تجهّز "عروسية" (72 سنة) قفّتها المصنوعة من السعف، تضع بها شمعةً وبعض قطع الحلوى والمكسرات والبخور وقرطاسًا من الحنّاء، وديكًا مكتنزًا اختارته بعناية من قنّ دجاجها بعد أن قامت بربطه من ساقيه بإحكام حتى لا ينطّ على حين غرّة فارًّا منها. تضع وشاحها المزركش وتلفّه على رأسها وكتفيها، تفرد إحدى زواياه تضع فيها بعض القطع النقدية من فئة مائة مليم ودينار وتصرّها جيّدًا وتعقد حافّة الوشاح كي لا تضيع منها القطع النقدية التي نذَرتها صدقةً. تسير الهوينى متكئة على عكازها، قاصدة مقام الولي سيدي علي الحطاب، غير البعيد عن منزلها.
دأب العديد من التونسيين على زيارة "مقامات" أو "زوايا" الأولياء الصالحين خاصة في المناسبات سواء منها الدينية كرمضان والأعياد أو الاحتفالية كالأعراس وحفلات ختان من أجل الدعاء وأخذ "البَرَكة" حسب اعتقادهم
"في السابق، دأبتُ على زيارة "مولانا سيدي علي" كلّ يوم خميس للتبرك به والتضرّع عند ضريحه لتيسير حياتنا والمنّ علينا بعطاياه، أمّا وقد بلغت من العمر عتيًا ما عاد بمقدوري المحافظة على ذات العهد وصرت أعوده من فترة لأخرى"، تقول عروسية لـ"الترا تونس" مستدركة: "أما عند حلول المناسبات الدينية كرمضان والأعياد، أحاول ألّا أفوّت فرصة النهل من بركات بوّاب مكة".
و"بوّاب مكة" هو لقب يطلقه أتباع الوليّ الصالح "سيدي علي الحطاب" عليه تيمّنًا بسيرته الزاخرة بالأعمال الخيرية، وفق ما يروى عنه من روايات وما دُوّن بخصوصه من نصوص.
وعلي الحطاب، كما تعرّفه "الموسوعة التونسية المفتوحة" التي أعدّها المجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون "بيت الحكمة"، هو أحد أبرز أقطاب التصوّف بإفريقيّة (الاسم التاريخي لتونس) من أولئك الذين ظهروا في القرن 7 هجري/13 ميلادي وأوّل أصحاب أبي الحسن الشاذلي الأربعين.
تُعَدُّ الذبائح التي تنذر للأولياء إحدى أبرز وسائل التقرّب إليهم وأكثرها شيوعًا وتُقام الذبائح في أغلب الأحيان بالقرب من أضرحة الأولياء في طقوس احتفالية ممتزجة بالزغاريد والأهازيج والدعاء
اسمه أبو الحسن علي الأبرقي ولُقّب بالحطّاب نسبة إلى امتهانه التّحطيب، قطن في منطلق حياته بمنطقة شاذلة (الاسم السابق لمنطقة سيدي علي الحطاب التي سُمّيت تيمّنًا باسم الولي) بقرب معتمدية المرناقية (حيث يوجد مقام ضريحه حاليًا، وفق روايات). وكان علي الحطّاب يكثر من الزهد والتعبّد، ويجدّ في طلب المعارف الدينية والأسرار في العلوم الصوفيّة وكان له ميل شديد إلى السياحة الروحية وزيارة مقامات الأولياء، مكتفيًا في عالم الدنيا ببيع الحطب لتأمين حاجته وحاجة عائلته من الغذاء، وفق ما جاء في موسوعة "بيت الحكمة".
ودأب العديد من التونسيين على زيارة ما يُعرف بـ"مقامات" أو "زوايا" الأولياء الصالحين خاصة في المواسم والمناسبات، سواء منها الدينية أو الاحتفالية من أعراس وحفلات ختان وغيرها، من أجل الدعاء وأخذ "البَرَكة"، حسب اعتقادهم.
تختلف استعمالات الحناء بمقامات الأولياء فتجد من يقتصر على تخضيب دائرة صغيرة تتوسط كفّه قبالة ضريح الوليّ وهناك حتى من يشتري سيارة جديدة فيقوم بطلاء عجلاتها بالحناء الممزوجة بمياه بئر الوليّ بنيّة حفظه من الحوادث
وتُعَدُّ الذبائح التي تنذر للأولياء إحدى أبرز وسائل التقرّب إليهم وأكثرها شيوعًا، وتُقام الذبائح في أغلب الأحيان بالقرب من أضرحة الأولياء في طقوس احتفالية ممتزجة بالزغاريد والأهازيج والدعاء، يحضرها أقرباء وجيران صاحب الذبيحة التي تُسمّى "الوعدة". وتختلف "الوعدة" من شخص لآخر، فهناك من يذبح ديكًا وهناك من يذبح خروفًا أو حتى عجلًا، حسب ما تيسّر.
"كلّ قدير وقدره" تقول عروسية لـ"الترا تونس"، معقبة: "ها أنا مثلًا أقتصر على ذبح ديكٍ من فترة لأخرى، كضحيّة للترحّم على روح سيدنا علي الحطاب وأخذ رضاه.. مهمّ جدًّا تسييل الدم في مقام الولي"، وفق تصوّرها، مضيفة أنها حملت معها بعض القطع النقدية لرميها قبالة ضريح الوليّ عبر الحاجز الحديدي المشبّك بنيّة التصدّق بها.
أما بالنسبة للحنّاء فهي "من ثمار الجنة"، تضيف محدثة "الترا تونس"، مشيرة إلى أنها تحملها معها لمقام الولي الذي تتلو عند ضريحه ما تيسّر من القرآن والأدعية، تضيف: "تكون الحناء بذلك قد اكتسبت من بركات سيدنا علي نصيبًا فأعود بها للمنزل وأخضّب بها أيادي بناتي وحفيداتي".
عروسية (72 سنة): عند حلول المناسبات الدينية كرمضان والأعياد أحاول ألّا أفوّت فرصة النهل من بركات "بوّاب مكة" سيدي علي الحطاب فأزوره وأعود محمّلة بالحناء والمياه المباركة من "بئر الشفاء" الموجودة بزاويته
وتختلف استعمالات الحناء في مقامات الأولياء، كلٌّ حسب خلفيته وعاداته، فتجد من يقتصر على طبع دائرة صغيرة تتوسط كفّه قبالة ضريح الوليّ بعد تلاوة الأدعية عليها، ومن يخضّب يده بالقرب من "بئر الشفاء" الذي يقع بأحد أقبية "زاوية" الولي، بعد مزج الحناء بقليل من مياه البئر ثم يطبع يده على الجدار المحاذي للبئر ويكتب اسمه حذو طابع كفّه، وهي عادة دأب عليها البعض من قاصدي الزوايا، فتجد الحائط المحاذي للبئر أشبه بلوحة مزخرفة من آثار أيادٍ مختلفة الأحجام وحروف مترامية بجانبها. وهناك أيضًا من يشتري سيارة جديدة فيزور مقام علي الحطاب ويخلط الحناء بمياه البئر، ثمّ يطلي بها عجلات سيارته بنيّة حفظه وحمايته من الحوادث.
تترقب دليلة (39 سنة)، وهي من متساكني مدينة المرناقية، حلول ليلة الـ27 من شهر رمضان من أجل مرافقة ابنها "علي" (3 سنوات) لمقام الوليّ علي الحطاب، للدعاء وطلب التوفيق له هناك وتخضيب يديه بالحناء عند ضريحه، قبل أن يقع ختانه. تقول لـ"الترا تونس": "لقد أسميته على اسم سيدنا الحبيب علي الحطاب، لأنه جاءني بعد عناء طويل وسنوات من الانتظار والتضرّع". تتنهد هنيهة وتعقّب: "لم يرزقني الله به إلا بعد الاستحمام بمياه بئر الشفاء، وربط "سنجق" (راية حمراء وخضراء تتبع الأولياء) مبلّل بزيت متلوّ عليه بعض الآيات القرآنية عند ضريح الوليّ حول خصري".
تترقب دليلة، وهي من متساكني المرناقية، حلول ليلة الـ27 من رمضان من أجل مرافقة ابنها لمقام الوليّ سيدي علي الحطاب للدعاء وطلب التوفيق له هناك وتخضيب يديه بالحناء عند ضريحه قبل ختانه ليلًا
تؤمن دليلة بـ"معجزات" الأولياء الصالحين و"قدرتهم" على نثر بركاتهم على أتباعهم حتى وهم موارون الثرى منذ قرون. تقول: "مثلما نزّل الله بركته عليّ بجاه حبيبه علي الحطاب ورزقني بطفل بعد سنوات من اليأس، ها أنا أعود مجددًا لينزل بركته على ابني أيضًا في ختانه".
وتؤكد وكيلة زاوية سيدي علي الحطاب (المرأة التي تشرف على شؤون الزاوية)، نجاة العوني ما جاء على لسان دليلة مشيرة إلى أن "كثيرات من النساء يقصدن مقام الوليّ سيدي علي الحطّاب من أجل طلب الضنى، فيقمن بربط خصورهن بسنجق منقّعٍ في ماءٍ من "بئر الشفاء" أو في زيت متلوّة عليه بعض الأدعية والآيات القرآنية قرب الضريح، ويقدّمن صَدَقات وهدايا على الحاضرين من أجل الدعاء لهنّ بتيسير أمرهنّ والاستجابة لدعواتهنّ.
وكيلة زاوية سيدي علي الحطاب لـ"الترا تونس": مقام الوليّ يشهد في ليلة 27 رمضان إقبال خاصّة من ينوون ختان أبنائهم، فيأتون ويشعلون الشمع قبالة ضريح الولي ويخضّبون يدَ الطفل المقبل على الختان بالحناء
وتضيف نجاة العوني، لـ"الترا تونس"، أن مقام علي الحطاب مفتوح على الدوام لكلّ قاصديه لكن الزيارات تكثر خاصة أيام الخميس والأحد، مستدركة القول إنّ الزيارات تقلّ عمومًا في شهر رمضان لكنّها لا تنقطع.
ولفتت إلى أن مقام الوليّ علي الحطاب يشهد في ليلة 27 من رمضان إقبال خاصّة من يقبلون على ختان أبنائهم، فيقصدون مقام الوليّ ويشعلون الشمع قبالة ضريحه ويخضّبون يدَ الطفل المقبل على الختان بالحناء، فضلًا عن ملئهم قارورة من بئر الشفاء لاستلهام بركتها، وفق تصريحها.
وكيلة زاوية سيدي علي الحطاب لـ"الترا تونس": يفضّل كثيرون أن يقصدوا مقامات الأولياء الصالحين في الأعياد أيضًا، فيغدقون في تقديم الصدقات والهدايا هناك.. سيدي علي الحطاب كان كريمًا "والّي بين يديه مش ليه" وكان يحبّ الكرماء والمتصدّقين
ويفضّل كثيرون أن يقصدوا مقامات الأولياء الصالحين في الأعياد أيضًا، فيغدقون في تقديم الصدقات والهدايا هناك. "اعتاد الأطفال على التحلّق في الباحة الخارجية قبالة مقام الولي سيدي علي الحطاب في عيد الفطر، وبمجرّد خروج الزوّار من مقام الولي يقدمون الهدايا والحلوى و"المهبة" للأطفال المتجمّعين هناك"، تقول محدثة "الترا تونس" معقّبة: "سيدي علي الحطاب كان كريمًا "والّي بين يديه مش ليه"، وكان يحبّ الكرماء والمتصدّقين لذلك فإنّ أغلب قاصدي "الزاوية" تجدهم يغدقون في العطاء وتقديم الهدايا.
وفي تعليقه على ذلك، قال الأستاذ في التفكير الإسلامي محمد علي رحالي إن "أغلب المسائل الفقهية في ديننا فيها اختلاف بين من يعتبرها مسائل تجوز ومن يعتبرها لا تجوز، وزيارة مقامات الأولياء هي من بين المسائل التي فيها اختلاف".
أستاذ في التفكير الإسلامي لـ"الترا تونس": أغلب المسائل الفقهية في ديننا فيها اختلاف بين من يعتبرها مسائل تجوز ومن يعتبرها لا تجوز، وزيارة مقامات الأولياء هي من بين المسائل التي فيها اختلاف بين من يحرّمها إطلاقًا ومن يربطها بالنيّة
وأضاف رحالي، في حديث مع "الترا تونس"، أن هناك من يحرّم بالإطلاق فكرة زيارة مقامات الأولياء الصالحين واعتبار أن كل المظاهر والطقوس التي تُمارس هناك هي مظاهر شركية لأن الله يقول "ادْعُونِي اسْتَجِبْ لَكُمْ" أي أنه ليس هناك بين العبد وربّه أي واسطة، وبالتالي لا يتطلّب الدعاء والتضرع إلى الله التوجه لمقام وليّ أو غيره.
وتابع قائلًا: بينما هناك من يعتبر أن تحريم المسألة من عدمه مرتبط بنيّة من يقصد مقام الوليّ. إذ أنّ هناك من يدعو الوليّ في شخصه بالقول مثلًا "يا سيدي فلان أرزقني بالزواج أو الذرية.." فإن ذلك يعتبر شركًا باعتبار التوجه بالدعاء إلى الوليّ مباشرة وهو ليس له لا ضرّ ولا شرّ في المسألة"، معقبًا: وهناك من يدعو الله سبحانه وتعالى ولكن ببركة وجاه الوليّ بالقول مثلًا: "يا ربّ حقّق لي مقصدي بجاه سيدي فلان"، وهو دعاء لله لكن من خلال بركة الإنسان الصالح، خالصًا إلى أن "هناك من يتبع القول بالجواز في الإطلاق وهناك من يتبع القول بالتحريم في الإطلاق وهناك من يحصر المسائل بالنية والقول إنما الأعمال بالنيات".
أستاذ في التفكير الإسلامي لـ"الترا تونس": أغلب من يقصدون مقامات الأولياء اليوم ليس من أجل الوازع الديني وإنما من أجل الأجواء الفولكلورية التي تتسم بها هذه الأماكن في المناسبات الاحتفالية أو الدينية هناك سواء في رمضان أو في الأعياد
واستطرد محدث "الترا تونس": عمومًا، بالنظر اليوم إلى المظاهر الموجودة في زوايا ومقامات الأولياء، نلاحظ أن المسألة أصبحت أشبه بالفولكور، صحيح أنها بالأساس ذات طابع ديني لكن أغلب من يقصد هذه الأمكنة ليسوا أشخاصًا متمكنين من الدين أو يقصدونها على دين، بل إنهم يذهبون هناك من أجل الأجواء التي تتسم بها هذه الأماكن خلال المناسبات الاحتفالية أو الدينية هناك سواء في رمضان أو في الأعياد"، حسب تصوّره.
ولِمَن لا يعرف كُنه كلمة "الزاوية" فإنّ المتعارف عليه في المفهوم الشعبي السائد بأنها المقام الذي يوجد به ضريح الوليّ، بيْدَ أنها في الأساس تعود تاريخيًا إلى مؤسسة الزاوية التي انتشرت بالبلاد التونسية منذ أواخر الدّولة الموحدية بعد ظهورها بالمشرق منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي، وفق ما تذكره موسوعة بيت الحكمة. ولم يشهد هذا الصنف من المؤسّسات الدينية والعلمية انتشارًا واسعًا في الكثير من أقطار العالم الإسلامي إلاّ في عهد الدولة السلجوقية (القرن 6 هجري/12 ميلادي) في المشرق.
وقد أطلق عليها في البداية اسم "الخانقاه" ببلاد خراسان منذ القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي. ثم انتشرت هذه المؤسّسة - الأمّ في بلاد الشام ومصر قبل أن تنتقل في العهد الحفصي (1230 - 1574م) إلى المغرب الإسلامي حيث ازدهرت وتنوّعت وظائفها وقوي نفوذها. فالمصادر المناقبية تشير إلى أنّ أقدم زاوية في إفريقية (أحد الأسماء التاريخية التي أطلقت على تونس) هي "زاوية الزواوي" (نسبة إلى أبي زكرياء يحيى بن يحيى الزواوي الذي توفي سنة 611هـ/1214م) التي كانت ملاصقة للجامع الكبير بباجة. ثمّ شهدت هذه المؤسسة تطوّرًا وتغلغلاً في الأوساط الدينية والعلمية والاجتماعية حتى انتشرت بسرعة في كامل أرْجاء إفريقية طيلة القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي.
وتشير الموسوعة ذاتها إلى أن "عدد الزوايا في مدينة تونس قد تكاثر منذ المائة الثامنة هجري/ القرن الرابع عشر ميلادي بعدما كان محدودًا جدًّا. فقد كان عددها في أواخر المائة السابعة هجري / القرن 13 ميلادي لا يتجاوز سبع زوايا، كما ذكر ذلك ابن بطوطة في رحلته (ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، دار صادر، بيروت، 1992، ص655)".
"وبحكم تطوّر وظائف الزوايا فقد بلغ عددها بمدينة تونس ذروته في العهد الحسيني وبالتّحديد في أواخر القرن 13هـ/19م ليرتفع إلى حدود 300 زاوية بمدينة تونس حسب القائمة المثبتة في أرشيف جمعيّة الأوقاف. ومن أشهرها زوايا سيدي محرز وسيدي بن عروس وسيدي الكلاعي وسيدي إبراهيم الرياحي وسيدي عبد السلام الأسمر وسيدي منصور والسيدة المنوبية وغيرهم كثير. باستثناء عشرات الزوايا التي أنشئت في أحواز مدينة تونس مثل زوايا سيدي بوسعيد وسيدي شبعان وسيدي داود.. ولا ريب في أنّ تطول القائمة بمئات الزوايا التي أنشئت في المدن والبوادي والأرياف والمناطق النائية عن العمران من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب".
رغم الطابع الدّيني الذي طغى على نشاط الزوايا فإنّ هذه المؤسسات كانت لها وظائف متنوّعة فكانت في البداية تقتصر على النشاط الصوفي ثم جاء دورها الاجتماعي بتحوّلها إلى فضاء لاستقبال المسافرين أو الزائرين وإطعام الطعام
ورغم الطابع الدّيني الذي طغى على نشاط الزوايا فإنّ هذه المؤسسات العريقة كانت لها وظائف متنوّعة ومتعدّدة الأغراض. وذلك منذ العهد الحفصي ثمّ العثماني في أواخر القرن السّادس عشر الميلادي. فكانت في البداية تقتصر على النشاط الصوفي الذي يهدف إلى تربية المريدين وتنظيم مجالس الذكر وتدريس العلوم الشرعية وفي مقدمتها القرآن والفقه. ثم جاء دورها الاجتماعي بتحوّلها إلى فضاء لاستقبال المسافرين أو الزائرين وإطعام الطعام. وبعد توسع نشاطها وتنوّعه أصبحت للزّوايا موارد مالية قارة بفضل العطاءات الموسمية وغير الموسمية والأوقاف. ومن ثمّ توسّع نفوذها وازدادت قدرتها على منافسة السلطة السياسية الرسمية فأصبحت تحظى بشعبية واسعة وأضحى لها تأثير في العامة مما أدّى إلى إقرارها من السلطة السّياسية طرفًا له وزنه الذي يتوجب احترامه وخطب ودّه والتعاون معه شريكًا رئيسيًا بل ضروريا لاستتباب الأمن بالبلاد، وفق موسوعة بيت الحكمة التي أشارت إلى أن "القرنين 8 و9 هـ/14 و15 م شهدا أوج نفوذ الزوايا وتغلغلها في أعماق المجتمع واندماجها كليًّا فيه. لذلك حاولت السلطة الحاكمة استخدام كل الوسائل والأساليب لاحتوائها إلى درجة أنّ الحكام أنفسهم سعوا إلى تأسيس زوايا على غرار ما قام به السلطان الحفصي وأبو عمرو عثمان (1435 - 1488م) الذي أسّس الكثير من الزوايا في مختلف أنحاء البلاد من الجنوب إلى الشمال إلى بسكرة.. وحبّس لها الأوقاف وعيّن لها مقدمين للإشراف عليها وإدارتها".
وحول مدى تغلغل الاعتقاد بالأولياء وأسباب استمرارية أشكال إثبات الولاء لهم عبر ممارسة مختلف الشعائر والعادات رغم ما عرفته المجتمعات من تطوّر، يفسّر الباحث في علم الاجتماع سامي نصر أنّ ذلك "يدخل في جذور وخصوصية المواطن التونسي".
باحث في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": مهما بلغت نسبة التحضر والتقدم يبقى الأولياء الصالحون ذوو شأن كبير لدى فئة من التونسيين وهي مسألة تدخل في جذور وخصوصية المواطن التونسي
ويرى نصر، في حديث مع "الترا تونس"، أنّ "الأولياء الصالحين لهم مكانة مميزة وهامة لدى الشعب التونسي"، معقّبًا: "مهما بلغت نسبة التحضر والتقدم يبقى الأولياء الصالحون ذوو شأن كبير لدى فئة من التونسيين"، حسب تقديره.
واستدرك قائلًا إنّ "ما يختلف في علاقة التونسي بالأولياء بين الأمس واليوم، هو أن الناس كانوا في السابق يفتخرون بكونهم من أتباع هذا الوليّ أو ذاك، أما اليوم فمن الملاحظ أن الاحتفاء والتباهي بالأولياء شهد تراجعًا بنسبة كبيرة".
ويضيف محدّث "الترا تونس" أنه "أمام تراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، يحتاج التونسي إلى الهروب من الواقع والبحث عن أيّ خيط غيبيّ للتمسّك به، وبالتالي نعتبر أنّ الرّجوع إلى الأولياء الصالحين هو شكل من أشكال الهروب من الوضع الاجتماعي المَعيش، فالتونسي اليوم يبحث عن طرف أي خيط أملٍ حتّى ولو كان وهمًا"، متابعًا القول إنّ العقل عندما يعجز عن تحمّل واستيعاب ما هو واقعيّ يخيّر اللجوء إلى الخرافة والأسطورة من أجل إيجاد ما يطمئنه"، على حد تصوّره.