مقال رأي
المشهد سيء للغاية: مجلس نيابي معطّل بدفع منظم وممنهج من قبل كتلة برلمانية تحن للاستبداد ومتقاطعة مع أطراف إقليمية تريد الانقلاب على التجربة الديمقراطية، وتوتر بين رئيس الجمهورية ورئيس البرلمان حيث مستوى الثقة بينهما أضعف من أي مرحلة سابقة، في حين أن البلاد في مواجهة أصعب أزمة اقتصادية منذ عقود بحكومة تصريف أعمال ودون أفق واضح لحكومة جديدة، حيث يمكن أن نذهب إلى انتخابات مبكرة بسبب الانقسام العميق في المشهد السياسي الحزبي.
يُضاف إلى ذلك وضع قابل للتدهور إقليمياً في السياق الليبي حيث أننا إزاء طبول الحرب وتصعيد الحرب الأهلية إلى حرب إقليمية، وما يمكن أن يعنيه ذلك من انفلات أمني متزايد على الحدود. نحن إزاء انزلاق متواصل ومؤكد نحو حالة بلد غير قابل للحكم، ومن ثمة اندثار الحزام الشعبي، وهو الأهم، للديمقراطية في البلاد.
نحن إزاء انزلاق متواصل ومؤكد نحو حالة بلد غير قابل للحكم، ومن ثمة اندثار الحزام الشعبي، وهو الأهم، للديمقراطية في البلاد
نقول دائمًا معشر المتفائلين بالديمقراطية في تونس وعندما يقارن وضعنا ببقية السياق العربي أن شروط الانقلاب بالقوة على التجربة الديمقراطية التي توفرت في بقية الأقطار العربية غير متوفرة في تونس. ليس لدينا جيش مورط في ماض من الانقلابات العسكرية وفي المصالح الاقتصادية تجعله متحفزًا لضرب أي انتقال ديمقراطي مثلما هو الحال في مصر. ليس لدينا انقسام طائفي يلعب عليه نظام استبدادي وأجهزة استخباراتية متغولة مرتبطة بالمافيات يمكن أن يساهم في جر البلد إلى التقاتل الأهلي بالتواطؤ مع المجاميع الإرهابية مثلما هو الوضع في سوريا. ليس لدينا وضع فراغ مؤسساتي ودمار في المجتمع الأهلي والمدني وشيوع ذهنية الميليشيات المسلحة عقب عشرات السنين من نبذ منطق الدولة تحت شعارات "الشعب المسلح" تسمح بضرب إمكانية بناء دولة مدنية ديمقراطية مثلما هو الحال في ليبيا.
اقرأ/ي أيضًا: أزمة تونس.. أجراس اللاعودة
نعم لا يوجد في تونس بلا شك شروط الانقلاب على الديمقراطية كما هو موصوف في التجارب أعلاه. لكن من المضلل أن نستكين إلى الاطمئنان المضلل أن الوضع في تونس خال من أي مسوغات الانقلاب. وهنا تدلنا التجربة أن العامل الأهم في حالة انزلاق نحو الاستبداد في كل التجارب المقارنة ليس الرافعة والآلية الحاملة للسلاح التي تقوم بالانقلاب، بل الأهم هو السياق والاستعداد الاجتماعي لقبوله بل وحتى للمطالبة به.
العامل الأهم في حالة الانزلاق نحو الاستبداد في كل التجارب المقارنة ليس الرافعة والآلية الحاملة للسلاح التي تقوم بالانقلاب، بل الأهم هو السياق والاستعداد الاجتماعي لقبوله بل وحتى للمطالبة به
سقط الانقلاب الأخير في تركيا ليس تحديدًا لغياب العامل اللوجيستي الذي يخول الانقلاب بل أساسًا وخاصة لوجود حزام اجتماعي واسع يتجاوز أنصار إردوغان وحزبه بل ويشمل حتى عددًا من معارضيه يتبرم ويرفض الذاكرة الدموية للانقلابات في تركيا، وقرر أن يقطع معها نهائيًا. بمعنى آخر، تراكم الانقلابات ومآسيها الدموية خلق تدريجيًا حصانة معنوية ووجدانية في العمق الاجتماعي سمحت بصد الانقلاب.
السؤال الآن بمعزل عن الآلية الحاملة للسلاح هل وصلنا في تونس إلى حالة نضج في "المجتمع العميق" ضد الانقلاب، ووعي متين وحالة حصانة ضد ذلك؟ لا أعتقد أن الجواب نعم. الصعود الواضح لما يسمى "الدستوري الحر" وزعيمته عبير موسي مثال واضح أن الحنين للاستبداد وتغوّل الدولة القهرية لا يزال يتم النظر إليه كحل ممكن من قبل قطاع واسع من الناس.
كنت زرت مصر بعد حوالي أسبوع من انقلاب 3 جويلية/ يوليو 2013، وما شدني بوضوح ليست الدبابات في الشوارع إذ لم يكن وجود العسكر في الشارع مختلفًا نوعيًا عن وجوده عندما زرتها إثر الانتخابات الرئاسية وصعود مرسي في صيف 2012. ما شدني بوضوح هي حالة الغليان والحنق وحتى الهستيريا في "المجتمع العميق" المؤيدة للانقلاب والاستعداد لتصديق كل مسوغاته، وبمعزل عن كل الأخطاء والتكبر الذي طبع آداء الإخوان قبل ذلك.
كانت الحاضنة الاجتماعية الواسعة للانقلاب هي الإطار الذي تحرك ضمنه، مثلما كانت الحاضنة الاجتماعية للثورة المصرية وما تلاها هو الإطار الذي حجم قدر العسكر على المناورة السياسية والاضطرار إلى الدخول في مسار انتقال ديمقراطي. الآلية المسلحة كانت دائمًا هناك مع ذاكرتها طويلة الأمد، لكن ما تغير هو مزاج الحاضنة الاجتماعية.
هل وصلنا في تونس إلى حالة نضج في "المجتمع العميق" ضد الانقلاب، ووعي متين وحالة حصانة ضد ذلك؟ لا أعتقد أن الجواب نعم
وهنا أعود إلى ما يجعلنا نفهم ونفسر عودة الشهوة الاستبدادية في قطاع متزايد من الناس. ليس هناك شك أن الأساس الذي يعود عليه ماضي التغول القهري هو الضعف الكبير في الإصلاح عمومًا والإنجاز الاقتصادي طيلة السنوات الأخيرة منذ الثورة. إذ لم يكن الوضع ليكون كما هو الوضع راهنًا، لو تقدمنا في معركة الشفافية وإعادة الثقة في الدولة وقدرتها على تفكيك معاقل الفساد، ولو تقدمنا في الجبهات الاقتصادية والاجتماعية الكبرى، من إصلاحات تنموية عميقة تضرب الحيف بين الجهات والفئات الاجتماعية وتقوي الطبقة الوسطى وحيث يكون الميزان التجاري إيجابيًا ونسبة التداين ضمن إطار التحكم.
أي تحليل يقتصر على أن ما يحصل هو فقط وحصرًا مؤامرة إقليمية بيدقها المحلي عبير موسي، إنما لا يساهم في حل المشكل وتفادي الانقلاب لكن ببساطة يعمق حالة التيه ويقوّض القدرة على الفهم والتعقل ومن ثمة يقوي شروط الانقلاب.
اقرأ/ي أيضًا: سعيّد والنهضة.. علاقة متوترة ليست في مصلحة أحد
مثلما قلت مباشرة بعد انتخابات 2019، وبعكس ما قاله عدد من الأصدقاء الذين أشاركهم الإيمان بالثورة لكن لا أشاركهم قراءتهم للقوى السياسية ومسارها منذ الثورة: ما يجب أن يحصل ليس "جبهة ثورية"، إذ لم تؤمن ما يسميه البعض "القوى الثورية" بأن نظيراتها هي فعلاً كذلك، ولكل منها سرديته للثورة.
ما كان يجب أن يحصل هو ببساطة الائتلاف على حد أدنى من الإصلاح. لكن ما حصل هو هيمنة الخلاص الحزبي الذاتي، ومصير الزعيم، ومن ثمة تسريع الأزمة وتقويض أكثر ائتلاف حكومي كان قادرًا على تحقيق بعض الإصلاح وقدر بشكل مثير للانتباه على مواجهة أزمة صحية واجتماعية مفاجئة وعميقة اجتاحت العالم بأخف الأضرار.
كان يمكن حتى آخر لحظة تفادي تقويض الائتلاف حتى بالتخلي عن رئيس الحكومة، لكن ما حصل هو الإصرار على تقويض ائتلاف وتعويضه بآخر. وفي المحصلة ضرب الثقة بين مكونات أساسية في المشهد الحزبي، ستكون القطيعة بينها عقبة أساسية في المستقبل، وضرب الثقة بين الرئيس والكتلة الأولى في البرلمان. ومن ثمة ضرب إمكانيات تشكيل حكومة قادمة بأخف الأضرار. وذلك ستستفيد منه أساسًا وخاصة عبير موسي.
الديمقراطية لا تزال صامدة في تونس، لكن شروط سقوطها للأسف بصدد التجمع مثل سحب عاصفة هوجاء.
اقرأ/ي أيضًا:
الحكومة بين الصراع الليبي والاعتذار الفرنسي
بورجوازية الريع في تونس: خريطة المصالح