مقال رأي
أذنت النيابة العمومية بالقطب القضائي للفساد المالي والاقتصادي، مؤخرًا، بإحالة رجل أعمال وآخرين بينهم أشخاص طبيعيين ومعنويين على التحقيق بتهم فساد مالي وبنكي مرتبطة ببنك عمومي على وجه الخصوص. ومن بين المحالين قضاة ومحامين على نحو يؤشر أيضًا لوجود شبكة فساد قضائي.
بداية، من البداهة بما كان التأكيد أن ورود اسم ما في قرار افتتاح البحث لا يعني إدانته، وبالخصوص، فإن وجود اسم قاض أو محام ما، سواء لنظره في ملف يتعلق بالمشتبه به الرئيسي أو نيابته له، لا يعني قطعًا تورّطه في شبكة فساد قضائي. وتجاوزًا لهذا الملف بحدّ ذاته، من القطع الارتباط الموضوعي بين شبكات الفساد المالي والسياسي والقضائي.
لا يمكن تحقيق غاية سامية، كإصلاح القضاء، بأدوات فاسدة كالإعفاء التعسفي دون ضمانات
وهنا، لا يمكن تجاوز أكبر قضية فساد قضائي تعلّقت بالرئيس الأول السابق لمحكمة التعقيب الطيب راشد، المشمول بالتتبّع في القضية المذكورة آنفًا، وهي قضية كانت تحت مباشرة النيابة العمومية بالمحكمة الابتدائية بتونس زمن تولّي البشير العكرمي وكالة الجمهورية بها، وكذا كانت تحت متابعة المجلس الأعلى للقضاء بما عكس وقتها تنازع النفوذ داخله بين فريق دافع للمحاسبة وآخر لم يكن متحمّسًا لها في أبسط توصيف.
من التعسّف القول إن زمن "العشرية"، والعبارة بات البعض يفضّل استعمالها إشارة لسنوات ما بين الثورة و25 جويلية/يوليو 2021، لم يكن الفساد القضائي موضع نظر، باعتباره حقيقة لا يمكن نكرانها، ولكن أيضًا باعتباره موضوعًا غير خارج عن نطاق المساءلة، التي يجب المضيّ نحوها رغم كل العقبات وتمدّد أيادي نفوذ مثل هذه الشبكات في جميع المستويات.
وربّما لا يجب تجاوز أن أمر إعفاء القضاة يوم 1 جوان/يونيو 2022 شمل القاضيين المذكورين، وهو إعفاء يظلّ متعارضًا مع ضمانات استقلال القضاة والموجبات القانونية بوجه عامّ، باعتبار أن الإعفاء لم يستبقه إعمال مبدأ المواجهة والدفاع، ولم يكن ضمن مساءلة تأديبية سليمة بداية من جهة التعهّد. وليس في رفض أمر الإعفاء أيّ تناقض مع مطلبية مكافحة الفساد القضائي، فلا يمكن بعنوان هذا استباحة أي انزلاق خطير.
ولتكن الصورة واضحة، الطيب راشد، الذي يظهر أنه عنوان فساد قضائي، كان المطلوب إعفاؤه وفق الضوابط السليمة وفي احترام مطلق للضمانات والإجراءات، وليس بجرّة قلم رئاسية، على نحو يجعله، من هذه الزاوية المحضة، ضحيّة إعفاء تعسّفي.
في الواقع، وفي هكذا ميدان، لا يمكن تحقيق غاية سامية، كإصلاح القضاء، بأدوات فاسدة كالإعفاء التعسفي دون ضمانات. وحقيقة، كانت لنا فرصة للإصلاح القضائي لمحاسبة الفاسدين ما قبل الثورة من بوابة قانون العدالة الانتقالية الذي يعطي لهيئة الحقيقة والكرامة صلاحية اقتراح غربلة الميدان القضائي عبر الإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي، وهي صلاحية لو تمّت ممارستها من الهيئة ثم من الجهات المعنية وتحديدًا المجلس الأعلى القضاء، لما ظلّ رؤوس الفساد القضائي يشيعون بممارساتهم الضارّة بعد الثورة، ومن بينهم الطيب راشد على سبيل التخصيص.
كانت لنا فرصة للإصلاح القضائي من بوابة قانون العدالة الانتقالية الذي يعطي لهيئة الحقيقة والكرامة صلاحية اقتراح غربلة الميدان القضائي عبر الإعفاء أو الإقالة أو الإحالة على التقاعد الوجوبي، وهي صلاحية لو تمّت ممارستها من الهيئة ثم من الجهات المعنية لما ظلّ رؤوس الفساد القضائي يشيعون بممارساتهم الضارّة
ولا يفوت، في الدلالة على مخاطر استعمال الأدوات الفاسدة كالإعفاء الرئاسي في إبعاد قضاة بتعلّة فسادهم، هو أن الإعفاء عام 2022 شمل قضاة كانوا في الصفوف الأولى للمطالبة بالمساءلة ومحاسبة الرئيس الأول السابق لمحكمة التعقيب في خضم معركة فرض محاسبته عبر المجلس الأعلى للقضاء. وهم قضاة ضربهم سيف الإعفاء أيضًا ولكن أساسًا لمواقفهم الحازمة والمناصرة لاستقلالية القضاء. خسرت بذلك السلطة القضائية أبناءها المؤمنين بسلطان القانون على القضاة ولزوم محاسبتهم حالة ارتكابهم لجريمة، بعيدًا عن أي حمائية قطاعية.
وهنا، إنّ استقلال القضاء، أي قدرة القضاة على ممارسة وظيفتهم عبر ضمانات تؤمن استقلالية قراراتهم، يظلّ هو الشرط الجوهري الذي لا تفريط فيه لضمان، وفيما يهمّنا في هذا المقال، تطبيق القانون على شبكات الفساد ومنها الفساد القضائي، ومكافحة صارمة وناجعة للإفلات من العقاب. إذ إنّ استبطان القاضي لإنفاذ القانون دون تمييز، ودوره في مكافحة الفساد بوجه عامّ يستلزم أن يكون القاضي مستقلًّا في قراره عن أي جهة، سلطة تنفيذية كانت أو غيرها، لأن عدم الاستقلالية يجعله رهين رغبة هذه الجهة أو تلك، التي قد يكون انخراطها في مكافحة الفساد إما مناسبتيًا أو تمييزيًا.
لا يمكن الفصل بين استحقاق استقلالية القضاء واستحقاق مكافحة الفساد القضائي، إذ أنّ القضاء المستقلّ الذي يتحوّز على ضمانات استقلاليته، هو الأرضية الصارمة لمكافحة الفساد القضائي
فلا يمكن تأمين انخراط مبدئي وحازم وصارم إلا عبر قضاة في نظام قضائي مستقلّ وقويّ، قادر على مواجهة أي محاولات تأثير من أي جهة كانت. والمقابل هو أن النظام القضائي غير المستقلّ الذي يفرز قضاة دون ضمانات استقلالية أو ممّن يعوّل على الأقل على قناعتهم الذاتية بها دون ضمانات لفرضها، يظل هشًّا عبر إمكانية توظيفه واختراقه من شبكات الفساد.
بالنهاية، لا يمكن الفصل بين استحقاق استقلالية القضاء واستحقاق مكافحة الفساد القضائي، إذ إنّ القضاء المستقلّ الذي يتحوّز على ضمانات استقلاليته، وهو الأمر غير اليسير والذي يستدعي إصلاحات قد تكون بطيئة في الزمن ولكنها منتجة للمبتغى بالنهاية، هو الأرضية الصارمة لمكافحة الفساد القضائي. وعدا ذلك هي مغامرة غير محمودة العواقب، لأنه مهما كانت النوايا نزيهة، فإن الأدوات الفاسدة لا تؤدي، في العمق، إلا لتحقيق نتيجة فاسدة. هنا مثلًا، إنّ الصرامة في مكافحة الفاسدين لا تعني أننا نتخلى عن الحق في محاكمة عادلة لهم، ولا يوجد أي تناقض بينهما كما يوهم البعض. فلا محاسبة عادلة، بالنهاية، إلا بمحاكمة عادلة.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"