للنخيل وواحاته بالجنوب التونسي الذي يضمّ أكثر من 3 مليون نخلة، قصص وحكايات لا يعرف تفاصيلها سوى من جرحت أياديهم وأقدامهم بأغصان تلك الأشجار وهم يرعونها مذ كانت فسائل حتى جني تمورها الذهبية. يعمل في تلك الواحات آلاف السكان ممن وفر لهم النخيل موارد رزق مختلفة بدءًا ببيع التمور أو حتى بيع نواتها التي تستغل علفًا للحيوانات أو تستعمل في بعض المنتوجات الغذائية على غرار "البسيسة" والقهوة، مرورًا إلى بقايا العراجين التي تباع حطبًا أو علفًا للإبل، وصولًا إلى بقايا سعف النخيل الذي يستعمله بعض الحرفيين لصناعة السلال والسجاد والقفاف وغيرها منذ سنوات.
ولكن هل خطر ببالك يومًا أن تكون بقايا النخيل جزءًا من ديكور بيتك أو ديكور إحدى المقاهي أو المطاعم التي ترتادها؟ أو تشتري تحفة صنعت من بقايا أشجار النخيل وعراجينه أو سعفه؟
هل خطر ببالك يومًا أن تكون بقايا النخيل جزءًا من ديكور بيتك أو ديكور إحدى المقاهي أو المطاعم التي ترتادها؟
لا شكّ أنّ أشجار النخيل لعبت دورًا حيويًا هامًا في حياة سكان أهل الجنوب في عدّة ولايات، فقد كانت ولا تزال مصدرًا لغذائهم ورزقهم، فيما استعمل خشب ذلك الشجر وسعفه قديمًا في تشييد أسقف البيوت والأكواخ وحتى صناعة أبواب البيوت وبعض الأثاث والصناعات اليدوية الأخرى.
فيما تُستخرج من ليف النخيل حبال عريضة متينة استعملت سابقًا في عدّة صناعات. هي حرف فرضتها الحياة البدائية لكن تمّ الاستغناء عنها تدريجيًا بفضل التطور الصناعي إلاّ أنّ استغناء الناس عن بقايا سعف النخيل جعلها تصبح اليوم مصدرًا للإزعاج وعبئًا على أصحاب الواحات نظرًا لتكدّسها في أكوام باتت أوكارًا للحشرات والزواحف، أو يقع حرقها أو طمرها للتخلّص منها.
إذ تتراكم على الأجزاء المختلفة لشجرة النخيل بعض البقايا النباتية والثمار الجافة التي تتساقط من العذوق أثناء فترة النضج وخلال عملية جمع المحصول. وتصبح تلك المواد والأجزاء المتبقية من العذوق القديمة، والتي لم يتم قصّها خلال الموسم، بيئة مناسبة لتكاثر العديد من الآفات، على غرار سوسة النخيل الحمراء، أو الحميرة، أو دودة الطلع الكبرى، والعناكب التي تتكاثر ويزداد عددها وأضرارها على أشجار النخيل.
ناصر غريرة مواطن يعيش في منطقة زعفران في ولاية قبلي يقوم بتحويل بقايا سعف النخيل إلى أثاث وتحف وديكور بأشكال مختلفة
ولذلك ينبغي القيام سنويًا بعمليات تنظيف الأجزاء المختلفة لتلك الأشجار، والتخلص من تلك البقايا وتجميعها بعيدًا عن الواحات مخافة احتراقها قرب أشجار النخيل أو تحوّلها إلى أوكار للحشرات التي تضرّ بالأشجار. وقد بات أغلب أصحاب هذه الواحات يتخلّصون منها غالبًا عبر الحرق نظرا لعدم استعمالها أو استغلالها في بعض الصناعات.
في ولاية قبلي وتحديدًا في منطقة زعفران يعيش ناصر غريرة قرب تلك الواحات، وتمثل أشجار النخيل جزءًا من حياته اليومية كغيره من أهل تلك المنطقة. فكّر منذ ثلاث سنوات في إمكانية استغلال البقايا التي تتلف أو تحرق سنويًا بكميات كبيرة، وما يمكن أن يصنعه منها. فانطلق في البداية بصناعة بعض الأثاث الذي يمكن أن يستعمل في حدائق البيوت أو حتى في الحدائق العمومية من كراسي وطاولات تصنع أساسًا من أغصان السعف المتينة التي يتخلّص منها أصحاب الواحات سنويًا.
يستغل ناصر غريرة بقايا النخيل لصنع أثاث من كراسي وطاولات
استطاع ناصر فعلًا صنع أشكال مختلفة من الكراسي والطاولات عبر استعمال فقط مخلفات النخيل. كما استطاع ترويج بعض تلك المصنوعات في بعض المقاهي في الجهة معتمدًا على مواد طبيعية صديقة للبيئة كما يقول. يتحدث إلى "ألترا تونس" قائلًا: إنّ أغلب الحرفيين ممن يصنعون السلال أو القبعات أو بعض السجاد يستعملون أساسًا أوراق السعف وهي خضراء حتى تكون طيعة خلال عملية لفها أو نسجها. فيما يقع التخلّص من الغصن الخشن بعد قص أوراق السعف. ويقع استغلال بعض تلك الأغصان في مرادم الفحم أو في أسقف بعض الأكواخ التي تبنى للمواشي لكن مع ذلك يتمّ إتلاف الآلاف منها سنويًا دون الحاجة إليها".
وقد أشار محدّثنا إلى أنّه يحصل على تلك البقايا دون مقابل، ففكر في كيفية استغلالها أكثر لا سيما وأنّها قد تستعمل كخشب متين لصناعة بعض الأشياء التي يمكن استعمالها في الحياة اليومية.
نجح ناصرغريرة في الترويج لمنتوجاته الصديقة للبيئة في قبلي
يبدأ ناصر كما يقول في تصميم شكل الكرسي وحجمه أو شكل الطاولة وبعض تفاصيلها ليقوم بتطبيق ما صممه بمفرده دون مساعدة، ثمّ يقضي عدّة ساعات في تركيب تلك الأجزاء التي قصّها بشكل متقن. بعد الانتهاء من تركيب الكرسي أو الطاولة، يقوم بطلاء ما صنعه بملمّع الخشب. وقد لقيت بعض تلك المنتوجات إقبالًا من قبل عدّة أشخاص بالجهة لاسيما وأنّها لا تقل متانة عن أي أثاث آخر صنع من خشب باقي الأشجار.
ناصر غريرة: لاقت الفكرة استحسانًا في جهة قبلي ممن يرون أنّ بقايا النخيل يمكن استغلالها لصنع أشياء بسيطة بدل حرقها أو طمرها
بعد قدرته على صناعة بعض الأثاث البسيط من مخلفات النخيل، استطاع ناصر أيضًا صناعة بعض ديكور الأسقف التي يمكن أن تعوّض الديكور المصنوع من الجبس. فيما استطاع تزيين بعض الأبواب بالسعف بعد قصّها إلى أغصان متساوية في شكل قصبات رقيقة وابتكار أشكال مختلفة لتزيين تلك الأبواب.
يقول ناصر إنّ "الفكرة لقيت فعلًا استحسان العديد من أهل الجهة ممن يرون أنّ تلك البقايا يمكن أن تُستغل أيضًا لصنع أشياء بسيطة يقع استعمالها بدل حرقها أو طمرها" وقد تمكن مؤخرًا من تزيين مطعم بتلك البقايا وتلوينها.
وأضاف أنّه لا يجد مشكلًا في الحصول على المادة الأولية بل إنه يحصل عليها بسهولة ومجانًا من أغلب الواحات التي توجد فيها بقايا ومخلفات النخيل مشيرًا إلى أنّها لا تقلّ متانة عن خشب الأشجار ويمكن أن يصنع منها العديد من الأشياء التي تستعمل يوميًا واستغلالها في مواطن رزق للعديد من أبناء المنطقة إذ توفرت لديهم القدرة على الابتكار وإبداع أشياء جميلة على حد تعبيره.
بقايا ومخلفات النخيل لا تقلّ متانة عن خشب بقية الأشجار