تعبر التونسية سنية الأبيضي أسطر الزهور التي توزعت في منبتها بمدينة طبرقة في الشمال الغربي التونسي حاملة سلّة رصّفت فيها بعناية أنواعًا من الورود مختلفة ألوانها. يحملك حدسك البسيط المغرق رومانسية إلى أنها تعدّ باقة جميلة لمتحابّين أو لتزويق مناسبة سعيدة، ولكن ربما يسقط في يدك عندما تعلم أنها طلبية موجّهة إلى أحد المطاعم الراقية في ضواحي العاصمة لإعداد أطباق ووجبات للأكل.
الطريق المؤدي إلى منبت زهور سنية وعر وضيّق رغم رحابة الفكرة وجرأتها التي جعلتها تتوسّط وزهورها الغذائية نسيجًا متراميًا من الحقول اعتاد أصحابها منذ عقود على إنتاج ما يشبع البطون خبزًا في منطقة صنفها المعهد الوطني التونسي للإحصاء أواخر 2020 من بين الأفقر على مستوى البلاد، ولذلك تعتبر زراعة الزهور بدل القمح أمرًا غير معتاد بل وحتى مثيرًا للسخرية والاستهجان أحيانًا.
عرف مشروع الزهور الغذائية طريقه إلى التنفيذ سنة 2018 وقد سبقته سنوات من الدراسة والتدقيق والتردّد المشوب بقلق
وعرف مشروع الزهور الغذائية طريقه إلى التنفيذ سنة 2018 وقد سبقته سنوات من الدراسة والتدقيق والتردّد المشوب بقلق أيضًا، غرقت خلالها سنية الأبيضي وهي خريجة المعهد الوطني للموسيقى في مفاهيم الجدوى والتكاليف وسبل التسويق والمخاطر، رحلة انطلقت شرارتها من متابعة لبعض مواقع التواصل التي خصّصت لعشاق المطبخ الفرنسي خاصة والغربي عامة وقد لفتت انتباهها إلى الفكرة.
منبت الزهور المعدة للأكل في طبرقة
اقرأ/ي أيضًا: صاحب مشروع تربية الذباب: سنعتمد بروتين الذباب في صناعة الخبز والمعكرونة
جذور تاريخية
تقول سنية الأبيضي لـ"الترا تونس" إن استعمال الزهور لإعداد أطباق وأكلات ليس بالأمر المستحدث الذي فرضته تقليعات الغرب أو جنون الطهاة العالميين، بل هو من الطقوس الغذائية التي ارتبطت بمفاهيم الاحتفال والولائم لدى اليونانيين والرومانيين منذ القديم ورغم الفتور الذي عرفه طهي الزهور واستهلاكها مطلع القرن العشرين إلا أنها عادت بقوّة في العشرية الأخيرة مع تصاعد الاهتمام بالطعام الصحي السليم.
سنية الأبيضي (باعثة المشروع) لـ"الترا تونس": استعمال الزهور لإعداد أطباق وأكلات ليس بالأمر المستحدث بل هو من الطقوس الغذائية التي ارتبطت بمفاهيم الاحتفال والولائم لدى اليونانيين والرومانيين منذ القديم
وتبيّن في حديثها لـ"الترا تونس" أنه إضافة إلى الخاصيات الطبية والعلاجية المتفق عليها للزهور فإنها تتميز بمذاق فريد ولذيذ وأن العائق الذي يقف بين عامة الناس واستهلاكها وطهيها لا يعدو كونه ثقافيًا مرتبطًا بالعادات الغذائية المتداولة منذ القدم عند التونسيين أو غيرهم من الشعوب الأخرى ولكن الأمر أقل حدّة عند الغرب الذي اعتادت وتصالحت مطابخه مع هذا الموروث الغذائي التاريخي منذ فترة.
وتؤكّد أن ما لا يعلمه الجميع أن العديد من أصناف الزهور المعدّة للأكل تمتلك نفس مذاق بعض الخضراوات التي دأب الناس على استهلاكها إضافة إلى الخاصيات الغذائية التي تجعلها بدائل للكثير من مكونات الأطعمة التونسية والعربية وهو ما جعلها تركز على أصناف دون غيرها لتماهيها مع العادات الاستهلاكية المشتركة، مضيفة أن الغربيين أكثر جرأة في اكتشاف النكهات الجديدة التي لم يعتادوا عليها.
وفي نفس السياق، تقول الكاتبة الفرنسية ميراي قايي وهي باحثة في المركز الوطني الفرنسي للبحوث والعلوم في كتابها "موسوعة الزهور الصالحة للأكل": "إن فكرة تناول الزهور ليست جديدة أو غريبة لكنها بلا شك تكتسب زخمًا ولا تزال تفاجئ الكثير منا إلى حدّ اليوم" وتحذّر الكاتبة قراءها من أن ما هو جميل ليس بالضرورة صحيًا، في إشارة إلى بعض الزهور السامة لذلك وجب الاعتماد على توجيهات المختصين قبل الشروع في استهلاكها.
سنية الأبيضي (باعثة المشروع) لـ"الترا تونس": إضافة إلى الخاصيات الطبية والعلاجية المتفق عليها للزهور فإنها تتميز بمذاق فريد ولذيذ
اقرأ/ي أيضًا: فيديو: أسرار تربية النحل في تونس
زراعة دقيقة
تشير الأبحاث والدراسات إلى وجود ما لا يقل عن 250 صنفًا من الزهور الصالحة للأكل والتي تتوزع بنسب مختلفة على دول العالم دون استثناء من ناحية الندرة والخاصيات المذاقية والغذائية نظرًا للتباينات المناخية وخاصيات التربة والتهاطلات التي تتغير نسبها وتواترها من منطقة إلى أخرى.
وفي هذا الصدد، تقول سنية لـ"الترا تونس" إنها اضطرّت إلى تحمّل تكاليف إضافية باهظة إلى حدّ ما من أجل تكثيف ورعاية بعض أنواع الزهور نظرًا لخاصيات التربة والمناخ في الشمال الغربي التونسي ولذلك اعتمدت على الأقفاص والهياكل الزراعية المعدنية المكيّفة لتستطيع توفير بعض الأصناف بالكميات الضرورية اللازمة لتلبية طلبات حرفائها من أصحاب المطاعم والفنادق الفخمة.
يضم منبت الزهور الصالحة للأكل حاليًا 10 أصناف بين ما يصطلح المختصون على تسميته "الزهور الغلال" التي تقدّم للمستهلكين للتحلية و"الزهور الخضر" التي يقع تقديمها مطهوّة
ويضم منبت الزهور الصالحة للأكل حاليًا 10 أصناف بين ما يصطلح المختصون على تسميته "الزهور الغلال" التي تقدّم للمستهلكين للتحلية وتقوم مقام الغلال والفواكه، وبين "الزهور الخضر" والتي يقع تقديمها مطهوّة في تشكيلات و أطباق مختلفة كوجبات رئيسية، ويرجّح أن يتضاعف عدد الأصناف في الفترة القادمة نظرًا للاتصالات التي بدأت صاحبة المشروع تتلقاها من شركات غربية قصد التعامل معها مستقبلاً.
وتشير سنية الأبيضي، خلال حديثها لـ"الترا تونس" إلى أن العمل في المنبت يتطلب متابعة مضاعفة وانتباهًا خاصًا نظرًا لحساسية وهشاشة الزهور إضافة إلى أن الأمراض التي يمكن أن تصيبها نتيجة لبعض البكتيريا والفطريات ليست متداولة في محيطها مما يجعلها وحيدة في مواجهة بعض هذه الآفات التي نجحت إلى حدّ الآن في صدّها وإبعادها عن منبتها عن طريق البحث المتواصل والاعتماد على المراجع والبحوث العلمية المختصة.
منبت الزهور المعدة للأكل في طبرقة
صعوبات
تتلخّص الصعوبات التي تواجهها سنية الأبيضي في تسيير مشروعها النوعي لزراعة الزهور المعدّة للأكل في مستويين، الأول يتعلّق باندماجها في محيطها الريفي الذي لا يزال يخطو بحذر نحو تقبّل المرأة التي تسيّر الأعمال الفلاحية أو غيرها من المشاريع خاصة غير المألوفة في تلك الربوع، وثانيًا بعض الصعوبات الإدارية المتعلّقة بالترخيص لها في استغلال الأرض وتصنيف الزهور وهي إشكالات في طريقها إلى الحل مع سلطات الإشراف بمدينة طبرقة، وفق محدثتنا.
ربما في فترات قادمة ستتغير بعض المفاهيم الاجتماعية والغذائية المتعلقة بأكل الزهور في تونس والبلاد العربية كما هو حال العديد من الاستثناءات التي أصبحت في ما بعد عادات مألوفة، ربما أيضًا وفي مستقبل غير بعيد سيقضم البعض منا زهرة أو زهرتين في الطريق من باقة اشتراها هدية لشخص عزيز على قلبه.
اقرأ/ي أيضًا: