تصدير: "نحن لا نستحمّ في نفس النّهر مرّتين"
-هيراقليتس-
يعتبر الزمن أعقد أسئلة الوجود على الإطلاق وكل الأجوبة التي قدّمها الفكر البشري بخصوصه تبدو مفتوحة على بعضها البعض لكن أبسط الإجابات تقول إن "الزمن هو معنى عقلي مجرّد يشعر به الإنسان في قرارة نفسه".
أما العلوم الفيزيائية فترى أن الزمن هو في ارتباط عضوي بحركة المكان وتزيد من تدقيق هذه المسألة العويصة فتوضح أن الزمن الأرضي مرتبط ارتباطًا وثيقًا بدوران كوكب الأرض الذي يدور حول نفسه بسرعة 1674 كيلومترًا في الساعة أي أنه يتحرك بمقدار 465 مترًا في الثانية. وبالتالي فإن "الثواني والدقائق والساعات هي مجرّد انتقال مسافات مكانية. كانت الأرض هنا وصارت هناك".
"عم أحمد" (ساعاتي) لـ"الترا تونس": "الإنسان لا يستقيم وجوده ولا تتمتع حواسه بلذائذ الدنيا الروحية والحسيّة دون الإحساس بالوقت، بل إن الحياة مستمرّة ومرتبة نواميسها تحت إيقاعات الزمن"
بهذه المعاني الكبرى لأغرب سؤال وجودي واجهه الإنسان منذ بداية الخليقة إلى اليوم، دخلت دكّان الساعاتي "عم أحمد" بمنوبة، كانت ابتسامته العريضة هي ميقات وجهه النحيف والجسر الراقي الذي يصله بالناس وكل ما هو خارج المحلّ وكانت الساعات بمختلف الأشكال والأحجام تغمر المكان الضّيق وتحوّله إلى مدينة بلا ضفاف من الساعات من مختلف الماركات العالمية، هذه يدوية لباتيك فيليب ورولكس وسواتش وفيستينا... وتلك ساعة جيب من جو ديكس وساعات حائطية دائرية وأخرى بصناديق خشبية أتت من الصين والهند ومن مصانع السويسري أودولف شيلد...
"عم أحمد" يعمل ساعاتيًا لأزيد من خمسين عامًا قضى منها أربعة عقود متعاقبة بمدينة منوبة في محل صغير بواجهة خشبية بسيطة مطلية بالأزرق المتوسطي. يافعًا حَمَلته صدف العطل المدرسية الصيفية مع بداية سبعينات القرن الماضي إلى تعلم حرفة إصلاح الساعات الميكانيكة عن طريق أحد أقاربه بباب سعدون على تخوم مدينة تونس العتيقة.
وعن متعة انجذابه وانشداده لعالم الساعات السحري يقول عم أحمد: "المناقل دومان كبير دخلت فيه ولتوا ما خرجت" ويواصل قوله بعد أن غمرت وجهه ابتسامة عريضة: "ظاهرلي بعد ها العمر ما عادش ثمة خروج. عمري ضاع بين عقارب الساعات وتعديل الوقت".
وبروح فلسفية عفوية وعميقة حدثني "عم أحمد" عن علاقة الإنسان بالساعة التي يحملها في معصمه أو يضعها إلى جانبه في العمل أو البيت، في كناية غير مقصودة عن الزمن الأرضي، مشيرًا إلى أن "الإنسان لا يستقيم وجوده ولا تتمتع حواسه بلذائذ الدنيا الروحية والحسيّة دون الإحساس بالوقت، بل إن الحياة مستمرّة ومرتبة نواميسها تحت إيقاعات الزمن".
وتطرق محدثي إلى تلك العادات التونسية الجميلة في علاقة بساعة اليد والتي اختفت الآن بحكم تطورالحياة والاختراعات الجديدة في عالم الساعات ومنها ذكر العم أحمد جلوس الموظفين ورجال التعليم في المقهى وممارسة طقس "تعمير المنقالة اليدوية الميكانكية عبر زنبريخ موجود على يمين الدائرة"، فالقهوة لا تكتمل حلاوتها لدى هؤلاء الرجال إلا بعد ضبط الوقت، أيضًا حرص العائلة التونسية على أن تكون بـ"صالة الدار" ساعة حائطية أو "رفّايا"، ذاكرًا أن العائلات الفقيرة كانت توفد أحد أبنائها لمنزل أحد الجيرن من أصحاب الساعات المنزلية من أجل حمل التوقيت الذي ينجر عنه ترتيب أوقات المدرسة وقضاء الشؤون اليومية.
"عم أحمد" لـ"الترا تونس": بعد الساعاتيين القدامي القلائل لا مستقبل لهذه المهنة في تونس فليس هناك من الشباب من يرغب في تعلّمها، كما أن مراكز التكوين لا تقدّم تكوينًا في هذا الاختصاص الفريد
"عم أحمد"، خلال رحلة حياته مع الساعات وأعاجيبها، أوضح أنه مرّت عبر أصابعه جميع أنواع الساعات، الثمينة والمزيفة، الذهبية والمرصعة بالأحجار الكريمة... وكان يقضي الساعات الطوال بل والأيّام الطويلة في إصلاح الأعطاب المتخفية والتفطن إلى أسرار ميكانيكا الساعات الأصيلة السّويسرية والإنقليزية والفرنسية...
وأضاف "عم أحمد" أنه اكتسب صيتًا وشهرة في أوساط الساعاتيين بالعاصمة، وأحيانًا يأتيه الزبائن من مختلف المدن التونسية البعيدة بتوصية من بائع ساعات معروف أو من زبون قديم.
اقرأ/ي أيضًا: من المزهريّات إلى أطباق الطعام.. رحلة غريبة للزهور في تونس
سيّد الساعات، كما يحلو لي مناداته، يفيض دكانه الصغير بعقارب الساعات الضخمة وأجراس منبهات الساعات الملونة وتتدلى في خزائنه البلورية ساعات يدوية تنتظر أيادي ومعاصم من رحلوا نحو أزمنة الغيب البيضاء. إنه عالم ساحر يشبه أعماقًا فضية لبحر قصيّ ينام بين ظلال سفوح جبال بعيدة. وهنا يقول "عم أحمد": لكل ساعة بالمحل حكاية غير مكتملة سواء في ارتباطها بأصحابها أو بالماركة أو الدّار التي صنّعتها. ويضيف: "نعرفها وحدة وحدة".
"عم أحمد" يتحدث بألم عن مستقبل "مهنة الساعاتي" فيقول: "بعدنا نحن القدامى -وقد صرنا قلّة قليلة متناثرة كحبات عقد في شارع خلفي- لا مستقبل لهذه المهنة في تونس فليس هناك من الشباب من يرغب في تعلّمها، كما أن مراكز التكوين في بلادنا لا تقدم تكوينًا في هذا الاختصاص الفريد".
ويضيف محدثي، وهو في غمرة انشغاله بإحدى الساعات اليدوية، أن "عمليات التصليح في حد ذاتها أصبحت قليلة ويرجع عم أحمد سبب ذلك إلى أن مصانع الساعات الشهيرة في العالم غيرت من ميكانيك الساعات، فبعد أن كانت الساعة اليدوية تتركب من مئات الأجزاء التي تجعلها تشتغل ميكانيكيًا والتي يصل عددها أحيانًا إلى 400 جزء، أصبحت الساعة اليدوية الآن تعمل ببطارية كهربائية صغيرة الحجم و بأقل عدد من الأجزاء. وأردف "عم أحمد" أن هذه المصانع لم تعد توفر قطع الغيار اللازمة التي تجعل من القديم مستمرًا.
ودعا "عم أحمد" الدولة التونسية إلى إنشاء متحف للساعات بتونس حفظًا لذاكرة المهنة ولكنوز من الساعات النادرة والمتناثرة هنا وهناك، كما دعا الباحثين التونسيين بالجامعة التونسية إلى الاشتغال على مهنة الساعاتي باعتبارها جزءًا من التاريخ الحرفي والاجتماعي التونسي.
"عم أحمد": على الدولة إنشاء متحف للساعات بتونس حفظًا لذاكرة المهنة ولكنوز من الساعات النادرة والمتناثرة هنا وهناك وعلى الباحثين بالجامعة الاشتغال على مهنة الساعاتي باعتبارها جزءًا من التاريخ التونسي
كما تحدث "الساعاتي الأخير" بكل حرقة عن الفوضى التي تعم أسواق بيع الساعات وما جاورها من خدمات، مؤكدًا أن الساعات المتداولة في تونس أغلبها مقلّدة عن الماركات المشهورة بل ومهرّبة من الصين وبعض البلدان الآسياوية الأخرى.
وبين "عم أحمد" أن العديد من الزبائن يأتونه بساعات أشتروها بأسعار خيالية وتبيّن فيما بعد أنها مزيّفة ومقلّدة، حتى أن بعضهم ذهب إلى القضاء ونشر قضية تحيل ضد محلات تدّعي أنها مختصة في بيع ساعات لماركات وتزعم أنها أصليّة.
أقف مع العم أحمد، هذا الساعاتي التونسي النبيل، على مشارف الهزيع الأخير من تجربتة الملحميّة الطويلة مع الساعات بأنواعها وما رتّبته من أزمنة لنيقن معًا أن حركة التاريخ بصدد دكّ آخر حصون هذه المهنة الرائعة الشبيهة بما يفعله الشاعر عندما ينهمك بنظم الكلمات وما قدمته للبشرية طيلة قرون من الثبات والرضى والحيرة الوجودية وسحر المواعيد ودقة المواقيت.
وأنا أغادر المحل الصغير لآخر ساعاتي يمكن أن تصادفه في حياتك تتلاطم بذهني هواجس فلسفية حول الزمن المنبعث من الساعات التي صنعها الإنسان بيديه، ورأيت بعضها بمحل الساعاتي، لأدرك في النهاية أن الزمن هو لعبة الحياة المشتهاة، دوران ودوران لامتناهٍ بلا عود وسفر على بحر الحياة القاسي بلا عود. تمامًا كما قال الشاعر "هيراقليتس": "نحن لا نستحم في نفس النهر مرّتين".
اقرأ/ي أيضًا: