة وهي ضاحية شعبية يحظى فيها عم علي وعائلته بكل تقدير واحترام.
كان الاستقبال كريمًا كأهله وكان عم علي ببرنسه البني يرتب الورشة ويترشّف قهوة الصباح على إيقاع بعض السجائر الفاخرة.
حدثنا شيخ المرجان قائلًا: "بدأت القصة أواسط سبعينات القرن الماضي وتحديدًا سنة 1979 حين كنت لا أزال شابًا بعد أدرس التكنولوجيا الصناعية بأحد المعاهد الفنية عندما انتقلت من النقش على الرخام إلى عوالم المرجان الرائعة التي كانت مجهولة بعض الشيء لدى عامة الناس في تونس، كما لم يكن المرجان من الاهتمامات الكبيرة لصنّاع المصوغ في تونس، فهو غير مطلوب لديهم بالشكل الكبير رغم عراقة حضوره لدى القدامى من النوميديين والبربر والرومان. والحقيقة كان ذلك بطلب من أحد الأصدقاء ممن يحترفون صناعة الحلي وكانت له تجارب ناجحة في مزج المرجان بالفضة والذهب وكان على بينة بشغلي على الرخام وبراعتي في المجسمات الصغيرة. وبدأنا في إعداد بعض الحلي المتميزة مثل الخواتم التي يزينها "فص برج بقلاوة" والقلائد النسائية التي تتدلى منها حبة إجاص والرجالية التي تتدلى منها حبة فلفل أحمر وبعض أنواع "السّبح" و"المشموم". ونجحنا في ذلك أيما نجاح وعمّ الخير على الجميع".
كان"عمّ علي الهمامي" واحدًا من رجال المرجان في تونس وحارسًا من حراس ذاكرته الطويلة، أو لنقل إنه كان واحدًا ممن يحفظون قصص المرجان وفنون صياغته وتحويله إلى مباهج للروح وجمال للجسد
كان "عم علي" يتحدث عن تلك البدايات بكثير من الحب والرضا عن النفس، قائلًا: "في البداية تمكنت من اقتناء بعض الأدوات البسيطة وأغلبها بميكانيكا يدوية ودخلت غمار التجربة بجميع أبعادها متخليًا عن مهنة أخرى عرضت علي بإحدى شركات النقل العمومي. وإلى جانب تسلحي بإرادة صلبة فقد ساعدتني زوجتي وكانت سندًا لي في إعداد الطلبيات الأولى التي كانت تأتينا من "سوق البِركة" (سوق الحلي والمصوغ بتونس العاصمة) وقد دامت تلك المرحلة سنتين. بعد ذلك تقدمت بملف من أجل استخراج رخصة بعث مشروع ورشة خاصة بالمرجان كانت الأولى من نوعها في الحي وفي المنطقة بأسرها ولا تزال إلى يومنا هذا قائمة الذات".
وتسرح ذاكرة "عم علي" إلى عقود خلت، أخذ قطعة من المرجان داعبها بين أصابعه قائلًا إنه "مع بداية سنة 1994 وبعد أن اشتد عود المشروع سافرت إلى إيطاليا من أجل الاطّلاع عما يحدث هناك في عالم المرجان على اعتبار أن إيطاليا هي صاحبة السبق في تحويله إلى صناعة واحتكارها الأسواق العالمية الخاصة به وهناك وقضيت مدة لا بأس بها بمدينة "بالارمو" زرت خلالها المصانع والتقيت الحرفيين واطلعت على آخر التقليعات في مزاوجة المرجان بالمعادن الأخرى. وعند عودتي لتونس اقتنيت مجموعة من الآلات الكهربائية المختصة في قصّ المرجان وثقبه وصقله التي دعمت بها المشروع وهي مازلت تعمل إلى حدّ اليوم".
الحرفي علي الهمامي لـ"الترا تونس": ثمن الكيلوغرام الواحد من المرجان الفاخر لا يتجاوز ثمنه في السبعينات والثمانينات الـ30 دينارًا تونسيًا أما اليوم يصل ثمن الكيلوغرام الواحد 22 ألف دينار
وحدثنا شيخ المرجان أيضًا أن "ثمن الكيلوغرام الواحد من المرجان الفاخر لا يتجاوز ثمنه في السبعينات والثمانينات الـ30 دينارًا تونسيًا أما اليوم فيصل ثمن الكيلوغرام الواحد 22 ألف دينار، كما توجد أنواع أخرى أقل جودة لا يتجاوز سعر الكيلوغرام منها 10 آلاف دينار".
وأوعز ذلك الغلاء إلى "غياب استراتيجيا وطنية تحمي الإنتاج المحلي من المرجان وترشّد الأسعار وتنظم السوق الداخلية من الغوص إلى البيع" مشيرًا إلى أن "المرجان التونسي يتعرض أغلبه إلى عمليات تهريب ممنهجة منذ أربعة عقود، فضلًا عن الغوص العشوائي وغير القانوني". وفي هذا الخصوص، تعرض عم علي الهمامي إلى لجوء الحرفيين الإيطاليين إلى مرجان تونس منذ 1975 وذلك بعد أن أغلقت السلطات الإيطالية شواطئها أمام غواصي المرجان بمقتضى قوانين تمنع النزول إلى الأعماق والتقاط المرجان لمدة 50 سنة حماية لهذه الثروة البحرية، مؤكدًا أن هذا اللجوء ضرب السوق التونسية وأضرّ بها على جميع المستويات مشيرًا إلى أن الإيطاليين يدفعون بالعملة الصعبة.
الحرفي علي الهمامي لـ"الترا تونس": المرجان التونسي يتعرض أغلبه إلى عمليات تهريب ممنهجة منذ أربعة عقود، فضلًا عن الغوص العشوائي وغير القانوني الأمر الذي ضرب السوق التونسية وأضرّ بها على جميع المستويات
وعن دوره في تكوين الأجيال، أكد محدثنا أنه في البداية علّم جميع أبنائه هذه الحرفة النبيلة وهم الآن ورغم الصعوبات المحيطة بالقطاع يحاولون مواصلة الرحلة بكل ثبات وهو فخور بهم وبإصرارهم وأحلامهم الفتية، كما علمّ العديد من الشباب التونسي الذي امتهن صناعة المرجان فيما بعد. وأضاف أنه قام برحلة تكوين إلى الجزائر سنة 1990 وهي الفترة الذهبية التي اهتم فيها الجزائريون بالحلي والحرف الفنية المرصعة بالمرجان، مبيّنًا أنه قد قضى هناك سنتين قام خلالهما بتكوين بعض الحرفيين الجزائريين في مجال صقل المرجان وتطويعه.
شارك عمّ علي في المعارض التونسية والعالمية وهو يتذكر بكثير من الفيض زيارة قام بها إلى الصين للمشاركة في معرض خاص وعرض منتجاته في السوق الصينية معتبرًا أن هذه الزيارة هي الأهم في مسيرته لأن الصينيين يقدرون المرجان روحيًا فهم يعتبرونه من روح الطبيعة ومشحون بطاقة إلاهية.
كان عم علي يعتبر نفسه قد قام بمهمته تجاه أبهى ثمرات البحر "المرجان"، الذي ذكره الله سبحانه بوضوح في سورة الرحمان أكثر من مرة، على أكمل وجه وبسخاء من روحه وجسده
كان شيخ المرجان يمسك بين أصابعه ببعض حبيبات المرجان الحمراء بعناية فائقة وهو يتحدث عن هذا الفن المشحون "بطاقات تتموج كما لو أنها تريد أن تبلغ تخوم اللانهاية، كما لو أنها تريد أن تعانق غيرها لتكتمل بغيرها ولا تكتمل إلا بالكون كلّه". إنه يعتبر نفسه قد قام بمهمته تجاه أبهى ثمرات البحر، "المرجان" الذي ذكره الله سبحانه بوضوح في سورة الرحمان أكثر من مرة، على أكمل وجه وبسخاء من روحه وجسده.
ودعناه وهو يقف مشيّعًا مبتسمًا كنخلة سامقة تجرفه الذكرى وتستبد به هواجس المستقبل. هذا هو "عم علي الهمامي" آخر قلاع المرجان في تونس.