17-أغسطس-2024
كنز شمتو

يعتبر كنز شمتو العائد تحت الشمس مادة أثرية للدراسة والتمحيص العلمي وفي نفس الوقت مادة ثقافية وسياحية (وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية)

 

عندما تقف على أعالي أنقاض ورسوم الحواضر التونسية القديمة والمندثرة والتي مزق التاريخ ألويتها وحولها إلى مدارات من ذكريات بعيدة تائهة بين الغيوم ومتلاشية كخطيئة مقدسة ننظر إليها ونمشي في ممراتها المتبقية فكأنها لم تكن. حواضر مزدحمة بكل شيء مثل قرطاج وأوتيكا وبلاريجيا وتيبوربوماجيس وسيكافينيريا وزامة وتيسدروس ومكتريس وآسوراس وكسرى واللاس وزنفور.. ومن فرط الرموز المحيطة بتلك الأمكنة تشعر أن ينابيع المعنى تتوسد الحجارة وينتظر نشيجها الصامت عودة الأجداد البناة العتاة الذين كانوا يربطون السماء بالأرض بسجية وسريرة نقية.

 ومن أعمق مميزات تلك الوقفة هو ذاك الالتحام الغريب مع صوت الأعماق فنجد أنفسنا في حضرة الأصل، حيث دبيب روح الإنسان المتطلع دومًا إلى الخلود وجوهر الحضارة بل "حيث الحياة ولا نهائية الحياة".

"شمتو" هي حاضرة نوميدية عريقة تنام على الضفة اليمنى لأطول الأودية التونسية وهو وادي مجردة.. وأولى العلامات الأثرية التي تعترضك في الطريق نحوها بقايا جسر "ترايايونس" من الحقبة الرومانية، ثم سرعان ما يباغتك سهل فسيح تتراءى في قلبه مدينة "شمتو"

هذه "شمتو" أو "سيمتو" حاضرة نوميدية عريقة تنام على الضفة اليمنى لأكبر وأطول الأودية التونسية وهو وادي مجردة العظيم الشاهد على كل ما حدث من منابعه بسوق أهراس الجزائرية إلى صبيبه بقلعة الأندلس من ولاية بنزرت التونسية.  ونصل إلى "شمتو"  عبر مدينة "وادي مليز" أو عبر الطريق الواصلة بين مدينتي جندوبة وفرنانة في اتجاه عين دراهم أو عبر مدينة "طبرنق". أولى العلامات الأثرية التي تعترضك في الطريق هي بقايا جسر "ترايايونس" من الحقبة الرومانية، ثم سرعان ما يباغتك سهل فسيح مختبئ في خاصرة هلال من الجبال الصخرية والغابية، وفي قلب هذا السهل تتراءى "شمتو" كزهرة برية صمدت بأعجوبة أمام رياح التاريخ العاتية.

 

صورة
"شمتو" كانت عاصمة من عواصم نوميديا الكبرى

 

"شمتو" كانت عاصمة من عواصم نوميديا الكبرى لحيازتها على أهم مقاطع الرخام في  العالم في ذلك الوقت، إذ يتميز رخامها بندرة لونيه الأصفر والوردي وقد كان هذا الرخام مطلوبًا من قبل الأثرياء وساسة الإمبراطورية الرومانية من أجل تزويق القصور والكنائس ويعتبر الإمبراطور "هدريانوس" أحد الذين اهتموا برخام شمتو حيث كان يستورده بكثافة من أجل تزويق قصوره بمدينة "تيفولي" وأمر بأن يزوق به "البانثيوم" الذي بني في عهده. وقد وصل هذا الرخام إلى كنيسة "آيا صوفيا" بالقسطنطينية (العاصمة التركية إسطنبول حاليًا).

"شمتو" كانت عاصمة من عواصم نوميديا الكبرى لحيازتها على أهم مقاطع الرخام في  العالم في ذلك الوقت، إذ يتميز رخامها بندرة لونيه الأصفر والوردي وقد كان هذا الرخام مطلوبًا من قبل الأثرياء وساسة الإمبراطورية الرومانية

ومع الزحف الوندالي على تونس توقفت مقاطع الرخام بـ"شمتو" عن العمل حيث انشغل الغزاة الجدد بمسائل أخرى كتشييد القلاع الدفاعية بالمنطقة الغربية والاهتمام أكثر فأكثر بإنتاجات الفلاحة وتصديرها. ثم عادت للعمل في الفترة البيزنطية وعاودت التوقف تمامًا مع الفتح الإسلامي لشمال إفريقيا. ومن ثمة ذهبت إلى النسيان الأبدي وتحولت إلى "أثر بعد عين". 

إلا أنّه ومع حلول الاستعمار الفرنسي تم اكتشاف موقع شمتو من جديد من قبل مهندسين فرنسيين وذلك مع بداية أشغال خط السكة الحديدية التي تربط بين مدينة غار الدماء  والعاصمة تونس وقد سعى المستعمر الفرنسي إلى استغلال هذه الثروة بإعادة استغلال مقاطع رخام "شمتو" قبيل الاستقلال بقليل إلا أن السلطات التونسية ومع بداية ستينات القرن العشرين وفي إطار استعادة سيادتها الثقافية والتاريخية ألغت عقود الشركة الفرنسية المستغلة للرخام شمتو وحولت كل المقاطع وأروقة الرخام الكائنة في تجاويف الجبال إلى موقع أثري يمسح 80 هكتارًا.

 

صورة
متحف شمتو المؤسس سنة 1993

 

ويشرف على هذا الموقع الأثري المعهد الوطني للتراث وتستغله وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية وكلاهما تحت إشراف وزارة الشؤون الثقافية وانطلقت أشغال البحث والتنقيب الأثري بهذا الموقع بشكل جدي نهاية الثمانينات وبداية التسعينات بالتعاون مع معهد الآثار الألماني تحت إشراف الباحثين المرموقين التونسي مصطفى الخنوسي والألماني فرايدريش راكوب.  وقد عثر على شواهد ومقابر ومعابد ودور للسكن وحمامات وجسور من مختلف الحقب لكن الآثار النوميدية كانت الأبرز وهو ما يؤكد قوة وانفتاح المملكة على العالم. 

وأثمر هذا التعاون إنشاء "متحف شمتو" سنة 1993 الذي يروي قصص مدينة الرخام وأهميتها الاقتصادية بالنسبة لملوك نوميديا والرومان من بعدهم وعلاقاتها مع الجوار ودورها في تجارة الرخام العالمية وسيطرة الرومان عليها وكيف أعادوا تهيئتها وجعلها مدينة بها أهم المرافق الأساسية والتكميلية والترفيهية.

 

  • كنز شمتو 

أثناء أشغال البحث والتنقيب التي سبقت بناء متحف شمتو بولاية جندوبة عثرت الفرق الأثرية المختصة التونسية والألمانية التي تعمل بالاشتراك من مدة طويلة  يوم 12 ماي/أيار 1993 على كنز فريد من العملة المعدنية التاريخية وعددها 1648 قطعة ذهبية منها قطعة واحدة من الفضة لكنها مغموسة في الذهب المسال، وتزن جميعها 7.200 كلغ ليكون بذلك أهم اكتشاف أثري للعملة الذهبية بكامل المغرب العربي من ناحية الوزن وأيضًا من ناحية القيمة الأثرية والفنية والتاريخية.

أثناء أشغال التنقيب التي سبقت بناء متحف شمتو عُثر على كنز فريد من العملة التاريخية وعددها 1648 قطعة ذهبية وتزن جميعها 7.200 كلغ ليكون بذلك أهم اكتشاف أثري للعملة الذهبية بكامل المغرب العربي من ناحية الوزن والقيمة الأثرية

الحدث حينها لم يحظَ بالتغطية الإعلامية اللازمة، إذ قدمت صور قليلة عن الكنز واكتفى المعهد الوطني للتراث ببعض البلاغات  الفنية وتوارى الكنز الأثري عن الأنظار ولم يعرض في متحف شمتو بعد إتمام الأشغال وبداية الاستغلال وحفظ في مخازن المعهد بعد جرده وتحديد قيمته، ومن ثمة طواه النسيان لكنه عاد ليتصدر المشهد الثقافي الوطني من جديد بداية من يوم 2 أكتوبر/تشرين الأول 2023 حيث خصصت له قاعة بأكملها بالمتحف الوطني بباردو بالعاصمة تونس حملت اسم "قاعة كنز شمتو" وتوجد بالطابق الأول وتمت فيها مراعاة جانب السلامة وتأمين الكنز. وتم افتتاحها بمناسبة عودة المتحف لاستقبال زواره بعد غلق دام لأكثر من سنتين (من 26 جويلية/يوليو 2021 إلى 12 سبتمبر/أيلول 2023).

 

صورة
يضم كنز شمتو 1648 قطعة من العملة التاريخية (وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية)

 

  • تاريخ المسكوكات القديمة 

تمت تهيئة قاعة كنز شمتو بمتحف باردو بالشراكة مع المعهد الألماني للآثار بقيمة مالية قدرت بـ 147 ألف يورو وكتتويج لعلاقة ثقافية دامت أكثر من 30 سنة. وتقدم هذه القاعة الجديدة تاريخ المسكوكات الرومانية ضمن تمشٍّ علمي وسيناريو دقيق مع تركيز ورشة نموذجية تقدم كل مراحل سكّ النقود المعدنية في ذلك الوقت. 

تمت تهيئة قاعة كنز شمتو بمتحف باردو بالشراكة مع المعهد الألماني للآثار بقيمة مالية قدرت بـ 147 ألف يورو وكتتويج لعلاقة ثقافية دامت أكثر من 30 سنة وتقدم هذه القاعة تاريخ المسكوكات الرومانية ضمن تمشٍّ علمي وسيناريو دقيق

كما تقدم  القاعة مجموعة من المعلومات التاريخية عن الموقع الأثري  بشمتو، وعددًا من الصور الفوتوغرافية والفيديوهات التي توثق عمليات اكتشاف الكنز ومراحل صيانته وترميمه وحفظه وصولًا إلى الكنز نفسه المحفوظ داخل صندوق مستطيل مصمم من البلور، حيث يتراءى متلألئًا وسط صمت المتحف.

 

  • العثور على الجرة 

وحسب تصريحات متطابقة للخبراء التونسيين والألمان الذين باشروا لحظة العثور على أحد أهم الاكتشافات في مجال المسكوكات الذهبية التي تعود إلى الفترة الرومانية بجهة شمتو التونسية. وحسب ما أظهرته الصور الملتقطة في ذلك اليوم، فإنه وأثناء تهيئة مكان المركب المتحفي بشمتو وبتاريخ 12 ماي/أيار 1993  تم العثور في البداية على بعض القطع الذهبية ثم سرعان ما ظهرت قطع أخرى تعد بالعشرات وبعد بضع سنتيمترات عثر على جرة فخارية مكسورة. 

أثناء تهيئة مكان المركب المتحفي بشمتو وبتاريخ 12 ماي 1993  تم العثور في البداية على بعض القطع الذهبية ثم سرعان ما ظهرت قطع أخرى تعد بالعشرات وبعد بضع سنتيمترات عثر على جرة فخارية مكسورة ممتلئة قطعًا نقدية 

وحسب ما ذكره الباحثون فيما بعد فإن مالك هذه الجرة الممتلئة قطعًا نقدية ذهبية قام بتخبئتها في جوف الأرض خلال بداية النصف الأول من القرن الخامس ميلادي وهذا المكان وحسب خارطة مدينة سيميتوس (شمتو) الرومانية هو جنوب المدينة وتحديدًا بالطريق المؤدية جنوبًا إلى وادي مجردة وهي طريق محفوفة بالمنازل في ذلك الوقت وتعود إلى فترة ما بين القرنين الثاني والرابع ميلادي، وكان صاحب الكنز قد اعتمد أحد المنازل كعلامة دالة لمكان الجرة.

 

صورة
تم العثور على الجرة الفخارية المعبّأة قطعًا ذهبية في شمتو سنة 1993

 

وحسب الباحثين التونسيين والألمان الذين أشرفوا على دراسة هذا الكنز الأثري فهو يتكون من قسمين هامين: أوّل يضم النقود الأقدم وهي 102 "صوليدي" تم سكّها خلال فترة حكم الفالنتينيانية التي كانت تحت حكم الأباطرة "فالنتيان" و"فالنس" بين سنوات 364 م و367م.

أما الجزء الثاني فيتكون من 1546 "صوليدي" وتعود إلى زمن حكم السلالة التيودوسيوسية التي حكمت بين أعوام 379 م و415 م إبان حكم الأباطرة "تيودوسيوس الأول" "نوريوس" و"أركاديوس" و"تيودوسيوس الثاني" بالإضافة إلى ثلاثة أباطرة آخرين مضادين واغتصبوا الحكم وانتحلوا صفة الإمبراطور بشكل مؤقت. 

تشير البحوث المجراة حول هذا الكنز إلى أنّ الرسوم والصور والكتابات الموجودة على ظهر النقود تبرز محتويات سياسية ودينية وقانونية واجتماعية، يمكن من خلالها تبين شكل إدارة الحياة في مستوى العلاقات والحروب والتقرب إلى الآلهة

كما توجد قطع أخرى سُكَّت بأمر من ملوك قوطيين غربيين "أوتولف" و"فاليا" حيث قاما بسكّ عملة باسم الإمبراطور "هونوريوس" في الفترة الممتدة بين 412م و418م. 

وتشير البحوث المجراة حول هذا الكنز إلى أنّ الرسوم والصور والكتابات الموجودة على ظهر النقود تبرز محتويات سياسية ودينية وقانونية واجتماعية، يمكن من خلالها تبين شكل إدارة الحياة في مستوى العلاقات والحروب والتقرب إلى الآلهة.

وتشير الدراسات التي أجريت حول محتوى الكنز إلى أنّ إنتاج المسكوكات قد تم من قبل فنيين محترفين في ورشات مختصة ومجهزة ولها إمكانيات، فقد تبين أن العملية تتم في أربعة مراحل إذ يتولّى صانع الأختام تصنيع سكتي الضرب ثم توضع على السندان ويقوم السباك بتهيئة الأقراص بجعلها مسطحة بعد ذلك يقوم المدق بالتأكد من وزنها بواسطة ميزان دقيق، ثم تأتي عملية الضرب التي يقوم بها عامل مختص. 

 

صورة
حسب الدراسات قام مالك الجرة الممتلئة قطعًا نقدية بتخبئتها في جوف الأرض خلال بداية النصف الأول من القرن 5 م

 

  • تخبئة الكنز 

لاحظ علماء الآثار التونسيون والألمان أنّ تخزين الكنز لم يتم بشكل تدريجي وإنما كان دفعة واحدة، إذ يتبين من حالة الحفظ أن هذا المال كان مملوكًا من الدولة في ذلك الوقت وأنه قد تم جمعها بين أعوام 364م و418م بالقرب من أمكنة سكِّها بشمال إيطاليا حاليًا وجنوب بلاد الغال وذلك داخل مناطق النفود القوطي الغربي. 

يعتبر كنز شمتو العائد تحت الشمس مادة أثرية للدراسة والتمحيص العلمي وفهم ما كان يحدث في تلك القرون البعيدة على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وهو في نفس الوقت مادة ثقافية وسياحية تحث على زيارة متحف باردو وكذلك متحف شمتو بجندوبة

ويرجح العلماء المختصون في المسكوكات أن صاحب الجرة قد تولى جلبها من هناك إلى شمال إفريقيا وتحديدًا إلى "سيميتوس" (شمتو حاليًا) حيث قام بدفنها بعد تلقيه لتهديدات، ويعتقدون أيضًا أن هذا الرجل قد لقي حتفه ولم يتسنَّ له استغلال المال بما أنه لم يقم بإخراجه. 

ويفترض أيضًا أنّ صاحب المال هو من القوطيين الغربيين وقد جلبه معه هربًا ويرجح أنه كان موظفًا إداريًا متمركزًا في شمال إيطاليا ثم استولى على النقود مع نشوب نزاعات قبلية. 

يعتبر كنز شمتو العائد تحت الشمس مادة أثرية للدراسة والتمحيص العلمي وفهم ما كان يحدث في تلك القرون البعيدة على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي وهو في نفس الوقت مادة ثقافية وجمالية وسياحية تحث على زيارة المتحف الوطني بباردو الذي افتتح لأول مرة سنة 1888 بأمر من باي تونس. كما تحث على التنقل لمدينة شمتو من ولاية جندوبة على الحدود الغربية والاطلاع على محتويات المتحف هناك والتعرف عن كثب على مكان لقيا هذا الكنز الذهبي الهام.