01-نوفمبر-2019

عودة لمسار تأسيس مجلس الصحافة واستشراف لآفاق نجاحه (صورة أرشيفية/فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

 

أعلنت المنظمات المهنية الممثلة لقطاع الصحافة عن انطلاق مجلس الصحافة في أشغاله بنهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2019 بعد مسار طويل دام أكثر من 6 سنوات. نتناول في هذا المقال، في إطار سلسة مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019، مجلس الصحافة الجديد وتعريفه ومجال اختصاصه ومهامه والمسار الذي أفضى إلى تأسيسه وأفاق عمله ثم إشكالية ما يسمّى التنظيم (أو التعديل الذاتي) في الصحافة التونسية.

اقرأ/ي أيضًا: ملف: مستقبل الصحافة التونسية بعد انتخابات 2019 - الحوار مع الجمهور (3/1)

أولًا: ما هو مجلس الصحافة؟

مجلس الصحافة هيئة مستقلة تمامًا عن الدولة تتكوّن من ممثلين عن الناشرين (أو أصحاب المؤسّسات الصحفية) والصحفيين والجمهور، تقوم بمعالجة الشكاوى التي يتقدم بها المواطنون والمتصلة بالإنتاج الصحفي المكتوب والإلكتروني والإذاعي والتلفزيوني. ولا يمثل المجلس هيكلًا لممارسة الرقابة على الصحفيين أو للتدخل في الشؤون الداخلية للمؤسسات الصحفية.

وبشكل عام يقوم المجلس بمهمتين أساسيتين، وفق تعريف الشبكة المستقلة لمجالس الصحافة في أوروبا، وهما معالجة شكاوي المواطنين والدفاع عن الصحافة الحرّة والمستقلة. ولا تستند معالجة الشكاوى على القوانين بل على المواثيق الأخلاقية. والمجلس بهذا المعنى محكمة شرف وليس محكمة قضائية عادية، ولا يصدر عقوبات مالية أو قرارات بإيقاف الصحف بل يفض الخلافات بين الصحفيين والمواطنين حتى لا تطرح على القضاء.

 يمكن القول إن مجلس الصحافة يساهم في تطوير صحافة منفتحة على الجمهور مدركة لمسؤوليتها إزاء المجتمع وحريصة على أخلاقيات المهنة خاصة في السياقات الحالية التي تتسم بتراجع الثقة في الصحافة

وبشكل عام، يمكن القول إن مجلس الصحافة يساهم في تطوير صحافة منفتحة على الجمهور مدركة لمسؤوليتها إزاء المجتمع وحريصة على أخلاقيات المهنة خاصة في السياقات الحالية التي تتسم بتراجع الثقة في الصحافة.

وظهر أول مجلس صحافة في السويد في بدايات القرن الماضي ثم انتشرت مجالس الصحافة في أوروبا (ألمانيا وبريطانيا وأسبانيا وإيطاليا) وفي باقي دول العالم الديمقراطي في أوروبا وأمريكا الشمالية وفي آسيا باستثناء فرنسا التي تعد من الدول الديمقراطية النادرة التي لا يوجد فيها مجلس صحافة. ويفسر هذا الأمر عادة بثلاثة أسباب: أولًا تطوّر ما يسمّى آليات الوساطة الداخلية (أو ما يسمّى الموفق الإعلامي) في مؤسسات الميديا الفرنسية، وثانيًا رفض المنظمات المهنية الصحفية مشاركة منظمات الناشرين أو المالكين في مؤسّسة مشتركة قد تتحوّل إلى هيئة للتحكّم في الصحافة، وثالثًا طبيعة الثقافة الصحفية التاريخية التي تتسم بهيمنة صحافة الرأي على صحافة الإخبار أي صحافة غير منفتحة على الجمهور وقائمة على علاقة عمودية معه.   

أما في سائر الدول الديمقراطية الأخرى، يعدّ مجلس الصحافة هو الآلية التنظيمية والعملية التي تضمن للجمهور الحقّ في الأخبار ذات جودة لأنه يفعّل مسؤولية الصحفيين أمام المجتمع من خلال قبولهم الطوعي بالمساءلة عبر آليات مستقلة ومحايدة، ولأن التطبيق الفعلي للمواثيق الأخلاقية يفترض وجود هيئة قادرة على مراقبة تطبيقها ومساءلة وسائط الإعلام التي لا تحترمها.

ثانيًا: مجلس الصحافة كآلية أساسية من آليات المساءلة

 تمثل المساءلة (Accountability) آلية أساسية من آليات المساءلة في الصحافة، وتعني أن يقبل الصحفي وكذا مؤسسات الصحافة بحق الجمهور في نقد الصحافة على قاعدة الأخلاقيات الصحفية وفي الاستفسار عن المنهجيات المُستخدمة من الصحفيين والمؤسسات الصحفية. والمساءلة تعني أيضًا أن يكون الصحفي مسؤولًا عمّا يكتب، والمؤسسات مسؤولة عما تنشر، وأن يتحمل كلاهما نتائج هذه المسؤولية على غرار التصحيح والاعتذار.   

وتضمنت المواثيق الأخلاقية الصحفية الكبرى في العالم مبدأ المساءلة وأكدت عليه. فقد نصّ الميثاق المحيّن للاتحاد الدولي للصحفيين المعروف بـ"ميثاق تونس" في  فصله الأخير (عدد 16) على أن "الصحفي يقبل بالقوانين الجاري بها العمل في البلاد لكنه يقبل في ما يتعلق بالشرف المهني بالأحكام التي تصدرها الهيئات الصحفية المستقلة والمنفتحة على الجمهور ويرفض المثول أمام هيئات حكومية أو أخرى".

تعني آليات المساءلة في الصحافة أن يقبل الصحفي بحق الجمهور في نقد الصحافة على قاعدة الأخلاقيات الصحفية وفي الاستفسار عن المنهجيات المُستخدمة 

أما الميثاق الأخلاقي لجمعية الصحفيين المهنيين الأمريكية، فقد تضمّن بابًا كاملًا حول المساءلة جاء فيه أن "على الصحفي أن يقبل بالمسائلة وأن يكون شفافًا"، وأن يعمل "الصحفي على بيان مبادئه الأخلاقية وعمله إلى الجمهور"، وأن "يقبل الانفتاح على الجمهور حول الممارسات الصحفية والتغطية والمضامين الإخبارية"، وأن "يجيب الصحفي بسرعة عن تساؤلات الجمهور المتصلة بالدقة والوضع والإنصاف"، وأن "يعترف بأخطائه ويصلحها بسرعة وبالشكل المناسب".

أما الميثاق الأخلاقي لنقابة الصحفيين الفرنسيين، فقد أكد على "أن الصحفي لا يقبل في مجال الأخلاقيات والشرف المهني سوى المساءلة من طرف زملائه، إضافة إلى قبوله بمبدأ التنازع أمام القضاء في القضايا التي ينصّ عليها القانون".

في المقابل، لم يتضمّن ميثاق شرف النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين مبادئ خاصة بالمساءلة أو بالتنظيم  (التعديل) الذاتي أو بالمسؤولية الاجتماعية بشكل عام رغم أن الميثاق عرف تحيينًا عام 2014.

ثالثًا: مسار إنشاء مجلس الصحافة التونسي

ظهرت بوادر مشروع مجلس الصحافة في تونس عام 2013 مع انطلاق المشاورات بين النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والجامعة التونسية لمديري الصحف منذ بداية سنة 2013 حول مشروع إرساء مجلس صحافة.

اقرأ/ي أيضًا: في أزمة الديمقراطية التونسية المزدوجة: السياسة والميديا

ففي أفريل/نيسان 2013، نُظّمت ورشة تفكير للإعلان عن اتفاق مبدئي بين النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والجامعة التونسية لمديري الصحف على إحداث مجلس الصحافة، وتلت هذا الإعلان عدة اجتماعات وندوات. كما انتظمت استشارة عبر الأنترنت للصحفيين حول مشمولات المجلس وتركيبته وطبيعته القانونية وطريقة إحداثه. وفي عام 2017، اُحدثت جمعية "دعم مجلس الصحافة" هدفها تيسير إحداث مجلس الصحافة، ثم اُحدثت هيئة تأسيسية وقتية لمجلس الصحافة للعمل على إعداد الميثاق المرجعي لأخلاقيات المهنة الصحفية.

رابعًا: ما هي وظائف مجلس الصحافة الجديد؟

يقوم مجلس الصحافة بعدة وظائف، حسب مشروع قانونه الأساسي، ومنها على وجه الخصوص "مراقبة التقيد بالقواعد الأخلاقية للممارسة الصحفية"، و"مساعدة المؤسسات الإعلامية والصحفيين على ممارسة صحافة مهنية وذات جودة"، و"حماية حماية استقلالية الصحافة من أي تدخل أو ضغط محتمل مهما كأن مصدره"، و"إبداء الرأي في مشاريع القوانين والأنظمة المتعلقة بالمهنة أو ممارستها وفي كل المسائل الأخرى المتعلقة بمجال نشاطه".

ظهرت بوادر مشروع مجلس الصحافة في تونس عام 2013 مع انطلاق المشاورات بين النقابة الوطنية للصحافيين التونسيين والجامعة التونسية لمديري الصحف

كما يعد المجلس تقريرًا سنويًا عن المؤشرات المتعلقة باحترام حرية التعبير وانتهاكات مدونة أخلاقيات المهنة الصحفية. ويشمل عمل المجلس، على عكس الفكرة المتداولة، "جميع وسائل الإعلام التي تنشر أو تبث في تونس والتي تنتمي إلى الصحافة المكتوبة والمطبوعة والإلكترونية أو السمعية البصرية". فيما تمثل القرارات التي يتخذها المجلس والآراء التي يصدرها "فقه قضاء في مجال الأخلاقيات والعلاقات مع الجمهور".

خامسًا: تركيبة مجلس الصحافة الجديد

يعين أعضاء المجلس من عدة منظمات: النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين (عضوين)، والجامعة التونسية لمديري الصحف (عضو)، والرابطة التونسية لحقوق الإنسان (عضوين) باعتبارها منظمة تمثل الجمهور، والنقابة العامة للإعلام، والنقابة الوطنية لمؤسسات التلفزات الخاصة، والغرفة الوطنية النقابية للإذاعات الخاصة. ويعمل أعضاء المجلس بشكل تطوعي ولا يتقاضون أجورًا. ويقوم المجلس بإحداث لجان دائمة هي لجنة التكوين والتعاون، ولجنة الأخلاقيات، ولجنة إدارة الشكاوى.

سادسًا: معالجة الشكاوى ونظام "العقوبات"

يقوم المجلس بوظيفة أساسية تتمثل في معالجة الشكاوى التي يتقدم بها الجمهور، وتُعالج هذه الشكاوى على قاعدة مدونة أخلاقية. وفي هذا الإطار، تم إعداد مشروع مدوّنة أخلاقية استلهمت من المرجعيات الدولية، وتتضمن مبادئ خاصة بحقوق الصحافة وواجباتهم إضافة إلى المبادئ الكبرى للممارسة الجيدة للصحافة (السعي إلى الحقيقة والدقة).

كما تضمن مشروع قانون المجلس عدة مبادئ خاصة بمعالجة الشكاوى الذي ينصّ على أنه "يجوز لأي شخص طبيعي أو معنوي كضحية أو شاهد على انتهاك حرية الصحافة أو انتهاك لمدونة أخلاقيات المهنة الصحفية من قبل صحفي أو مؤسسة إعلامية أن يتقدم بشكوى إلى مجلس الصحافة دون تحمل المصاريف". وفي "نهاية الإجراءات المتعلقة بمعالجة الشكوى، يرفع رئيس لجنة إدارة الشكاوى إلى المجلس مشروع مقترح قرار بناء على تقرير معلل يقترح فيه إما حفظ الشكوى إذا رأى أنه لا يوجد مجال لمزيد التتبعات أو اتخاذ إجراء تأديبي في صورة ثبوت خرق لقاعدة أخلاقية".

يقوم المجلس بوظيفة أساسية تتمثل في معالجة الشكاوى التي يتقدم بها الجمهور، وتُعالج هذه الشكاوى على قاعدة مدونة أخلاقية

وينصّ مشروع القانون على أنه في حالة ثبوت مساس بمدونة أخلاقيات المهنة الصحفية، يلجأ المجلس إلى محاولات الصلح، وفي حالة فشل المساعي الودية لفض الإشكال، يمكن أن يتّخذ المجلس تدابير بموجب قرار معلل وهي إما الملاحظة أو اللوم.

وعلى هذا النحو، لن يعتمد المجلس مبادئ العقوبات المالية أو أي نوع آخر من العقوبات الأخرى لأن المجلس جمعية لا يخول له القانون ذلك كما أنه ليس هيئة عمومية حتى ينتصب كسلطة ترتيبية (على غرار الهيئات الدستورية مثل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات) إضافة إلى أن هذا النوع من العقوبات لا يتماشى وفلسفة التوفيق والوساطة التي يقوم بها المجلس.

 سابعًا: مجلس الصحافة أم عمادة؟

مجلس الصحافة هو هيئة تنظيمية (أو تعديلية ) أي أنها تُعنى بإدارة المهنة لذاتها عبر وضع المبادئ على الآليات المخصوصة على غرار المواثيق الأخلاقية أو محاكم الشرف. ويتّسم التنظيم (التعديل) الذاتي في مهن عديدة على غرار المحاماة والهندسة والطب بطابعه الشامل ويتمثل في مبدأ العمادة الذي تخضع لها المهنة برمتها: التكوين الأكاديمي، والولوج إلى المهنة، والآليات العقابية ومراقبة تطبيق ميثاق الشرف. ويفسّر وجود العمادة في هذه المهن بأهمية التكوين، فمزاولة الطب أو المحاماة تحتاج إلى سنوات من التكوين المتخصص والدقيق جدًا حتى يتمكّن الطبيب أو المحامي أن يمارس اختصاص دون الإضرار المباشر بمصالح الناس.

اقرأ/ي أيضًا: هل التلفزة التونسية مرفق عمومي حقًا؟

ويفسّر بعض الباحثين غياب العمادة في مهنة الصحافة بأن الصحفي لا يمارس مهنته بشكل مستقل، على غرار المحامي والطبيب، بل هو أجير في مؤسسة مما يعني أنه يخضع إلى آليات تجعل المسؤولية جماعية (مسؤولية رئيس القسم ورئيس التحرير).

أما في قطاع الصحافة فآلية العمادة غائبة تمامًا في كل الدول الديمقراطية باستثناء إيطاليا. ومن الأسباب الكبرى التي تفسر غياب آلية العمادة للتنظيم الذاتي للصحافة في الدول الديمقراطية ضمان النفاذ الحر للمهنة بما أن الصحافة مهنة مخصوصة متصلة بحرية التعبير. إذ يُمكن أن تُعتمد العمادة للرقابة على ممارسة المهنة، ولعل هذا ما يفسر أن عمادة الصحافة في إيطاليا لا تقوم بتنظيم النفاذ إلى المهنة بل تكتفي بتسجيل الصحفيين المحترفين وحتى الصحفيين غير المحترفين على لوائحها.

ثامنًا: كيف سيموّل مجلس الصحافة؟

يتكوّن مجلس الصحافة على عكس الهيئات الدستورية بما في ذلك الهيئة العليا للاتصال السمعي والبصري من أعضاء متطوعين لا يتقاضون أجورًا. ويحتاج المجلس، في المقابل، إلى تمويل أنشطته المتصلة بدراسة شكاوى المواطنين أو إصدار تقارير الرصد، إضافة إلى مصاريف الإدارة والمقرّ.

وتبين دراسة أنجزها تحالف مجلس الصحافة المستقلة في أوروبا أن 80 في المائة من نفقات مجلس الصحافة مخصصة للإدارة، وتتصل ميزانيات المجالس بعدد الشكاوى، ولذلك لا غرابة أن تبلغ ميزانية مجلس الصحافة البريطاني 6 مليون دينار تونسي بما أنه يتلقى أكثر من 30 ألف شكوى سنويًا.

كانت مسألة التمويل من الإشكاليات الكبرى التي طُرحت أثناء مسار إنشاء مجلس الصحافة، إذ طُرحت فرضية التمويل العمومي مما أثار بعض الاعتراضات على أساس أن هذا التمويل قد يهدد استقلالية المجلس

وكانت مسألة التمويل من الإشكاليات الكبرى التي طُرحت أثناء مسار إنشاء مجلس الصحافة، إذ طُرحت فرضية التمويل العمومي للمجلس مما أثار بعض الاعتراضات على أساس أن هذا التمويل يمكن أن يهدد استقلالية المجلس باعتباره هيئة مستقلة (في شكل جمعية).

لكن الرأي استقر في النهاية على أن يكون التمويل العمومي من المصادر الأساسية لتمويل المجلس وذلك لعدة أسباب أساسية أهمها أن المنظمات المهنية مصادرها محدودة مما قد يدفع المجلس للاعتماد أساسًا على الهبات الخارجية (منظمات دولية) وهو ما قد يقلص بشكل كبير من مصداقية المجلس لدى الصحفيين ويعرّضه إلى الشكوك.

وتجدر الإشارة هنا إلى أن مشروع القانون الأساسي الذي يتعلق بحرية التعبير والصحافة والطباعة والنشر تضمن فصلًا خاصًا بمجلس الصحافة لتأمين هذا التمويل العمومي. وجاء في هذا الفصل أن "للمنظمات المهنية للصحافيين وأصحاب المؤسسات الإعلامية وممثلين عن الجمهور هيكلًا مستقلًا يسهر على ضمان التعديل الذاتي وأخلاقيات المهنة يسمى مجلس الصحافة. وتتمثل موارد مجلس الصحافة في التمويل العمومي السنوي والتمويل المتأتي من الهياكل المهنية للإعلام طبقا لما يحدده مجلس الصحافة: التبرعات والهبات والوصايا".

 يساهم مجلس الصاحفة في تطوير المسؤولية الاجتماعية للصحافة وجودتها ومكانتها في المجتمع باعتبارها مؤسّسة من مؤسّسات الديمقراطية

ومن دواعي الاعتماد على التمويل العمومي أيضا أن مجلس الصحافة يمثل مرفقًا عموميًا، فهو يقدم خدمة للجمهور بما أنه يمثل آلية وساطة بينه وبين مهنة الصحافة. كما يساهم المجلس في تطوير المسؤولية الاجتماعية للصحافة وجودتها ومكانتها في المجتمع باعتبارها مؤسّسة من مؤسّسات الديمقراطية. ولذلك ولكل هذه الأسباب، تكون من مسؤولية الدولة المساهمة في تمويل مجلس الصحافة.

وفي تونس، يمكن أن نضيف سببًا آخر وجيهًا للتمويل العمومي لمجلس الصحافة وهو أن الدولة تمول بشكل مباشر عدة قطاعات أخرى على غرار الثقافة (السينما والمسرح والكتاب دون أن يضر ذلك بمبدأ الاستقلالية). كما أن الدولة تساهم في تمويل كرة القدم رغم استقلالية جامعة كرة القدم عنها. فإذا كانت الدولة تصرف مئات الآلاف من الدنانير لأجور مدربي الفريق الوطني لكرة القدم رغم أنها لا تتدخل في شؤون الجامعة التونسية لكرة القدم فالأحرى بها أن توفر شروط الديمومة إلى هيئة تخدم الصالح العام وتساهم في تطوير مؤسسة من مؤسسات الديمقراطية.

وتجدر الإشارة إلى أن العديد من مجالس الصحافة في أوروبا تتلقى معظم تمويلاتها عامة من الدولة (على غرار مجالس الصحافة في أستراليا وروسيا وقبرص) في حين تساهم الدولة بنصف التمويل في مجالس أخرى (على غرار ألمانيا وبلجيكا وفنلندا)، وتمول هذه الدول في حدود 50 في المائة مجلس الصحافة اعتمادًا على مبدأ أن المجلس يساهم في التقليص من اللجوء إلى القضاء.

 

جدول حول مستوى مساهمة الدولة في تمويل مجالس الصحافة في عدد من البلدان

 

تاسعًا: كيف ستكون علاقة مجلس الصحافة بالهيئة  العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري؟

يمثل التعديل وظيفة من وظائف الدولة الأساسية تمارسه بواسطة القانون لتنظيم قطاعات بعينها على غرار الصحة والنقل والاتصالات والتعليم والميديا لأن هذه القطاعات مرتبطة بالمصلحة العامة ولا يمكن تركها للمبادرة الخاصة فقط. ويرمي التعديل في هده القطاعات إلى حماية المواطن والفرد من المصالح الخاصة ومن سطوة منطق السوق. ويمكن للدولة في بعض القطاعات الخاصة أن تمارس هذه الوظيفة بشكل مخصوص من خلال مؤسسات مستقلة على غرار قطاع الاتصالات والميديا.

فالميديا قطاع حساس مرتبط بحرية التعبير يقتضي الحماية من تدخل السلطة السياسية ومن المصالح الخاصة، وتقوم هذه الهيئات التنظيمية (التعديلة) المستقلة والعمومية التي تمّولها الدولة وتنشؤها (بقانون) وتراقبها (عبر البرلمان) وفق آليات مخصوصة (أهمها الشفافية التي تحمي استقلاليتها).

وفي تونس، تراقب الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري مؤسسات الميديا الإذاعية والتلفزيونية عبر كراسات الشروط التي التزمت بها هذه المؤسسات عند حصولها على إجازة  البث. ولا تنتج مؤسسات الميديا مضامين صحفية فحسب بل أيضًا مضامين أخرى ترفيهية خاصة. وتراقب "الهايكا" الالتزام بمقتضيات كراسات الشروط في ما يتعلق بالمضامين  على غرار احترام كرامة الإنسان، والحياة الخاصة، وحماية الطفولة، وحماية الصحة العامة، وحماية الأمن الوطني والنظام العام، واحترام حرية المعتقد، والموضوعية، والشفافية والمساواة.

يشمل مجال اختصاص مجلس الصحافة قطاعات الصحافة المكتوبة والإلكترونية ولكن أيضًا المضامين ذات الطابع الإخباري المتّصلة بالأحداث والتي تنتجها المؤسّسات الإذاعية والتلفزيونية

اقرأ/ي أيضًا: ما هي أخلاقيات الصحفيين التونسيين؟

والهيئة أيضًا مسؤولة على تطوير القطاع الإذاعي والتلفزيوني كما نص على ذلك الفصل 15 من المرسوم 116 المتعلق بحرية الاتصال السمعي والبصري، فمن مشمولاتها تشجيع برمجة تربوية ذات جودة عالية، والسهر على برمجة إعلامية دقيقة ومتوازنة، ودعم تكوين موارد بشرية ذات كفاءة عالية، وتعزيز القدرات المالية والتنافسية لمنشآت الاتصال السمعي والبصري التونسية.

وعلى هذا النحو، تسري سلطة الهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري على المؤسسات المُلتزمة بكراسات الشروط وهي لذلك تراقب وتصدرعقوبات ضد المؤسسات وليس ضد الصحفيين.  كما أن الهيئة لا يمكن لها مساءلة الصحفيين لأن المساءلة لا بد أن تقوم على معايير ومبادئ مضمنة في مواثيق وضعتها المهنة لنفسها، في حين أن كراسات الشروط من هذا المنظور هي نصوص وضعتها الدولة لتنظيم علاقتها التعاقدية مع المؤسسات الحاصلة على  الإجازة. 

ولهذا السبب أيضًا، لم نر صحفيين يمثلون أمام الهيئة بشكل فردي على أساس المبادئ الأخلاقية الصحفية لأن ذلك مناف للمعايير الدولية ولاستقلالية الصحافة بما أنه لا يمكن لهيئة عمومية مهنية من طرف الدولة أن تساءل الصحفيين على أعمالهم. وبشكل عام، لا يمكن للهيئة العليا المستقلة للاتصال السمعي البصري أن تقوم بدور الوساطة بين الصحفيين والجمهور.  

في المقابل، يشمل مجال اختصاص مجلس الصحافة قطاعات الصحافة المكتوبة والإلكترونية ولكن أيضًا المضامين ذات الطابع الإخباري المتّصلة بالأحداث والتي تنتجها المؤسّسات الإذاعية والتلفزيونية على غرار النشرات الإخبارية والبرامج الحوارية. كما تقوم "سلطة" مجلس الصحافة على مدونة أخلاقية تشمل المعايير المثلى للممارسة الصحفية والتي تتضمن المبادئ الأخلاقية الكبرى التي أقرتها المهنة والتزم بها الصحفيون.

عاشرًا: ميثاق المهنة مبتكر جديد في الصحافة التونسية

من المبتكرات الجديدة المتّصلة بتأسيس مجلس الصحافة هي المدونة الأخلاقية المتعلقة بميثاق المهنة بما يشمل الصحفيين من جهة والمؤسسات الصحفية من جهة أخرى. وتتضمن هذه المدونة المعايير الكبرى للصحافة، وستكون المرجع للصحافة الشرعية أو بتعبير آخر الصحافة التي تستحق أن تُسمى كذلك. ويتمثل الطابع المبتكر للمدونة في أنها ستكون المرجع الأخلاقي والمهني لكل الصحفيين العاملين في الصحافة المكتوبة والإلكترونية والتلفزيون والإذاعية.

من المبتكرات المتّصلة بتأسيس مجلس الصحافة هي المدونة الأخلاقية المتعلقة بميثاق المهنة بما يشمل الصحفيين والمؤسسات الصحفية

وتتضمّن المدونة الصحفية المبادئ العامة والمعيارية التي تستند إليها الممارسة الصحفية على غرار مرجعيات العمل الصحفي أي المواثيق الدولية التي تمثل مرجعية كونية للصحافة، وتعريف الصحافة والصحفي، ومجال اختصاص مجلس الصحافة، حقوق الصحفي وواجباته. كما تعرّف المدونة القيم الصحفية الكبرى التي يجب أن يهتدي بها العمل الصحفي وهي قيم السعي إلى الحقيقة والاستقلالية والدقة والنزاهة. ويتجسد الطابع المبتكر لمشروع المدوّنة في أنها تضمنت مبادئ خاصة بالمسائلة والحوار مع الجمهور.

كما تتضمّن أيضًا المدونة مبادئ ذات بعد تطبيقي تتعلق بالممارسة الصحفية على غرار الإمضاء، والحق في الصورة،  وعدم المساس بكرامة الأشخاص، وحق الرد، والتصحيح الذاتي، والاعتذار، والتعامل مع المصادر وسبر الآراء ( استطلاعات الرأي)، ومعايير تغطية الأحداث الإرهابية والصحافة القضائية.

حادي عشر: قبول الصحفيين لمجلس الصحافة

يمثل الرهان الأساسي بالنسبة لمجلس الصحافة القبول بشرعيته كهيئة مساءلة لدى المهنة يتوجه إليها الجمهور للشكوى في كل ما يتعلق بالمضامين ذات الطابع الصحفي إضافة إلى أدوارها الأخرى. ولقد أشرنا في المقال السابق أن ثقافة المساءلة ليست راسخة في الثقافة الصحفية وأن تقاليد الحوار مع الجمهور محدودة، مما قد يمثل عاملًا قد يضعف من قبول الصحفيين بمجلس الصحافة.

وبشكل عام، ترتبط مقبولية مجلس الصحافة بعدة عوامل منها على وجه الخصوص إستراتيجية المجلس للتعريف بنفسه باعتباره آلية لدعم الحوار مع الجمهور، وتعزيز الثقة في الصحافة والتصدي للانحرافات المهنية التي يمكن أن تسيء إلى الصحافة ودورها في الحياة السياسية والاجتماعية.

فلا يجب أن يتمثل الصحفيون المجلس آلية عقابية تسيء إلى سمعتهم وتحد من حرياتهم وآلية لتأليب الجمهور ضد الصحافة وإضعافها، خاصة وأن الأحداث الأخيرة المتصلة بقناة "الحوار التونسي" والنقاش الذي  دار حول "الكرونيكور" ومكانتهم في الصحافة السياسية جعلت قطاعات من الجمهور تنتظر من مجلس الصحافة أن يكون هيئة عقابية أو تنظيمية أو هيكلة جديدة أو هيئة قضائية موازية تسلط العقوبات المالية على الصحافة أو تأمر بإيقاف البرامج وإغلاق الصحف والمواقع. فهذه الأدوار ليست من مشمولات مجلس الصحافة بل تتناقض مع فلسفة الوساطة والتنظيم الذاتي. 

وإن المجلس سيفشل حتمًا إذا لم ينجح في أن يكون بالنسبة إلى الصحفيين في خدمة تطوير صحافة الجودة، وتعزيز مكانة الصحافة في المجتمع، والمشاركة في إيجاد حلول لديمومتها وتعزيز مكانة الصحفي في المجتمع.

الخلاصة: ديمومة مجلس الصحافة وحظوظ نجاحه

لا ترتبط ديمومة مجلس الصحافة على المدى الطويل بقبول الصحفيين به فقط لأن هذه الديمومة مرتبطة أيضًا بشروط أخرى لعل أهمها تعامل الدولة والسلطات العمومية معه خاصة وأن المجلس يعتمد على التمويل العمومي. فهل ستقبل النخب السياسية التي أفرزتها الانتخابات التشريعية الجديدة بمبدأ تمويل الدولة لهذه الهيئة (التنظيمية) التعديلية الذاتية والمستقلة بشكل كامل من الدولة، خاصة وأن مبدأ استقلالية الصحافة والميديا لم يترسّخ بعد في الثقافة السياسية؟

 لن يتمكن مجلس الصحافة بلا تمويل عمومي من طرف الدولة (وليس الحكومة) من العمل بشكل دائم وفعّال

وففي كل الأحوال، لن يتمكن مجلس الصحافة بلا تمويل عمومي من طرف الدولة (وليس الحكومة) من العمل بشكل دائم وفعال، وقد يلتجئ إلى تمويلات المنظمات الدولية بشكل أساسي كما هو الحال في بعض الدول مما قد يضعف شرعيته لدى الصحفيين وأيضًا لدى الجمهور.

ومن الإشكاليات الأخرى المتصلة بديمومة مجلس الصحافة الجديد مجال عمله، فإذ اقتصر على معالجة الشكاوى دون أن يفعّل وظائفه الأخرى المضمنة في قانون الأساسي فلن يكون ذا فائدة كبيرة بالنسبة للقطاع.

إن احترام الصحفيين والمؤسسات الصحفية للمواثيق الأخلاقية وللمعايير المهنية متصل بشروط موضوعية لا بد أن تتوفر ومنها الظروف المهنية والاجتماعية الجيدة التي يجب أن يعمل فيها الصحفي. فلا معنى موضوعيًا وعمليًا أن نطالب الصحفي بإنتاج مضامين جيدة وهو يعمل في ظروف مهنية مهينة لا تتوفر فيها الموارد الأساسية لهذه الصحافة الجيدة. وفي الإطار ذاته، تقتضي مطالبة المؤسسات الصحفية بإنتاج الصحافة الجيدة أن تتوفر لديها شروط هذه النوع من الصحافة.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

الصحفيون التونسيون ومصادرهم.. (2/1)

الصحفيون التونسيون ومصادرهم.. "صحافة السيستام" (2/2)