ونحن على أديم رُبى مدينة تبرسق المعلقة بين معاني الشعر، نطوي الطريق طيًا في اتجاه مهرجان دقة الدولي، يبدو الهواء مصقولًا ومرتبًا على إيقاع النواعير البعيدة المرصفة على ضفاف وادي مجردة الشاهد الصامت.. وتبدو الأشجار تشرح للأقمار بهدوئها المعتاد جدوى تحويل النور إلى استعارات ضرورية نحملها معنا في سلالنا حتى تفيض على أعمدة المسرح الروماني بدقة أثناء العروض الفنية.
مهرجان دقة الدولي، عدّل خلال هذه الدورة، في موعده السنوي ليصبح بذلك أول مهرجان صيفي دولي انطلق في أنشطته من يوم 29 جوان 2024 والتي ستتواصل إلى غاية 10 جويلية 2024
وحال وصولنا إلى الموقع الأثري الضخم، بدا المسرح النصف دائري، المنغرس في خاصرة الجبل، كخال في جسد مغويّة أسيلة، مهيبًا، متعاليًا كحقل بنفسج مطرّز بالبديع في قصيدة ملحمية، سرعان ما حولته إلى مرمر خالد بين الكلمات. هذا المسرح التاريخي الذي احتضن طيلة نصف قرن كل حفلات ولقاءات مهرجان دقة الدولي، ها هو يواصل صناعة الذاكرة الثقافة المحلية باحتضانه للدورة 48 من المهرجان الذي عاد مشعًا تحت سماء الثقافة التونسية بعد انطفاء خلنا معه الاختفاء من خارطة المهرجانات الصيفية.
مهرجان دقة وخلال هذه الدورة، عدّل في موعده السنوي ليصبح بذلك أول مهرجان صيفي دولي انطلق في أنشطته من يوم 29 جوان/يونيو 2024 والتي ستتواصل إلى غاية 10 جويلية/يوليو 2024 وذلك بتقديم 11 عرضًا فنيًا تمت برمجتها من سبعة بلدان عربية وأجنبية.
مدير مهرجان دقة الدولي لـ"الترا تونس": هيئة المهرجان تخيّرت تقديم موعده، تفاديًا للزحمة التي تعرفها رزنامة المهرجانات الصيفية التونسية بعد الأسبوع الأول من شهر جويلية
وعن أسباب هذا التعديل أفادنا مدير المهرجان الأستاذ مختار بالعاتق أن هيئة المهرجان تخيرت تقديم الموعد وتثبيته في منطقة فاصلة بين شهري جوان/يونيو وجويلية/يوليو وذلك تفاديًا للزحمة التي تعرفها رزنامة المهرجانات الصيفية التونسية بعد الأسبوع الأول من شهر جويلية/يوليو وطيلة شهر أوت/أغسطس، والتي تؤثر على حجم الحضور والتعاطي الإعلامي مع أنشطة المهرجان.
وأضاف مدير هذه الدورة، مختار بالعاتق، أنه تم اختزال عدد السهرات وجعلها سهرات نوعية من حيث الجودة الثقافية والفنية، مبيّنًا أن التعديلات كانت مدروسة وقوبلت باستحسان، وفق تقديره.
عرض الثنائي ياسر جرادي من تونس ورلى عازر من فلسطين، رافقه جدل ثقافي وسياسي وإيديولوجي قبل انطلاق المهرجان بأيام تم خلالها الهمس الواضح الذي يشبه الرمي بتهمة التطبيع الثقافي إلى جرادي
"الترا تونس" تنقل لسفوح دقة الساحرة من أجل حضور السهرة الثانية المدرجة ضمن رزنامة مهرجان دقة الدولي ليوم 30 جوان/يونيو 2024 والمخصصة للثنائي الفنان ياسر جرادي من تونس ورلى عازر من فلسطين.
هذا العرض رافقه جدل ثقافي وسياسي وإيديولوجي قبل انطلاق المهرجان بأيام، تم خلاله الهمس الواضح الذي يشبه الرمي بتهمة التطبيع الثقافي موجهة للفنان ياسر جرادي الذي انتصر له الفن والفنانون ودافع عن نفسه في المنابر الإعلامية بشجاعة واعتبر هذا التشويه المجاني لمسيرته الثقافية ليس سوى خدش صغير على الوجه سوف يزول، لكن ثباته على مبادئه لا يزحزحها أحد، وفق قوله.
ياسر جرادي، هذا الفنان المثقف الذي انخرط في الساحة الثقافية التونسية والعربية والعالمية منذ تسعينات القرن العشرين بوعي فكري وفلسفي بالمعنى الغرامشي للكلمة، وكان منجزه الفني في التشكيل والشعر والموسيقى.. حمّالًا لقضايا الإنسان في الكون ونصرة الشعوب المقهورة في العالم وفي مقدمتها الشعب الفلسطيني.
الفنان التونسي ياسر جرادي غنّى للمهمشين والمقهورين والمظلومين والمنسيين والمحورين والمكدودين في كل مكان وزمان.
عجن ياسر جرادي سرديات الظلم والحيف من أكثر من ثقافة ومجتمع وقدمها ضمن باقة متناسقة من المعانى والألحان الحزينة نصرة للأشقاء في غزة وفلسطين قاطبة
خلال حفله بمهرجان دقة الدولي، أثبت ياسر جرادي مرة أخرى وإلى الأبد أن حب فلسطين يجري مجرى الروح في جسده، حيث اعتلى الركح الروماني المهيب ووقف بين قيثارتين كرجال التروبادور الشرفاء، لا يعنيه سوى سفر ألحانه مع الريح إلى دروب السماء والأعالي اللامتناهية. لقد عجن ياسر جرادي سرديات الظلم والحيف من أكثر من ثقافة ومجتمع وقدمها ضمن باقة متناسقة من المعانى والألحان الحزينة نصرة للأشقاء في غزة وفلسطين قاطبة.
تحدث ياسر جرادي لجمهور مهرجان دقة عن قهر الشعوب في أمريكا اللاتينية والفيتنام والسود في أمريكا والميز العنصري في جنوب إفريقيا، واستفاض حديثه عن فلسطين مؤكدًا أن الظلم لن يدوم وأن النصر قادم وأنّ العودة آتية.
ياسر جرادي بدا موسيقيًا منشقًا يركب خيوط قيثارته وآلة الهارمونيكا رفقة ندماء فنه من فرقة "ديما ديما" المشبعة بمعنى الإصرار على الجمال والفن والثورة على السائد الموسيقي والثقافي نشدانًا لواقع سياسي واجتماعي أفضل.
الحفل في الجزء الأول منه خصص للفنانة الشابة الفلسطينية رلى عازر ابنة مدينة الناصرة المحتلة التي قدمت إلمامة من الأغاني والقصص التي تشبه الأزهار البرية من الحقول المترامية من الثقافة والتراث الفلسطيني. مثل الميجانا والترويدة التي كانت الأمهات الفلسطينيات يُضمننها رسائل مشفرة لمراوغة المستعمر البريطاني في القرن التاسع عشر.
خصص الحفل في الجزء الأول منه للفنانة الشابة الفلسطينية رلى عازر ابنة مدينة الناصرة المحتلة التي قدمت إلمامة من الأغاني والقصص من الثقافة والتراث الفلسطيني مثل الميجانا والترويدة
رلى عازر غنت لكبار الفنانين العرب الذين ساندت أصواتهم القضية الفلسطينية وأبدعت في ذلك على غرار أغاني مارسيل خليفة ولطفي بوشناق.
صوتها كانت منسابًا كسرب فراشات ويطير طيرانًا منخفضًا بين أعلام دولة فلسطين التي رفرفت طيلة السهرة مرفوعة من قبل الجمهور التونسي الذي وقف إجلالًا للنشيد الوطني الفلسطيني كتحية رمزية للشعب الفلسطيني الأبي من دقة التونسية.
سهرة ياسر جرادي ورلى عازر بمهرجان دقة الدولي كانت حفلًا فخمًا ورمزيًا مليئًا باللوعة والكلمات والمعاني والألحان المورقة في القلوب الصافية التي حضرت من أجل سماع اسم فلسطين وهو يتردد بين ذرى الجبال التونسية.
مهرجان دقة الدولي في دورته 48 لسنة 2024 يصرّ على جودة العروض وجدية الفنانين المقترحين في البرمجة حيث ينتظر المتابعين عدد من السهرات التي تقدم البديل الفني والموسيقى مثل لقاء فرقة "كايروكي" المصرية يوم 3 جويلية/يوليو 2024 وسهرة الفنان التونسي أنور براهم يوم 6 جويلية/يوليو 2024 وعرض منير الطرودي وإيريك تروفاز من سويسرا وكمال ويليامز من إنجلترا يوم 8 جويلية/يوليو 2024.