قد نعيش بعض التجارب في حياتنا تجعلنا في حيرة من أمرنا فإمّا أن نتناساها أو أن نبحث عن أجوبة لتساؤلات أرّقنا. وهذا ما حصل معي منذ فترة في علاقة بموضوع السطمبالي/ السطنبالي حيث خضت تجربة جعلتني أرهب كثيرًا هذا النوع من الموسيقى.
حصل الأمر في استضافة إذاعيّة رمضانيّة، حيث كان المتدخّلون في البرنامج مجموعة من الشباب الذين يعزفون موسيقى السطمبالي. بدا الأمر عاديًا في بدايته وامتزجت أصوات الآلات والحناجر لتخرج أنغامًا تجعل من جسدك يتمايل على وقعها إلى أن دخل زنين "الشقاشق" في المعزوفة، قطعتان معدنيتان كانتا كفيلتين بهزّ كياني. كلّما ازدادت حدّتهما كلما زادت دقّات قلبي وشعرت بالاختناق إلى أن أحسست بدوار كاد أن يفقدني وعيي وجعلني أخرج من الأستوديو دون تردّد.
ما حقيقة هذه الموسيقى؟ وما هذا السحر الغامض الذي يلفّها؟ وكيف لها أن تبثّ في النفس كلّ هذا الوجد؟ أسئلة حاولنا البحث عن إجابتها في هذا التقرير.
اقرأ/ي أيضًا: "البنقة".. تخمّر الألم ورقصة الانعتاق
السطمبالي.. صوت أنين "العبيد"
رحلة البحث في الموروث الثقافي رحلة صعبة فليس من السهل إيجاد الأشخاص المناسبين للنبش في أسرار الماضي أو الحديث عن أساطير توارثتها الأجيال. ولموسيقى السطمبالي نفس الإشكال خاصّة لندرة المختصّين في هذا المجال ولقلّة الأشخاص الذين توارثوا هذا النمط عن أجدادهم.
بلحسن ميهوب من هؤلاء الأشخاص، شابّ في 36 من عمره ينحدر من عائلة "برنو" وهي من أعرق العائلات التونسيّة التي توارثت هذه الموسيقى. التقيته في "شارع باريس" بالعاصمة وانطلقنا إلى منزل والده بباب سيدي عبد السلام. وعلى امتداد الطريق كان الحديث عن معاناة وألم شديدين يعيشهما هذا الشاب الذي أفنى شبابه في الحفاظ عما توارثه عن والده "الينّا" عبد المجيد ميهوب.
ينحدر بلحسن ميهوب من عائلة "برنو" وهي من أعرق العائلات التونسيّة التي توارثت موسيقى السطمبالي (إيمان السكوحي/ألترا تونس)
في أحد أزقّة باب سيدي عبد السلام، كانت "دار برنو". منزل على بساطته إلا أنه يحمل في أركانه حكايات أناس توافدوا عليه تبرّكًا أو بحثًا عن شفاء للروح. فمنذ أن تطأ قدمك "السقيفة" تشعر أنّ للجدران روحًا تنبض وللآلات المنتشرة في زواياه قصص وجد وعشق لا تنضب، فلا تملك إلّا أن تستسلم لهذا السحر وتستشعر قداسة المكان لأهله.
"دار برنو أو البراونة مثل دار كوفة ودار الدزيريّة، يعيش فيها "زنوج" جاؤوا للعيش في تونس وأصبحوا رموزًا للسطمبالي"، هكذا تحدّث بلحسن ميهوب لـ"ألترا تونس" عن المنزل الذي تربّى وتتلمذ فيه على يد عديد "المعلميّة" الذي يعتبر والده عبد المجيد أشهرهم. ويضيف أنّ العائلة تملك وثيقة من البايات تثبت أن جدّه "بوركومندا" قادم من إفريقيا و"كان يقود الزنوج في تونس"، حسب تعبيره.
يقول بلحسن ميهوب إنّه فتح عينيه ليجد نفسه في عالم مليء "بالسحر" وأكثر ما جلبه هو موسيقى السطمبالي التي تأثّر بها وقرّر أن يواصل على درب أجداده للحفاظ عليها
بلحسن هو "ولد سيدي بلحسن" وسميّ بعد حلم راود والدته فأصبح من زوّار هذا الوليّ الصالح ويزوره كلّ سنة متصدّقًا ومتبرّكًا. يسترجع بلحسن ذكرياته فيقول إنّه "فتح عينيه ليجد نفسه في عالم مليء بالسحر وأكثر ما جلبه هو الموسيقى التي تأثّر بها وقرّر أن يواصل على درب أجداده للحفاظ على هذا التراث الموسيقي". ولم يكن سهلًا تعلّم هذا النمط لكنّه رابط وتحدّى كل الظروف لينهل كلّ المعارف والأسرار من "المعلميّة" و"المعلّم" أو"الينّا" وهي كلمة أعجميّة تعني القائد الذي يوجّه مثل الشيخ في "السلاميّة".
كما لكلّ لغة قواعدها ولكلّ تراث طقوسه، فإن لعالم السطمبالي مفرداته التي تحتاج شرحًا لتبقى راسخة في الذاكرة. فالآلات والملابس وحتى الرقصات لها تسميات خاصّة وطقوس استعمال مميّزة ولكنّها تحمل في طيّاتها معاناة وآلامًا رافقت رحلة العبيد الزنوج إلى شمال أفريقيا.
فعن الآلات، يقول محدّثنا أن موسيقى السطمبالي تتميّز بتعدّد آلاتها وكلّ تمازج بين الآلات له قواعده وأصوله. فهناك "الڨمبري" وهو آلة وترية وإيقاعية تؤسس اتصالًا موسيقيًا مع عالم الأرواح من خلال الموسيقى و"البنڨة" وهي الطبلة بالإضافة إلى "دندفة" وهي أطول قليلًا من الطبلة و"الكروكوتو" أو النغارات وهي تستعمل بالعصي.
بعض الآلات المستعملة في موسيقى السطمبالي (إيمان السكوحي/ألترا تونس)
أما الآلة الأكثر إثارة بالنسبة لي والتي تحوم حولها عديد الأسئلة في ذهني فهي "الشقاشق"، وهي صفائح معدنية ذات جرس نحاسي يقع اعتمادها لزيادة النسق واستحضار "الناس الأخرى". يقول ميهوب إن طرق الاستحضار عديدة ولكن أغلبها تعتمد لجعل الشخص يصل لحالة إغماء تجعله يدمن هذه الموسيقى من هناك يقع استقطابه لهذا العالم حسب تعبيره.
ويضيف أن هناك نمطًا يدعى "الدبدابو" أو "ضرب النسا" كان مقتصرًا على النساء فقط فيه مزج بين "الدندفة" و"النغارات" و"قصعة اللوح" بالإضافة إلى البنادر، إلّا أنّ المرأة غابت عن ساعة العزف وأصبحت مقتصرة على الرجال وفق قوله.
تتميّز موسيقى السطمبالي بتسميات خاصّة للآلات الموسيقية (إيمان السكوحي/الترا تونس)
هذا الحديث جعلني أجول ببصري في أرجاء غرفة بلحسن التي كانت تحتوي عديد الآلات تونسيّة كانت أو مغربيّة. وفي الأثناء كان محدّثي يدندن هذه الكلمات بلهجة كانت غامضة بالنسبة لي. ففكّ شفرة الكلمات قائلًا:
حمودة حمودة يا بابا الغربي
حمودة مولا الديوان حمودة بابا سيدي
حمودة سيدي الباشا حمودة يا بابا الغربي
حمودة يجرح ويداوي حمودة
يصاحب إيقاع الآلات أناشيدًا بلهجة غريبة ويفسّرها بلحسن ميهوب فيقول: "هنكا السطمبالي صعبة ولا يمكن تقليدها وأغلب محاولات التقليد من قبل بعض الفنانين مغلوطة. فلغة الزنوج ليست العربية بل الأعجميّة لذلك فإن الخلط بين اللهجتين هي الروح التي بنيت عليها أناشيد السطمبالي".
ويضيف أن لكل أغنية رقصتها وملابسها الخاصّة، فكل جماعة واختصاصها "حيث نجد جماعة البحر، والبر، والصغار، والكحل والصوّة ويكمن الاختلاف بينهم في العزف والتسلسل في الطريقة" حسب تعبيره. فجماعة البحر يتميّزون بلباس يدعى "سركنكابي" وهو عبارة عن فوطة بالأزرق والأبيض، وأمّا جماعة سيدي عبد السلام فيلبسون "الڨدوارة" فيما يسمّى لباس جماعة "الكحل" باناكوري وهي "القشابيّة" السوداء.
كما تختلف الرقصات وتتعدّد وتسمّى أيضًا نوبات مثل نوبة "سيدي سعد شوشان" التي أتت منه الطريقة ونوبة "سيدي فرج البرناوي".
والله بوسعدية والله جلود غزالة
والله جلود نمورة بركة سيدي قناوة
والله ما خلاني والله بلادي بعيدة
كلمات أنشدها ابن "الينّا" عبد المجيد لتذكيري بـ"بوسعديّة" التي تبقى شخصيّة من الشخصيات المحوريّة في عروض السطمبالي فهو الرجل ذو المظهر المتميّز الذي يلبس قناعًا مخيفًا وملابس غريبة. وتقول الأسطورة إنه أحد ملوك إفريقيا وقع خطف ابنته "سعديّة" فظلّ يبحث عنها من بلاد لأخرى وقد كوّن لباسه من جلود الحيوانات التي كان يقتات بها أثناء رحلته المليئة بالآلام والشوق لرؤيا ابنته.
"بوسعديّة" شخصية محورية في عروض السطمبالي
وعن العادات التي كانت تميّز عائلة "برنو" والتي اندثرت مع الزمن لعدّة أسباب، يقول بلحسن إنه يفتقد الزيارة التي كانت تقام بـ"زاوية سيدي فرج" بسكرة. فعلى امتداد ثلاثة أيام تجتمع العائلة والمهتمون بالسطمبالي للأكل والشرب والاستمتاع بالموسيقى، فتذبح الخرفان وتنصب الطاولات لكلّ الحاضرين. وتقدم خلالها الخرجة. وعن أسباب انقطاع هذه العادة، يقول محدّثنا إنّها مكلفة جدًا وأصبحت تجاريّة في أيامنا هذه كما أنّه لم يعد مقتنعًا بعديد الممارسات التي تقام في هذه المحافل، حسب تعبيره.
اقرأ/ي أيضًا: وثائقي "مجاذيب".. حينما تكون الطريق إلى عالم السطمبالي والجذب بلا معالم
ويفسّر الأمر قائلًا: "عديد الأشياء لم تعد تعجبني كالروحانيات والدخان و"عطيان الكلام" فكلها معتقدات خاطئة. فالشخص الذي يدخل في حالة وجد و"يعطي الكلام" هو يقول أشياء غير صحيحة هو فقط "فال وعلى الله تكال" والكثير من الدخلاء يسترزقون من هذه الخزعبلات ولا يعترفون أنها شعوذة وكذب".
ويضيف أنّه تعرّض لعديد الانتقادات بسبب تصريحاته هذه لكنّه متيقّن أنّ بعض الممارسات في السطمبالي هي فقط متاجرة بآلام الناس ومشاكلهم واستخفاف ببساطة عقولهم، على حدّ تعبيره.
السطمبالي.. موسيقى علاجية من "الناس الأخرى"؟
يؤكد بلحسن ميهوب في حديثه معنا أنه يمكن استخدام موسيقى السطمبالي للعلاج في عديد الحالات التي فيها علاقة بـ"الناس الأخرى" مثل الذي تطأ قدمه دمًا دون أن يبسمل أو تلك التي تضرب ابنها في بيت الخلاء هؤلاء يمكن علاجهم بالموسيقى مع "وعدة" وهي ذبيحة أو صدقة، وفق قوله.
ولكن ما علاقة الأرواح و"الناس الأخرى" بالسطمبالي؟ وكيف تستخدم هذه الموسيقى كأداة علاجية؟ وهل هناك أدلّة علميّة لصحّة هذه الأقاويل؟ هذا ما فسّرته الدكتورة رحاب الجبالي المختصّة في العلاج بالموسيقى لـ"ألترا تونس" حيث تؤكّد أنّه لدراسة السطمبالي يجب البحث عن وضع الأقليّة السوداء في القرن التاسع في تونس زمن العبوديّة حيث كانوا يجتمعون في "دار الجماعة".
بلحسن ميهوب: يمكن استخدام موسيقى السطمبالي للعلاج في عديد الحالات التي فيها علاقة بـ"الناس الأخرى"
وعن استعمال السطمبالي للعلاج، تضيف محدّثتنا قائلة: "الطرق التقليديّة للعلاج بالموسيقى تمثّلت في عديد الأشكال كالحضرة، والسطمبالي والبوسعديّة. وتمر عمليّة الاستشفاء بالسطمبالي بخمس مراحل: المرحلة الأولى وهي الاستشارة وتقوم بها "العريفة" والتي تحدّد بدقّة الاسباب الخارقة المرض. من ثمّ المرحلة الثانية التي يتدخّل فيها "المعلّم" هو وعازفو "الشقاشق" حيث يقع عزف عديد المقطوعات المتسلسلة أمام المريض إلى أن يقوم بردّة فعل غريبة كالصراخ أو الإغماء وهذا ما سيساعد على معرفة هويّة الجن المعتدي. من ثمّ تتفاوض أسرة المريض حول ثمن المعالجة ويدفع "العربون" للمعلّم. وفي مرحلة رابعة تقام الطقوس الدينيّة ويتم استخدام الحيوان الذي تم التضحية به لإعداد الوجبة التي سيشاركها الضيوف خلال الحفل. وتنتهي العمليّة العلاجيّة بمراسم احتفاليّة".
رحاب الجبالي (مختصة في العلاج بالموسيقى): الطرق التقليديّة للعلاج بالموسيقى تمثّلت في عديد الأشكال كالحضرة والسطمبالي والبوسعديّة وعمليّة الاستشفاء بالسطمبالي تمرّ بخمس مراحل
وتؤكّد رئيسة الجمعيّة التونسيّة للعلاج بالموسيقى أن السطمبالي يمر بثلاث لحظات أساسيّة أولها الإغماء أو "الدوخة" والتي تتميز بقشعريرة وهزات وتشنّجات من ثمّ الرقص "جدبا" وهي رقصة طقسية محددة تعمل على الحفاظ على الغيبوبة ورفعها إلى ذروتها، وأخيرًا السقوط والانهيار النهائي نتيجة الغيبوبة التي تحرض عليها الموسيقى والرقص بنشوة حسب تعبيرها.
وتتميز هذه النوبة بجانب إيقاعي مميز وفريد لكل كيان خارق للطبيعة، وتؤكّد رحاب الجبالي في حديثها معنا أنّ الموسيقى ستؤدي إلى إحياء المتعة والتمتع بالأنشطة التحررية وستحوّل المعاناة إلى سعادة حسب تعبيرها.
ورغم ميزات وعمق هذا الموروث الثقافي التونسيّ، إلاّ أنه يشهد عديد المشاكل يتحدّث عنها بلحسن ميهوب قائلًا إن هذا الاختصاص الموسيقي صعب وقلّة من يهتمّ به، وحتّى من يوليه اهتمامًا هو فقط لاستغلال هذا الموروث على مستوى "نوب" بغرض الشهرة وفق قوله، مؤكدًا أنّ القوانين لا تساعد الفنّان الذي يمتهن الموسيقى حيث هناك معاناة في العروض وتأخير في الخلاص.
ويختم حديثه بمرارة لـ"ألترا تونس" قائلًا: "لقد كرهت السطمبالي بسبب الدخلاء الذين بسببهم أصبح هذا الموروث تجاريًا وفقد بريقه و سحره. لذلك فكلّ تركيزي منصبّ على الموسيقى فقط وأعمل على تطويره من خلال البحوث التي أقوم بها".
اقرأ/ ي أيضًا: