مقال رأي
في 14 جانفي/يناير 2011 ارتفع شعارٌ سياسي بشارع الحبيب بورقيبة الذي سيُصبح فيما بعد شارع الثورة يجمع بين "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين". وهو أقرب إلى الحدس الفطري عند جموع لم تحجب عنها ثقافتها السياسيّة الانتباه إلى علاقة الظلم الموجّه إلى الناس من قبل نظام الاستبداد والظلم الموجّه إلى أهل فلسطين من قبل نظام الاحتلال الاستيطاني.
لكنّ الأمر سيتحوّل إلى موقف سياسي يذهب إلى حدود تلازم المقاومة والمواطنة. ويمكن ترجمة الفكرة إلى انّه لن يحرّر فلسطين سوى الإنسان الحر، وأنّ في تحرير مساحات التعبير الحر من ربقة الاستبداد دعمًا لفلسطين ولمقاومتها.
في ثورة 2011 تم رفع شعاريْ "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين" وهو أقرب للحدس الفطري عند جموع انتبهت إلى علاقة الظلم الموجّه للناس من قبل نظام الاستبداد والظلم الموجّه إلى أهل فلسطين من قبل نظام الاحتلال
ويعدّ تلازم المواطنة والمقاومة إضافة الربيع وأساسَ حركته. ويختلف هذا عن سياق كان فيه التمييز بين مكونات نظام الاستبداد العربي يتمّ على قاعدة الموقف من "القضية الفلسطينية" المتوتر بين شعاري التصدّي للكيان والتطبيع معه، بغضّ النظر عن وضع الحريات. وهو جوهر فكرة الممانعة وما كان يمثلها داخل نظام الاستبداد العربي.
-
بنية الاستبداد الثلاثية
استقرّت بنية النظام السياسي الحديث على علاقة بين الدولة والمجتمع. ويقع المفهومان الحديثان خارج الانتماء الطبيعي كالعائلة والقبيلة. وهذا ما يجعل من الدولة مجتمعًا مدنيًّا قياسًا إلى ما يسمى بالحالة الطبيعية، وهي في جوهرها حالة مفترضة ووضعيّة متخيّلة. مثلما يكون هناك مجتمع مدنيّ قياسًا إلى علاقته بالدولة.
وتطوّر أساس الانتماء إلى الدولة باتجاه المواطنة، إذ أنّ ما يجمعهم ويمكّنهم من بناء عيش مشترك هو انتباههم إلى أهميّة النقطة التي يتقاطعون عندها رغم اختلافهم وتتمثّل في علاقتهم بالجهاز السياسي الذي يمنع تظالمهم وهو الدولة ويتولى حمايتهم ورعايتهم، ولن يمنع هذا في ملابسات معيّنة من أن يكون من هذا الجهاز الذي يحتكر شرعيّة العنف (ماكس فيبر) ظلم (السياسي والاجتماعي) تجاه "مواطنيه".
يمثّل التوازن بين الدولة والمجتمع شرط الديمقراطيّة. لذلك كانت بنية النظام السياسي الحديث ثنائيّة تتيح الاختيار الحر في ظل علوية القانون والفصل بين السلطات، وهي صورة مما بلغته الحداثة السياسية في الغرب
نشير إلى كل هذا للوصول إلى طبيعة النظام السياسي الحديث الذي يقوم على معادلة بين المجتمع والدولة. فإذا كانت للدولة سطوة على المجتمع كان النظام السياسي دكتاتوريًّا، وهو غير نظام الاستبداد الذي سنتوقف عند خصائصه السياسيّة. ويكون ضعف الدولة أمام المجتمع مقدّمة إلى الفوضى واختلال النظام وتوفر شروط الاحتراب الأهلي.
وقد تكون هذه الحالة أثناء الثورة، لكنّها في الغالب تكون مؤقّتة. إذ تتفق الجموع الثائرة على مبادئ جديدة هي في حقيقتها أسس الدولة الجديدة. وبهذا المعنى تكون لحظة إسقاط الدولة هي في الآن نفسه لحظة التفكير في بنائها. كأنّها ضرورة لا ملجأ منها إلاّ إليها.
ويمثّل التوازن بين الدولة والمجتمع شرط الديمقراطيّة. لذلك كانت بنية النظام السياسي الحديث ثنائيّة تتيح الاختيار الحر في ظل علوية القانون والفصل بين السلطات. وهي صورة مما بلغته الحداثة السياسية في الغرب. وقد تسنّى تعميم أسلوبها في الانتظام السياسي لتصبح نموذجًا عابرًا للقارات والثقافات.
تبدو بنية الاستبداد ثلاثيّة، إذ تقوم إلى جانب الدولة والمجتمع قوّة ثالثة فوق الدولة والمجتمع والقانون وقد تكون هذه القوّة سلطة فرد أو عائلة أو مؤسسة، ومعها يستحيل الاختيار الحر وما تديره من انتخابات فهو شكلي بلا أيّ قيمة سياسية
قياسًا إلى هذا النموذج السياسي الحديث تبدو بنية الاستبداد ثلاثيّة. إذ تقوم إلى جانب الدولة والمجتمع قوّة ثالثة فوق الدولة والمجتمع ومن ثمّ فوق القانون غير منزهة عن العبث. وقد تكون هذه القوّة سلطة فرد أو عائلة أو مؤسسة عسكريّة. ومع هذه البنية يستحيل الاختيار الحر. وما تديره من انتخابات فهو شكلي صوري بلا أيّ قيمة سياسية.
-
أثر الربيع وثورته
خصّ الربيع المجال العربي، وقد يعود هذا إلى خصوصيات لسانيّة وجغرافية واستراتيجية تدفع كلّها إلى وحدة هذا المجال. ومن ثمّ وحدة إشكاليته السياسية. وتتمثّل في أنه لم يتمكن من بناء كيانه السياسي على غرار المجالين الجارين التركي والإيراني. وقد تمكنا في ملابسات خاصّة بكل منهما من بناء دولته. وصار واضحًا أنّ تعطل المجال العربي عن بناء كيانه وتأخره عائد إلى عاملين هما الاستبداد والاحتلال. وهذا ما ظهر في ربط الجموع في شعاراتها بعفويّة بين "إسقاط النظام" و"تحرير فلسطين".
وكانت منهجيّة الربيع واضحة بتركيزها على إسقاط النظام نظام الاستبداد ذي البنية الثلاثيّة وفرض بنية سياسيّة ثنائيّة تجتهد من خلالها في إقامة توازن بين الدولة والمجتمع هو شرط الاختيار الشعبي الحر. وقد أمكن إجراء انتخابات في ثلاثة أقطار من بلدان الربيع وهي مصر وتونس وليبيا. ولذلك كانت الدول الثلاثة من دول الربيع التي عرفت انتقالًا ديمقراطيًّا.
كانت منهجيّة الربيع العربي واضحة بتركيزها على إسقاط النظام نظام الاستبداد ذي البنية الثلاثيّة وفرض بنية سياسيّة ثنائيّة تجتهد من خلالها في إقامة توازن بين الدولة والمجتمع
وأمّا ليبيا فقد عرفت انزلاقًا سريعًا إلى الحرب الأهليّة بعد نجاحها في انتخاب سلطة تشريعيّة (مؤتمر وطني العام). ويعيد العارفون بليبيا الأمر إلى قوّة العوامل القبليّة والمناطقيّة وحجم التدخّل الأجنبي. فالناتو الذي ساهم في إسقاط نظام معمّر القذّافي لم يكن له قوّة تمثّله على الأرض في بادئ الأمر وخشي أن تكون الكلمة الأولى في مستقبل ليبيا للإسلام السياسي والجماعات السلفيّة التي ناصرت الثورة وانتقالها (مدينة درنة) فعمل على صناعة ممثل له فكان المشير خليفة حفتر، حامل الجنسية الأمريكيّة، نقطة التقاء للثورة المضادّة في ليبيا وجوارها وفي المجال العربي.
وفي مصر أمكن إجراء انتخابات ديمقراطيّة، رغم تواصل بنية الاستبداد الثلاثيّة حتى بعد الإطاحة بحسني مبارك. ويعود الأمر إلى منزلة المؤسسة العسكريّة في النظام السياسي في مصر منذ ثورة يوليو 52. فإذا كان لكل دولة جيش فإنّ للجيش المصري دولة. ورافق هذا الشكل السياسي ثورة 25 يناير.
ولقد أمكن للمؤسسة العسكريّة أن تقرأ جيّدًا حجم الانتفاض المواطني في ميادين القاهرة، فتخلّت عن حسني مبارك وجانب من نظامه، وأخذت مسافة من المشهد السياسي دون افتقاد القدرة على التحكم بتفاصيله. مما وفّر إمكانية الاختيار الحر.
وفي تونس كان هروب بن علي أمام عاصفة الانتفاض المواطني في الهامش المفكّر. وكانت نتيجته كسر بنية نظام الاستبداد، فكانت الانتخابات التأسيسية في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 أوّل انتخابات فعليّة في تاريخ تونس الحديث.
-
استعادة البنية الثلاثية
كانت الحرب الشعواء التي شنّت على الربيع واتجاهه إلى تأسيس الحريّة وبناء الديمقراطيّة وإخراج المجال العربي من حالة الاستثناء شاملة ومدمّرة. إذ كانت دولة الكيان الوظيفيّة تفاخر بأنّها الديمقراطية الوحيدة في بحر الاستبداد العربي الذي "حاربها" باسم وطنيّة لم تستطع أن تتحوّل إلى مواطنة. وانتهى إلى "ممانعة" تشهر شعاراتها في وجه الصهيونيّة والتطبيع معها وسلاحها وقمعها في وجه "السكان" ومنعهم من أن يصبحوا "مواطنين".
وكانت الغاية من هذه الحرب على الربيع الذي طرق أبواب "وول ستريت" بشعاره "الشعب يريد إسقاط النظام" استعادة بنية نظام الاستبداد الثلاثيّة. ولذلك كان الكيان من أعداء الربيع "العبري" الألدّاء إلى جانب نظام الاستبداد العربي مدعومًا بالقوى الإقليميّة التي رأت مصلحتها في تواصل علاقتها بالكيان (تركيا) أو في بقائه. ومن ثمّ بقاء المجال العربي فراغًا استراتيجيًا ملائمًا لمدّ النفوذ والاستعداد للقادم من الترتيبات الدولية المتسارعة (إيران).
كانت الحرب الشعواء التي شنّت على الربيع العربي واتجاهه إلى تأسيس الحرية وبناء الديمقراطية وإخراج المجال العربي من حالة الاستثناء شاملة ومدمّرة، إذ كانت دولة الكيان الوظيفيّة تفاخر بأنّها الديمقراطية الوحيدة في بحر الاستبداد العربي
كانت الحرب على الربيع وثورته قاسية ودامية، ولم تنغلق عشريّة الربيع الأولى حتى كانت أبواب آخر تجاربه توصد. وكان غلق قوس الربيع متدرّجًا مسايرًا لطبيعة السياقات التي اندلع فيها. فكان تطييف السياق السوري وتسليحه كافيًا لأن تنزلق مطالب الشعب السوري في الحريّة والكرامة إلى احتراب أهلي، بل إلى "حرب عالميّة" شاركت فيها قوى إقليميّة ودوليّة عظمى تركت أثرها في سوريا من خلال جيوشها وميليشاتها الرابضة بها ولم تغادر (الولايات المتحدة، تركيا، إيران، روسيا، بريطانيا.. إلى جانب الكيان في الجولان).
فسوريا اليوم محتلّة من كلّ هذه الدول. والسياق السوري مطبّ لم يدرك أنصار الربيع خطورته وخصوصيته. فلم يدركوا بأنّ سوريا كانت ولا تزال نقطة التقاء لكلّ الاستراتيجيات. وقد يشهد طوفان الأقصى منعرجه الحاسم عندها. أمّا اليمن وليبيا فقد كان دفع الانتقال إلى احتراب أهلي مبكّرًا لعوامل يشترك فيها البلدان رغم قوّة المشاركة الشعبية فيهما، لكنّ حجم التدخّل الخارجي فيهما كان كبيرًا.
كذلك كان العامل الخارجي الإقليمي (وجود الكيان) حاسمًا في تحديد مستقبل الثورة في مصر وفي مآل انتقالها الذي تواصل ثلاث سنوات. وكانت عبارة "لن نترك غزّة وحدها" من قيادة مصر الجديدة المنتخبة ديمقراطيًّا لأول مرة في تاريخ مصر السياسي كافيًا للانقلاب على انتقالها الناشئ.
وإذا كان لكلّ دولة جيش فإنّ للجيش المصري دولة. ولقد كان لانتفاض الميادين الهائل في الثورة دور في تراجع المؤسسة العسكريّة تكتيكيًّا مما سمح بتوفر بشروط اختيار ديمقراطي على ضوء نتائجه كان القرار بغلق قوس الانتقال.
في تونس مرّ الانقلاب على الديمقراطيّة بمرحلتين، رغم أنّ تاريخ هذا الانتقال كان في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال
وفي تونس مرّ الانقلاب على الديمقراطيّة بمرحلتين، رغم أنّ تاريخ هذا الانتقال كان في حقيقته تاريخ محاولات الانقلاب على هذا الانتقال. فكانت المرحلة الأولى بواسطة الحوار الوطني الذي لم يطح ببنية النظام الديمقراطي الثنائيّة (دولة، مجتمع)، ولذلك أمكن الذهاب على ضوء انتخابات 2014 إلى تسوية سياسية بين أهم مكونين في المشهد السياسي لكنها لم تثبت لأسباب عديدة ومركّبة.
وهو ما مهّد لانقلاب 25 جويلية/يوليو 2021 الشعبوي الذي أطاح ببنية النظام الديمقراطي واستعاد بنية نظام الاستبداد الثلاثيّة. هذا من زاوية سوسيولوجيا الدولة والأنظمة السياسيّة. وأمّا ادعاءات القاعديّة والأفقيّة والمجالسيّة فإنّها تبقى ضمن بنية الاستبداد الأشدّ صرامة.
أسباب غلق قوس الربيع توجد أيضًا في طبيعة القوى التي أفرزها وفي الشروط التي تمّ جمعها لبناء الديمقراطيّة، ولكن مع فارق نوعي هو أنّ أخطاء الممارسة داخل الانتقال الديمقراطي لا يمكن أن توضع على نفس الصعيد مع خطيئة الانقلاب على الديمقراطية ونصوصها المرجعيّة ومما بنته بجهد جهيد من مؤسسات كان يمكن أن تمثّل أسسًا لديمقراطيّة عربيّة قد تسهم بإضافة للخروج أزمة الدولة الحديثة وديمقراطيتها المشروطة بالهيمنة ويبقى الربيع أفقًا والديمقراطيّة المشروطة بالحرية مآلًا.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"