تتعالى أصوات عديدة في تونس منذ أشهر للمطالبة بالحد من "استقلالية البنك المركزي" ومراجعة القوانين في اتجاه يسمح بتمويله ميزانية الدولة بشكل مباشر وصار النقاش أكثر زخمًا بعد تصريح حديث للرئيس التونسي قيس سعيّد أكد فيه ضرورة هذه المراجعة، وهي الخطوة التي تلي تتالي تداين الدولة من البنوك التونسية بفوائض كبيرة والحديث عن عجزها المواصلة في ذات المنحى.
خطوة تمويل ميزانية الدولة بشكل مباشر من قبل البنك المركزي التونسي، عبر شراء سندات حكومية، سبق أن حذر منها محافظ البنك في وقت سابق، لكنه التزم الصمت في لقائه الأخير مع الرئيس.
في حال التوجه نحو مزيد تدخل الدولة في السياسات النقدية في تونس، هناك مخاوف من أن يشمل ذلك طباعة العملة بكثافة، خاصة في ظل العجز المالي المتزايد وصعوبة الاقتراض من الخارج
وإن كان لهذه الخطوة داعمين ومنظرين لفوائدها المباشرة على المالية العمومية إلا أن منتقديها يعبرون عن خشية من توسع تدخل الدولة، إبان إلغاء فصل استقلالية البنك المركزي، ويتخوفون من تدخلها بشكل أكبر وبطريقة متصاعدة في السياسات النقدية، مما قد يشمل طباعة العملة بكثافة، خاصة في ظل العجز المالي المتزايد وصعوبة الاقتراض من الخارج.
لكن لما كل هذا التخوف من طباعة العملة بكثافة ودون تحديد وضبط من البنك المركزي؟ سأحاول في هذا التقرير، عبر مجموعة من الأسئلة والإجابات، البحث عن إجابات وتوضيحات.
- هل يمكن لأي دولة طباعة العملة كما تشاء؟
في السابق، كانت النقود تُطبع بناء على ما تمتلكه دولة ما من ذهب، لكن منذ السبعينيات، وتحديدًا عندما انطلقت الولايات المتحدة الأمريكية في طباعة الدولار خارج هذا الإطار، صارت قيمة العملة تُحدد بحرية من قبل مسؤولي دولة ما.
منذ السبعينيات، صارت قيمة العملة تُحدد بحرية من قبل مسؤولي دولة ما وذلك خارج إطار مقدراتها من الذهب (صورة ياسين محجوب/Nurphoto)
- أي تأثير لطباعة النقود بشكل مكثف على الاقتصاد؟
هنا تتعالى أصوات عدة، إن كان الأمر بهذه السهولة والبساطة لما لا تتم طباعة العملة بكثافة في أي دولة وتسدد بذلك ديونها وتنفق على شعبها وتكسب وده؟
تدور إجابات عدة مختصين في الاقتصاد حول العالم حول أن طباعة العملة بشكل غير حكيم وغير مدروس ستؤدي، ولو بعد مدة وليس بشكل مباشر، إلى انهيار الاقتصاد ويعددون الأمثلة والتجارب بخصوص ذلك ومنها المثال الفنزويلي.
طباعة العملة بشكل غير حكيم وغير مدروس ستؤدي، ولو بعد مدة وليس بشكل مباشر، إلى انهيار الاقتصاد والنهج السليم هو تحفيز الإنتاج وزيادة النمو الاقتصادي
ويعتبرون أن النهج السليم لتطور الدول وتحسين دخل مواطنيها هو تحفيز الإنتاج وزيادة النمو الاقتصادي وحجم الاقتصاد وبذلك تُخلق فرص العمل وتتحسن الوضعية الاقتصادية للناس. ويضيفون أن الأسلم أن تتوفر العملة في دولة ما بما يتناسب مع عرض السلع والخدمات التي ينتجها اقتصادها مع تجنب كثافة طباعة النقود دون إنتاج حقيقي. لكن للبعض أن يتساءل هنا هل قيمة عملة دولة ما معبر بالضرورة عن قيمة اقتصادها؟
الأسلم أن تتوفر العملة في دولة ما بما يتناسب مع عرض السلع والخدمات التي ينتجها اقتصادها مع تجنب كثافة طباعة النقود دون إنتاج حقيقي
- هل قيمة العملة معبّرة بالضرورة عن قيمة الاقتصاد؟
تحدد بعض الدول قيمة عملتها حسب سوق العملات أي حسب العرض والطلب فترتفع قيمة العملة إذا زاد الطلب عليها، كما يؤكد ذلك المختصون في الاقتصاد. لكن قيمة عملة ما لا تعبر بالضرورة عن قيمة الاقتصاد فقد تكون العملة ضعيفة والاقتصاد قويًا والعكس كذلك ومن الأمثلة عن ذلك الين الياباني والدينار الأردني.
في تفسير ذلك، يذهب المختصون إلى أن الدول التي تعتمد التصدير والاستثمارات الأجنبية، تستفيد من القيمة الضعيفة للعملة أما الدول المستوردة فتفيدها القيمة المرتفعة للعملة. مع العلم أن بعض الدول تربط عملتها بعملة واحدة أجنبية كدول الخليج المرتبطة عادة بالدولار وقد تُربط العملة بسلة من العملات مثل وضعية الدينار الكويتي.
الأسلم أن تتوفر العملة في دولة ما بما يتناسب مع عرض السلع والخدمات التي ينتجها اقتصادها (صورة ياسين محجوب/Nurphoto)
- ما هي الحلول لتمويل الميزانية في تونس حاليًا؟
يذهب مختصون في الاقتصاد إلى اعتبار أن البنوك التونسية قد بلغت حاليًا مرحلة من الشح في السيولة وهي تقريبًا غير قادرة على مزيد إقراض الدولة مما قد يفسر توجه قيس سعيّد للتمويل المباشر للميزانية عبر البنك المركزي التونسي.
مختصون في الاقتصاد يعبرون عن الخشية من أن تتجاوز النقود التي تضخ في الاقتصاد حجم الاقتصاد الحقيقي في تونس مما قد يغذي التضخّم ويؤثر ولو تدريجيًا على قيمة الدينار التونسي
ولا ينفون الخشية أن تتجاوز بذلك النقود التي تضخ في الاقتصاد حجم الاقتصاد الحقيقي في تونس مما سيغذي التضخّم ويؤثر ولو تدريجيًا على قيمة الدينار التونسي. مع العلم أن المختص في الاقتصاد معز حديدان كان قد صرح مؤخرًا أن ديون الدولة التونسية لدى القطاع المالي بما في ذلك البنك المركزي، وفقه، تتراوح بين 25 و30 مليار دينار.
جدير بالذكر أن الرئيس التونسي سبق أن وجه انتقادات حادة إلى التداين الخارجي خاصة التوجه إلى صندوق النقد الدولي. وفي الأثناء، تعثرت محادثات حول قرض بقيمة 1.9 مليار دولار منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2022، حين توصلت تونس وصندوق النقد الدولي إلى اتفاق مبدئي، لكن سعيّد قال لاحقًا إنه لن يقبل "إملاءات" وأشار إلى أن خفض الدعم على مواد أساسية كالخبز وغيره قد يؤدي إلى احتجاجات.
وكانت نسبة التضخم في تونس قد سجلت، ارتفاعًا إلى مستوى 9.3% وفق آخر بيانات نشرها المعهد الوطني للإحصاء وتخص شهر أوت/أغسطس الماضي.
- تعليقًا على توجه سعيّد.. تصريحات المختصين تتراوح بين الدعم والتحذير
إثر زيارة الرئيس التونسي قيس سعيّد إلى مقر البنك المركزي وحديثه أمام المحافظ، تراوحت تعليقات المختصين في الاقتصاد بين دعم توجهه والتحذير من الخطى المتبعة لاحقًا.
في هذا السياق، دوّن المختص في الاقتصاد آرام بلحاج أن "موضوع إعادة النظر في دور البنك المركزي ضروري في تونس" مع ربط ذلك بـ"شرط أن تكون الأمور مدروسة والأهداف من وراء هذا التغيير محددة"، مضيفًا أن "الرئيس محق في مسألة مراجعة قانون البنك المركزي في اتجاه تقديم تسهيلات مضبوطة لدعم الميزانية والتركيز على مسائل النمو والتنمية (إلى جانب الهدف الرئيسي التضخم) ودعم الرقابة على البنوك والحد من نفوذها وتفعيل الشفافية صلب عمل لجنة التحاليل المالية…".
آرام بلحاج: "الرئيس محق في مسألة مراجعة قانون البنك المركزي في اتجاه تقديم تسهيلات مضبوطة لدعم الميزانية والتركيز على مسائل النمو والتنمية ودعم الرقابة على البنوك والحد من نفوذها"
وعن صندوق النقد الدولي، يعلّق بلحاج "أما فيما يخص استغناء تونس تمامًا عن صندوق النقد الدولي، أعتقد أن هذا الملف يجب أن يُدار بكثير من الحكمة والمنطق والبراغماتية بعيدًا عن معاداة هذه المؤسسات الدولية أو تخوين كل من يعتبر المعاملة معها (بمنطق السيادة طبعًا والمحافظة على مصالح تونس العليا) ضروري. فكل الدول تتعامل مع هذه المؤسسات وليست كل التجارب معها عبر التاريخ هي تجارب فاشلة.."، وفق تعبيره.
في سياق متصل، يقول أستاذ الاقتصاد رضا الشكندالي، في تدوينة على صفحته بفيسبوك، "في تقديري الرئيس وضع الأصبع على الداء لكن الحل لا يكمن في إطلاق يد الدولة للاقتراض المباشر من البنك المركزي متى تشاء وبأي مبلغ تشاء عبر تغيير القانون الأساسي للبنك".
رضا الشكندالي: "الحل لا يكمن في إطلاق يد الدولة للاقتراض المباشر من البنك المركزي متى تشاء وبأي مبلغ تشاء عبر تغيير القانون الأساسي للبنك"
ويوضح "وضع الرئيس أصبعه على الداء لأن ما تغير في القانون الأساسي للبنك المركزي في 2016 هو إحداث وساطة بينه وبين الدولة على مستوى الاقتراض الداخلي، فالبنوك أصبحت سمسارًا بين الدولة والبنك المركزي، تأخذ عمولات لذلك وتستفيد منها دون مخاطر تذكر حتى أصبحت هذه المهنة الجديدة هي المحبذة لدى البنوك التونسية والمؤدية إلى أرباح خيالية تغنيها عن إقراض المؤسسات الصغرى والمتوسطة بنسبة مخاطر عالية".
ويتابع "فالبنك المركزي يرفع نسبة الفائدة المديرية والبنوك تحقق الأرباح العالية على حساب المواطن التونسي الذي يدفع أقساطًا بمبالغ أعلى وعلى حساب المؤسسات الاقتصادية التي أصبحت كلفة الاستثمار لديها عالية فتتراجع عن الاستثمار والدولة هي الأخرى تستخلص ديونها بنسبة فائدة عالية وبالتالي بكلفة أعلى تجعل من عجز موازنة الدولة في ارتفاع مستمر يدفعها مرة أخرى إلى مزيد الاقتراض وبالتالي الوقوع في دوامة التداين على حساب السيادة الوطنية".
رضا الشكندالي: ندعم اقتراض الدولة المباشر من البنك المركزي لكن بشروط من بينها أن لا يمول هذا الاقتراض النفقات الاستهلاكية للدولة وأن يكون محددًا في قيمته وفي إطار التعاون بين البنك المركزي والحكومة
ويؤكد الشكندالي أنه يدعم اقتراض الدولة المباشر من البنك المركزي لكن بشروط، يعددها كالتالي:
ـ "أن لا يمول هذا الاقتراض النفقات الاستهلاكية للدولة بل لا بد أن تكون غايته النفقات الإنتاجية أي نفقات التنمية حتى يتحرك الاستثمار الخاص ويخلق المزيد من الثروة المنتجة ومن مواطن الرزق للتونسيين،
ـ أن يكون هذا المبلغ محددًا في قيمته،
ـ أن يكون في إطار التعاون بين البنك المركزي والحكومة أي في إطار السياسة المزدوجة عوضًا عن السياسة النقدية المنفردة المتبعة حالياً من طرف البنك المركزي أو السياسة الجبائية المنفردة المتبعة حالياً من طرف الحكومة".
وختم المختص في الاقتصاد قراءته بالقول إن "التغيير الأهم الذي يجب أن يحدث في القانون الأساسي للبنك المركزي هو إضافة هدف ثان للبنك وهو النمو الاقتصادي عوضًا عن هدف يتيم وهو التضخم المالي فعندما يرفع البنك المركزي نسبة الفائدة المديرية من أجل استهداف التضخم المالي، لا بد أن يأخذ بعين الاعتبار تداعيات ذلك على الاستثمار الخاص أي على النمو الاقتصادي وهو ما يتطلب سياسة مزدوجة بين السياسة النقدية والسياسة الجبائية في إطار تعاون تام بين الحكومة والبنك المركزي".
يُذكر أن القانون المتعلّق بضبط النظام الأساسي للبنك المركزي الصادر سنة 2016 هو قانون يعزز استقلاليته وتمت المصادقة عليه حينها كجزء من شروط الحصول على قرض سابق من صندوق النقد الدولي، ومنذ ذلك التاريخ وإلى اليوم لم يكن هذا التوجه محل إجماع أبدًا وعادة ما يطرح نقاشًا ورؤى متباينة بخصوصه.