11-فبراير-2020

عرض مسرحي أثتته سجينات من السجن المدني بالمسعدين (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

لم تكن "السنترا" مجرد مكان بل هي حكاية عبر الزمان، حكاية سجن ومسجون وسجان، وحكاية حياة وموت هجر و نسيان. و"السنترا" هي الفضاء المغلق في السجون التي تضم حكايات النسوة والرجال، فيها تدمع العين وتدفن الآمال، ويتجمع الحب والذكرى في الإنسان، وفيها تأبى الروح الموت والنسيان، وتتوق الخروج من الأسوار إلى الأنوار، ففيها حيكت الأغاني ورُويت الأشعار وفيها رقصت على آلامها الأجساد ونُظمت الألحان.

و"السنترا"، أيضًا، هي مسرحية قدمتها سجينات من السجن المدني بمسعدين على ركح المسرح البلدي بسوسة. وانتظم هذا العرض، الذي واكبه "ألترا تونس" في ظل توصيات للحضور بعدم التصوير، تحت إدارة وإشراف الأستاذ المسرحي فتحي قلص وإخراج القنطاوي بن أحمد ومروى بن الشيخ سوقير، وكوريغرافيا منية لخضر وحكيم العقربي.

اقرأ/ي أيضًا: أيام قرطاج المسرحية.. سجناء حرّرهم المسرح

سجينات يبدعن على الركح

ظهرت على الركح عشر ممثلات مسرحيات لا نعرف هويّتهن الحقيقيّة، لم يكنّ مكشوفات الوجه ولم تنصّ على أسمائهنّ المعلّقات الخاصّة بالعرض، فهن نزيلات في السجن المدني بالمسعدين اللاتي أثثن دور الشخصيات المسرحيّة الرئيسية، ولكنهن كنّ سيدات الركح الذي تحوّل إلى "سنترا" واقعيّة حقيقيّة تحتضن السرد والحوار والرقص والغناء، وتتوزّع على مشاهد تستوعب المكان والزمان وتفجّر طاقة النّسوان.

"السنترا" هو عرض مسرحي قدمته 10 سجينات من السجن المدني بالمسعدين في إطار تأهيل السجينات عبر النشاط الثقافي

أول مشاهد العرض المسرحيّ كانت تظهر فيه السجينات العشر في حركة راقصة وجلبة واضحة في فضاء "السنترا"، وقد بانت ظلال القضبان في خلفية الصورة، وكانت الأضواء خافتة طيلة المشهد والألوان الرماديّة منتشرة في أركان الركح.

كانت "وعد" أوّل الراويات لقصتها وانكشف أنينها وآهاتها ولسان حالها يقول "وعد ومكتوب"، لم تكن حكاياتها تتوجّه للجمهور بل كان جمهورها معشر السجينات اللاتي يحطن بها. فلم يكن بين الشخصيات الركحية والجمهور غير جدار من الصّمت هو صمت السجون والزنازين. مونولوغ وحركات راقصة وغناء جماعي لأغنية شعبيّة "راهو باطل يا ربي باطل واللي قالوه فيا باطل" توّجت المشهد الأول قبل الانتقال إلى مشهد ثاني حواري ارتفع فيه منسوب الحزن والألم والنحيب والعويل ليختتم بأغنية "يا ريم العشوة".

تتالت المشاهد التي احتفظت بفضائها الرئيسي وهو "السنترا"، وكانت الترنيمات والهمهمات الغنائية ممتزجة بالرقصات والطبطبات على الأسطل، وتتخلل بين المشهد والآخر الأغاني على غرار "ها حمّة وارقد"، وكانت تشق النص بين الحين والآخر ضحكات ساخرة ولسان حالهنّ يقول "الفم يضحك والقلب حزين".

إنها الغربة التي لفّت هذا العمل المسرحي بردائها ولكن للأمل فيما عشنه نصيب وهنّ القائلات "كان جاء يدوم راهو بناو فيه جبّانة (مقبرة) يجي نهار ويتحلّ الباب"، إنها بؤرة الأمل التي تعيش مع السجين كبؤرة الضوء الوحيدة المنبعثة من الصورة الخلفية للركح.

شهدت المسرحية مراوحة بين الحوار والمونولوغ والغناء الفردي والجماعي 

 

وكان المشهد السادس في المسرحيّة الأكثر حيويّة والأكثر زرعًا للأمل، كانت "نوّارة" قارئة الكفّ التي تبعث الحياة في الفتيات وتحيي فيهم روح "غزل البنات". وبين هذا المشهد وذاك، شهدت المسرحية نفس المراوحة بين الحوار والمونولوغ والغناء الفردي والجماعي، فغنّين من العتيق "الرقراقي"، و"مهبول اللي قال المحبة توفى"، و"ما أحلاه القريب"، و"آه يا زين".

كان منطق الأحداث في المسرحيّة مبنيًا على الحكاية، وكانت الرواية منبثقة من ذوات السجينات اللاتي اشتركن في المكان "السنترا"، والزمان وهو الزمن السجنيّ، فحلّ النصّ من صميم الواقع متضمّنا لكمّ هائل من الارتجال، فالسجينات الممثلات هنّ روح النصّ وأسلوبه، وظهرت الأغاني كالصّدى الذي يكسر الطوق، وبدت الرقصات كألسنة اللهب التي تنطلق من أجسادهنّ نحو التحرر والانعتاق.

اقرأ/ي أيضًا: الفرقة الموسيقية ببرج الرومي: صرخة الحرّية لا تحدّها القضبان

وقد استجابت الحركة المسرحيّة للسجينات الممثلات لحاجز المكان، وألقت الإنارة بظلالها على الركح فكان العمق الحزين ذي دلالة على قهر السجون وهو التعبير الحقيقي عن الحالة النفسية التي تنتاب الممثلات.

كان الأداء الجماعي متّسقًا مع الحكايا في النصّ، وكأنّ البطلات في المسرحيّة تمتثلن للأوامر السجنيّة الصارمة التي تفرض الاتساق وعدم الخروج عن القوانين. واستطاع العرض بذلك أن يثير بشكل أو بآخر انفعالات حادّة لدى الجمهور الذي تفاعل مع السجينات اللاتي لم تتوجهن إليه بالخطاب، وقد استطاع العرض أن يضيء تلك المناطق المعتّمة في حياة النسوة داخل السجون ويفتح نوافذ على حقائق من الحياة الغامضة لهنّ.

حوارات مع المشرفين على "السنترا"

القنطاوي بن أحمد، أحد منفذي هذا العمل المسرحي، أكد لـ"ألترا تونس" أن نزيلات السجن أبدعن في أدوارهنّ وهو ما يعود، وفق تقديره، إلى كون هذه القصص التي روينها واقعيّة وناتجة من تجربتهن في الحياة. وأضاف أن تجربة العمل المسرحي هي تجربة فريدة من نوعها وثمرة تعاون وثيق مع إدارة السجون والإصلاح بالسجن المدني بالمسعدين.

من جهته، اعتبر المشرف العام على المسرحية فتحي قلص أن العمل "يكاد يكون احترافيًا بالأساس" مبينًا أن السجينات تحوّلن من ظاهرة اجتماعيّة إلى فنانات مسرحيات محترفات مضيفًا أن الهدف من هذا العمل في حد ذاته هو الإدماج والتأهيل.

فتحي قلص (المشرف العام على المسرحية) لـ"ألترا تونس": الهدف من هذا العمل المسرحي الذي يكاد يكون احترافيًا هو الإدماج والتأهيل

وأوضح، في حديثه معنا، أن العمل انطلق في السجن المدني بالمسعدين على أساس تكوين نادي للغناء والموسيقى ثم تم تطويره بإضافة المونولوغ، وبعد ذلك أصبح فيه تجزيء صغير من الأوبرات لتم إضافة فقرات الرقص والمسرح والغناء حتى أصبح العمل متكاملًا وفق قوله.

وأضاف قلص أن هذا العرض شارك في "يوم الجهات" ممثلًا لولاية سوسة في مدينة الثقافة مع عرضه في أيام قرطاج المسرحيّة وأيضًا في دار الثقافة بحمام سوسة ليأتي حاليًا موعد عرضه على ركح المسرح البلدي بسوسة.

أبدعت السجينات الممثلات في أداء أدوارهم في "السنترا" (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

من جانبه، وصف المندوب الجهوي للثقافة بسوسة الشاذلي عزابو لـ"ألترا تونس" العرض الفني بأنه "إبداعي على غير العادة والمعهود وغير ما تعوّد به الركح أو مقاعد المسرح" مبينًا أن هذا العمل هو ثمرة مبادرة شخصيّة منه بتجاوز العمل الكلاسيكي عبر التنقل ببعض العروض لفائدة المساجين والمرور إلى مرحلة الإنتاج من داخل السجن ذاته.

وأضاف عزابو قائلًا: "لقد راهنا على كفاءاتنا وبالتحديد على المبدع الصادق عمار رجل المسرح الذي كلّف اثنين من المبدعين في المجال الموسيقي والمسرحي لتنطلق اللقاءات مع السجينات بكاستينغ شمل 400 نزيلة بالسجن، وتم اصطفاء عشرة منهن، ورغم قساوة العمل فإنه ظهر للنور وأضاء الفضاءات المسرحية".

دعم وإسناد من مدير السجن وقاضي تنفيذ العقوبات

من جهته، أفادنا مدير السجن المدني بالمسعدين العميد عصام العيادي أن العمل جاء في إطار انفتاح المؤسسة السجنيّة على عالمها الخارجيّ ومحاولة لتوفير أكثر ما يمكن للجانب الإصلاحي للسجين، مشيرًا إلى توفير الإمكانيات اللازمة موضحًا أن "إخراج المساجين للفضاءات العامة يتطلب إجراءات ومجهودات وقرارات جريئة من القيادة، فليس من السهل أن نكون في عرض شبه عام".

  العميد عصام العيادي (مدير السجن المدني بالمسعدين) لـ"ألترا تونس": التجربة الركحية المسرحية للسجين لها وقع نفسي إيجابي كبير

وأضاف أن المسرح يمس جوانب هامة من الحياة قائلًا: "نحن في حاجة إلى الجانب الإصلاحي والمسرح يمس النفس والشخصيّة ويعطي الطاقة الإيجابية. ورغم أن السجن يبقى سجنًا، فإن التجربة الركحية المسرحية للسجين لها وقع نفسي إيجابي كبير والهدف الأساسي منها هو القضاء على نسبة العود".

حضور كثيف في عرض "السنترا" في المسرح البلدي بسوسة (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

وفي تصريح خصّ به "ألترا تونس"، قال قاضي تنفيذ العقوبات ورئيس مكتب المصاحبة (العقوبات البديلة) بسوسة قيس الفريوي: "نحن لا نتعامل مع السجين بفكرة الثأر سواء ثأر المجتمع من هذا السجين أو من الشخص الذي ارتكب خطأ في حق المجموعة عبر عزله في فضاء مغلق بل يجب معاملته معاملة صحيحة تراعي الجانب السيكولوجي".

وأكد أن ما يجب التركيز عليه في السجون والتنبه إليه هو أن السجين قد يدخل كورقة بيضاء بموجب ارتكاب خطأ قد يكون عن غير قصد لكن بمجرد الاحتكاك تنشأ في داخله نزعة إجراميّة لم تكن موجودة أصلًا، داعيًا بذلك للعمل "على الجانب المضيء في الإنسان وتفجير الطاقة الإيجابية التي يختزنها".

وأضاف قاضي تنفيذ العقوبات، في ختام حديثه معنا، أن تجربة مسرحية "سنترا" هي "نابعة من رحم السجن لذلك عبرت السجينات عن حياتهن الخاصة بلمسة فنّية" معتبرًا ذلك عمليّة إصلاح في حدّ ذاتها عبر المساهمة في تبليغ صوتهن بطريقة فنية وأيضًا المساهمة في عمليّة إعادة الإدماج في المجتمع.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مسرحية "سكون" لنعمان حمدة.. عندما يتحوّل التّسآل إلى ضمّيدة

"موسم الهجرة إلى الفنون".. أو حينما تصبح السوق الأسبوعية مسرحًا