11-سبتمبر-2024
الألعاب والرياضات التراثية في تونس

الألعاب والرياضات الشعبية في تونس.. تراث لاماديّ يأسر الجيل الجديد

 

كان من اللافت ونحن ندفع بشاشة الهاتف صعودًا ونزولًا على موقع فيسبوك، أن يصادفنا ذاك المنشور الذي نجح في أن يثير انتباهنا للحظات، كانت كافية لنشكر الخوارزميات أن وضعته في طريقنا. كان المنشور متعلقًا بجمعية تونسية تسعى للمحافظة على الألعاب والرياضات التراثية، ولمّا كان الفضول يقتل القطّ كما يقول المثل الإنجليزي، فقد سارعنا بالاتصال بالرقم المدوّن على يافطة هذه الجمعية، فكان هذا التقرير.

  • الجمعية التونسية للمحافظة على الألعاب والرياضات التراثية.. اكتشاف ثمين

كان رئيس الجمعية التونسية للمحافظة على الألعاب والرياضات التراثية، عز الدين بوزيد، هو من ردّ على اتصالنا، وقد علمنا أنه أستاذ جامعي متقاعد في اختصاص التربية البدنية، والذي تنقل من أستاذ جامعي في الرياضة والتربية البدنية إلى متفقد للشباب والرياضة، والحائز على جوائز دولية عديدة في هذا المجال.

رئيس الجمعية التونسية للمحافظة على الألعاب والرياضات التراثية: ننشط حاليًا على أساس أن تكون هذه الألعاب والرياضات التراثية، أداة هامة كقاطرة للتنشيط العلمي والتنشيط الثقافي

اشتهر عز الدين بوزيد، ببحث جامعي قام به بالتعاون مع جامعة السوربون، يتعلّق بإشكالية الرياضة التراثية وبُعدها الثقافي من حيث علاقتها بالعادات والتقاليد، أي أنّ بحثه الجامعي، يندرج بشكل عام في الرياضة وأنثروبولوجيا المجتمع.

درّس بوزيد قبل أن يتقاعد سنة 2010، في عديد المعاهد العليا، على غرار معهد قصر سعيد للتربية البدنية، ومعهد التربية المختصة، ومعهد التنشيط السياحي، ومعهد التنشيط الشبابي والرياضي، ومعهد إطارات الطفولة، وقال في تصريحه لـ"الترا تونس": "كنتُ أوظّف نتائج المادة العلمية في مجالات مختلفة كالسياحة والتربية، كما توصّلت إلى توظيفها أيضًا على المستوى الصحي لفائدة الأشخاص ذوي الإعقاة ومراكز التربية المختصة والمسنّين"، وفقه.

 

رئيس الجمعية التونسية للمحافظة على الألعاب والرياضات التراثية، عز الدين بوزيد،
رئيس الجمعية التونسية للمحافظة على الألعاب والرياضات التراثية، عز الدين بوزيد

 

يضيف محدّثنا أنّ جمعيته تنشط حاليًا على أساس أن تكون هذه الألعاب والرياضات التراثية، أداة هامة كقاطرة للتنشيط العلمي والتنشيط الثقافي، مؤكدًا اشتغالها مع عديد المؤسسات على المستوى الوطني والدولي، وتكوينها لشبكة تعاون كبرى، نجحت في أن تصارع الرؤية السائدة والقديمة للألعاب التراثية، التي تُرجعها إلى كل ما هو قديم ومنبوذ في المجتمع، وقال: "لم يكن سهلًا، فقد تصارعنا مع تلك الرؤية ونجحنا في ترك بصمتنا لأننا نتعامل مع المسألة من الناحية التراثية والأنثروبولوجية التي يمكن أن تساعد الكثيرين".

يعتبر عز الدين بوزيد، أنّ الرياضة الأولمبية عمومًا ككرة القدم وكرة اليد وكرة السلة، هي من الرياضات الطاغية على المجتمع من حيث حضورها بمختلف الولايات واهتمام الإعلام بها فضلًا عن القاعدة الجماهيرية الواسعة لها، غير أنه يسعى إلى إعادة نشر هذه الألعاب حتّى تلقى الرواج الكافي، خاصة وأنّها عصارة دراسة قام بها بعد أن عاد للوحات فسيفسائية في العهد الروماني من القرن الثاني إلى القرن السادس بعد الميلاد.

عز الدين بوزيد لـ"الترا تونس": خلُصت إلى اكتشاف وفهم قرابة 200 لعبة من خلال العودة إلى لوحات فسيفسائية في العهد الروماني من القرن الثاني إلى القرن السادس بعد الميلاد

وأشار إلى أنّه من خلال هذه الدراسة، خلُص إلى اكتشاف وفهم قرابة 200 لعبة من خلال الفسيفساء فقط في عهد الرومان. إذ بيّنت الدراسة، تنوع الرياضة لدى الرومان من خلال دراستها في العصر الحاضر ومقارنتها من حيث علاقة الرياضة بالمجتمع، ومقارنة بين الماضي والحاضر والثابت والمتحول، وكل ما يتعلق بهذه الألعاب من حيث قواعدها وقوانينها وأدوات اللعب ومنطقها الداخلي وعلاقتها بالمجتمع في كل فترة تاريخية.

وفي إجابته على سؤال لـ"الترا تونس"، أوضح رئيس الجمعية، أنّ الناس تتفاجأ بعد تجربتهم هذه الألعاب الشعبية، باعتبار أنّ فكرتهم عن الألعاب التراثية القديمة هي أنه لم يعد لها مكانة لها في المجتمع، "لكن بعد أن نقدمها بأسلوب متحضر فيه تجديد ويتماشى مع الذوق الاجتماعي، يكون هناك تفاعل كبير في كل التظاهرات، باختلاف أنواع الألعاب الفكرية أو الحركية".

 

ألعاب تراثية
من بين الألعاب الشعبية نجد: لعبة الطشة (XO)، والخربقة أم 3 أو الخربقة أم 5، والألغاز الشعبية، وذيوبة ونعاج، والسيق، وعدّي وكول، والعروسة، والبقيرة..

 

يشدّد محدّثنا على أنّ أعضاء الجمعية التونسية للمحافظة على الألعاب والرياضات التراثية، يحاولون التعامل مع كل الفئات، إذ يتمّ مع كل سنّ، والتعديل في الألعاب وتوظيفها لصالح طاقة تلك الفئة، وجعلها متماشية مع تلك الشريحة العمرية، لتكون وسيلة من وسائل الترفيه والتنمية.

وذكّر عز الدين بوزيد، بالجرد الوطني للألعاب والرياضات التراثية الذي قدّمته الجمعية للأرشيف الوطني لتسجيل هذه  الألعاب ورقنها ورقمنتها، قائلًا: "يجب عدم تهميش الموضوع، فتونس مازالت متأخرة في رؤيتها للتراث وتوظيفه خاصة التراث اللامادي، مع أنّ اليونسكو تلحّ على الدول في الاعتناء به".

عز الدين بوزيد لـ"الترا تونس": تونس مازالت متأخرة في رؤيتها للتراث وتوظيفه خاصة التراث اللامادي، مع أنّ اليونسكو تلحّ على الدول في الاعتناء به

لعبة الطشة (XO)، والخربقة أم 3 أو الخربقة أم 5، والألغاز الشعبية، وذيوبة ونعاج، والسيق، وعدّي وكول، والعروسة، والبقيرة.. هي كلّها ألعاب شعبية تنتمي لحقبة ما من تاريخ تونس، وقد تتقاطع مع ألعاب أخرى عالمية.

 

ألعاب تراثية
عز الدين بوزيد لـ"الترا تونس": يتمّ مع كل سنّ، والتعديل في الألعاب لجعلها متماشية مع تلك الشريحة العمرية (وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية)

 

  • صُنع الألعاب التراثية بمواد بسيطة وطبيعية قبل لعبها.. نصف حُسنها

تواصلنا في الإطار نفسه، مع المربّية والعضوة الناشطة بالجمعية التونسية للمحافظة على الألعاب والرياضات التراثية منذ 2016، أسماء حداد، التي أكدت لـ"الترا تونس" فرادة تجربتها في هذه الجمعية بالذات، مشيرة إلى أنّها تلقت دورة تكوينية تعلمت فيها تبسيط هذه الألعاب لمختلف الشرائح العمرية، وقالت: "في بعض الورشات التنشيطية، كنا نتعامل مع فئات تعاني من صعوبات في التعلم أو إعاقات، وكنت أشعر أننا نساهم في علاج هؤلاء بطريقة ترفيهية، خاصة الفئات التي تملك مشاكل على مستوى اليد، ويجدون صعوبة في مسك القطع" وفقها.

ناشطة بالجمعية لـ"الترا تونس": نتعامل في ورشات الألعاب التراثية مع جميع الفئات وأحيانًا مع فئات تعاني من صعوبات في التعلم أو إعاقات، وكنت أشعر أننا نساهم في علاج هؤلاء بطريقة ترفيهية

تقول أسماء حداد إنّ الجمعية لاحظت تشابهًا كبيرًا في هذه الألعاب التراثية في تونس، خاصة مع المغرب وإسبانيا، مع اختلافات بسيطة في التسميات والقوانين، لكنّ أدوات اللعب تتشابه عمومًا، وأضافت أنّ "الألعاب التراثية فيها خاصية معيّنة، إذ لا يقع صنعها بالبلاستيك بل نستغلّ المعدات الطبيعية في ذلك مثل الأحجار ونوى بعض الثمار كالتمر والمشمش وأصداف البحر.."، فصنع هذه الألعاب قبل انطلاق اللعب بها، هو نصف الحسن في الأمر.

 

الألعاب التراثية
الألعاب التراثية تكون مسبوقة بورشات أي أعمال يدوية، فالرقعة التي يتم عليها اللعب تكون في بعض الأحيان من الصوف، ويقع نسجها خصيصًا لهذه الألعاب (وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية)

 

تتابع محدّثتنا بحماس، أنّ هذه الورشات التي تنظمها الجمعية، تكون مسبوقة بورشات "بريكولاج" أي أعمال يدوية تسبق الجلوس إلى هذه الألعاب، فالرقعة التي يتم عليها اللعب تكون في بعض الأحيان من الصوف، ويقع نسجها خصيصًا لهذه الألعاب. واعتبرت أنّ في هذه الورشات، التي أمّنتها الجمعية على كامل تراب الجمهورية، تلاحظ عودة الكهول والمسنّين للطفولة، وتقول: "اشتغلنا أيضًا على اللعب الجماعي مع العائلات، كي نبعد أفراد العائلة الواحدة عن الهواتف الجوالة وإعادة الرابط الأسري بين الآباء والأبناء، فضلًا عن أنّ الطفل يتعرّف على مختلف الأشكال الهندسية والألوان، ويتنمّى حسّ الاكتشاف لديهم من وراء هذه الألعاب".

  • الألعاب والرياضات الشعبية في تونس.. تراث لاماديّ ينتظر التثمين!

بالعودة إلى المعهد الوطني للتراث، يعدّ التراث الثقافي اللاّمادّي "من أحدث المفاهيم المستخدمة في تصنيف التراث، باعتبار ارتباطه بما كان يصطلح عليه ثقافة شعبية أو فولكلورًا أو تراثًا تقليديًا أو فنونًا وتقاليد شعبية"، وبالمقارنة مع التصنيف الذي اقترحته اليونسكو، فقد تمّت إضافة الألعاب التراثية إلى مجالات التراث الثقافي اللامادّي، بعد أن باتت هذه الألعاب "تثير الاهتمام بفضل انخراط عدة جمعيات في صونها".

 

ألعاب تراثية
يقع استغلال المعدات الطبيعية في صنع الألعاب التراثية مثل الأحجار ونوى بعض الثمار كالتمر والمشمش وأصداف البحر..

 

 لا تخفى بالتالي، أهميّة حضور هذه الألعاب التراثية، في المدونة التراثية اللامادية الخاصّة بالمجتمع التونسي، ما دفع بمعهد التراث إلى اعتمادها في مشروع الجرد الوطنيّ للتّراث الثقافي اللاّمادّي بتونس.

المعهد الوطني للتراث: تمّت إضافة الألعاب التراثية إلى مجالات التراث الثقافي اللامادّي، بعد أن باتت هذه الألعاب تثير الاهتمام بفضل انخراط عدة جمعيات في صونها

ويُقصد بالتراث الثقافي اللامادي، وفق تعريف اليونسكو: "الممارسات والتصوّرات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات –وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافيّة– التي تعتبرها الجماعات والمجموعات، وأحيانًا الأفراد جزءًا من تراثها الثقافي". 

وهذا التراث الثقافي غير المادّي المتوارث جيل عن جيل، وفق اليونسكو، "تبدعه الجماعات والمجموعات من جديد بصورة مستمرّة بما يتّفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها. وهو ينمّي لديها الإحساس بهويّتها والشعور باستمراريتها ويعزّز من ثمّ احترام التنوّع الثقافي والقدرة الإبداعيّة البشريّة"، وفقها.