10-نوفمبر-2024
مستقبل العمل النقابي في تونس

يمكن التمييز بين مرحلتين في علاقة النقابي بالوطني في تاريخ اتحاد الشغل (صورة لمقر اتحاد الشغل)

مقال رأي 

 

لا أثر اليوم لصوت الاتحاد العام التونسي للشغل الذي دوّى قويًّا على مدى عشرية الديمقراطيّة. ورغم المجال السياسي الرحب الذي فتحته الثورة التونسية أمام حريّة التنظّم الحزبي والنقابي فقد بقي اتحاد الشغل، الصوت النقابي والاجتماعي الوحيد. وقد مكّنته سقوف الحريّة العالية بعد الثورة من أن يوسّع مجال نفوذه خارج الاجتماعي ليتقاطع في أكثر من سياق مع الحزبي والسياسي والإيديولوجي. وبهذا كان الاتحاد شريكًا في كلّ الحكومات في مرحلة الانتقال، قبل أن يصبح أكثر حرصًا على شيطنة عشريتها ومن المتحمّسين لإيقاف مسار بناء الديمقراطيّة وإنهاء العمل بدستور الثورة. وقد كان الاتحاد من بين المساهمين الأساسيين في صياغته.

انطلق سجال بين اتحاد الشغل ورئاسة الجمهورية، عكس نديّة بدأت في التراجع بداية من 25 جويلية 2021 لتنتهي، بعد 3 سنوات، إلى صمت مطبق وتسليم بما يشبه "التقاعد النقابي المبكّر"

فكيف يُفهم موقف الاتحاد ومنزلته الحالية؟ وما هي الأسباب التي أفضت به إلى هذه الهامشيّة القاتلة في المشهد الاجتماعي والسياسي؟ وهل من دور نقابي سياسي لهذه المنظّمة العريقة مستقبلًا؟

  • دعوة إلى الحوار 

كانت دعوة اتحاد الشغل إلى الحوار متكرّرة وسابقة على إيقاف المسار الديمقراطيّ. ولكن الدعوة جوبهت بالتجاهل. وأثار اعتبار رئيس الدولة "الحوار الوطني" في 2014 "ليس حوارًا وليس وطنيًّا" حفيظة قيادة الاتحاد. وانطلق سجال بين الجهتين يعكس نديّة بدأت في التراجع بداية من 25 جويلية/يوليو 2021 لتنتهي، بعد ثلاث سنوات، إلى صمت مطبق وتسليم بما يشبه "التقاعد النقابي المبكّر". وفي عشريّة الديمقرطيّة، كان الاتحاد متلقيًّا لدعوات حوار جادّة بلغت حدّ المطالبة بهدنة اجتماعيّة يحتاجها بناء الديمقراطيّة. وكان موقف المكتب التنفيذي التجاهل. وبعد غلق ملف الانتقال، تحوّل الاتحاد إلى مناد بالحوار ومناشد للسلطة الجديدة، ولكن ما من مجيب.

يُعتبر اتحاد الشغل، حتّى من قبل جهات قريبة منه، من القوى التي ساهمت بتفانٍ في إجهاض بناء التوافقات الضروريّة والتسويات المطلوبة في مجابهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة

وكان من أسباب تجاهله والطمع في تهميشه، سياسة الاتحاد في مرحلة الانتقال التي أورثته سمعة سيئة عند أنصار الديمقراطيّة قبل خصومها. ويعتبر، حتّى من قبل جهات قريبة منه، من القوى التي ساهمت بتفانٍ في إجهاض بناء التوافقات الضروريّة والتسويات المطلوبة في مجابهة الأزمة الماليّة الاقتصاديّة. وهي الأزمة التي تفاقمت في غياب رؤية واضحة وبرنامج مرحلي مناسب من الحكومات المتعاقبة في مواجهة المطلبيّة الاجتماعيّة المتأجّجة. وكانت قيادة الاتحاد من الجهات التي ساعدت على تفاقم هذه المطلبية وتوسعها رغم إدراكها حقيقة الأزمة وسبل التصدّي لها. ولم تتردّد في الدعوة إلى الإضراب العام في مناسبتين مثّلتا تهديدًا للسلم الاجتماعيّة.

في هذا السياق، اختلط النقابي الاجتماعي بالسياسي الحزبي في أداء قيادة الاتحاد. وكان لهذا أسبابه الإيديولوجيّة في عناصر المكتب التنفيذي مثلما كان له أسبابه في المشهد السياسي الحزبي. فقد كانت انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الأول 2011 التأسيسيّة، منعرجًا سياسيًّا حادًّا فرّق بين من جمعهم النضال ضدّ الاستبداد لعقود طويلة فعرف المشهد السياسي انقساما هوويًا خطيرًا. ومثّلت انتخابات 2014 التي فاز فيها القديم بقيادة الباجي وحزبه نداء تونس بالرئاسات الثلاث. غير أنّ انقسام حزب النداء وتشظّيه أعاد المشهد إلى حالة عدم التوازن السياسي في علاقة بحركة النهضة. فكان لذلك دفعًا للمنظمة الشغيلة لملء الفراغ وانزلاقها وظيفيًّا إلى دور حزبي استساغته قيادة المكتب التنفيذي، وقد كانت متحفّزة إيديولوجيًا وسياسيًا لمثله.

كانت قيادة الاتحاد من الجهات التي ساعدت على تفاقم المطلبية وتوسعها رغم إدراكها حقيقة الأزمة وسبل التصدّي لها

  • بين النقابي والوطني

 كثيرًا ما تردّد عند قيادة اتحاد الشغل، علاقة المنظّمة الوطيدة بالمسألة الوطنيّة ومرحلة النضال ضدّ الاستعمار. وتردّد هذا عبر أجيال القيادات النقابيّة منذ الاستقلال عبر مراحل مختلفة في مسيرة العمل النقابي حتّى صار جزءًا من سرديّة الاتحاد الذي لم يعمل على التدقيق فيها تجنّبًا لما قد تثيره من توترات هو في غنى عنها. وبالعودة إلى تاريخ الاتحاد نشأةً ومسيرةً يمكن التمييز بين مرحلتين في علاقة النقابي بالوطني في تاريخ المنظّمة.

ورغم أنّ العمل النقابي ظهر في سياق الدفاع عن حقوق العمال التونسيين في ظلّ المستعمر الفرنسي، فإنّ وجود شخصيات تحمل ثقافة نقابية عمالية منفتحة على المنظور إنساني (الفكر الاشتراكي) مثل شخصية محمد علي الحامي مؤسس جامعة عموم العملة التونسيين، جعل الوعي النقابي متقدّمًا على الوعي الوطني في مواجهة الاستعمار نتيجة انفتاح العمل النقابي على أوسع الفئات الكادحة مقابل انحسار العمل الوطني، في أوّل أمره، في دوائر ضيقة من النخب المدينيّة. فكان الوطني يتبع النقابي ويتأثّر به.

 

 

وتواصلت ريادة النقابي مع فرحات حشّاد (1914-1952) بتأسيس الاتحاد العام التونسي للشغل في 1946. وقد جمع الرجل بين القيادة النقابية والزعامة الوطنيّة. فمثّلت علاقته بالنقابات الحرة الأمريكيّة "السيزل" ضربًا من الحدس المبكّر لتحولات القوّة في العالم بأفول نجم بريطانيا العظمى وصعود الولايات الجديدة لقيادة العالم وإعادة بنائه بعد الحرب العالميّة الثانية. وهو من عرّف ببورقيبة (1903-2000) في الولايات المتحدة ولدى أوساط المجتمع الأممي. وباغتيال حشّاد ابتدأ مسار إعادة العلاقة بين النقابي والوطني انتهت إلى تقدّم الوطني ليصبح القاطرة التي تقود البلاد نحو الاستقلال. ولهذا علاقة بموقف فرنسا ورغبتها في بروز شق الحركة الوطنيّة الذي تراه أقب إليها، وبشخصيّة بورقيبة وخصاله القياديّة وتصوره للعمل النقابي على أنّه رافد من روافد الحركة الوطنيّة. وتجلّى كلّ هذا في "مرحلة انتقاليّة" عرفتها علاقة الاتحاد ببورقيبة وحزب الدستور قبل الاستقلال، وانتهت بعد الاستقلال إلى استقرار المنظّمة النقابيّة جزءًا من نظام حكم لا تنفصل فيه الدولة عن الحزب الواحد باعتباره "حزب الحاكم".

بالعودة إلى تاريخ اتحاد الشغل، نشأةً ومسيرةً يمكن التمييز بين مرحلتين في علاقة النقابي بالوطني في تاريخ المنظّمة

  • النقابة والدولة

بعد الاستقلال، أصبح الاتحاد لعام التونسي للشغل جزءًا من نظام الحكم وأحد دعائم شرعيّته وشروط استقراره. وإذا ما شخصنّا المسألة يمكن الوقوف عند العلاقة بين الزعيمين الحبيب بورقيبة رئيس حزب الدستور، والحبيب عاشور الأمين العام للاتحاد. وهو شريك كامل في دولة الاستقلال، وعلى هذا الأساس بنى علاقته مع بورقيبة ومع وزرائه المتناوبين على المسؤوليّة. ولم يكنّ عاشور لهم احترامًا كبيرًا، فقد كان يرى في نفسه ندًّا لبورقيبة الذي لا يقبل بأن يكون له شريك في المجد ويقبل بأن يمنح رفاقه نصيبًا من امتيازات الحكم. ومن مظاهر تفرّد بورقيبة أن جعل رفاقه الذين "خدموا معه" في مرحلة النضال الوطني "يخدموا عنده" بعد الاستقلال.

ومن وجهة نظر كليّة، يلاحظ أن أهم ما ميّز دولة الاستقلال، مركزيّتها الموروثة عن دولة البايات والحقبة الاستعمارية. وقد كانت السبب الأساسي في عجزها عن تغطية كلّ مجالها السياسي والاجتماعي. فاقتصرت على "المجتمع المدني" وتُرك باقي المجتمع الذي يمكن أن نسميه "المجتمع الأهلي" أو "الهامش" للعراء. وبدا واضحًا من خلال التوترات الاجتماعيّة الدوريّة علاقة الدولة بمجتمعها المدني وبالهامش. فعندما يكون الهامش ساكنًا غارقًا في هامشيّته، يجد "المجتمع المدني" -ممثلًا في النقابات- مجالًا للتعبير عن مطالبه في مواجهة الدولة، وقد يصل التوتر إلى حدّ الصراع الدامي. وهذا ما عرفته البلاد 26 جانفي/يناير 1978 المعروف بالخميس الأسود.

 

 

وعندما يتحرّك الهامش وتتصاعد حركته الاجتماعية إلى درجة الانتفاض المواطني، يكون من المجتمع المدني انحياز إلى الدولة وربّما إلى منظومتها و"سيستامها". وهذا ما كان في أحداث الثورة وفي مرحلة بناء الديمقراطيّة. فقد كانت بيانات اتّحاد الشغل في الأسبوعين الأولين للثورة مساندة لنظام بن علي، مثلما كانت الغالب على قوى المجتمع المدني وأنصار الحداثة منحازًا إلى عودة القديم بقيادة الباجي قائد السبسي. وكان انحياز قوى المجتمع المدني إلى غلق قوس الانتقال الديمقراطي مفاجئًا لشركائه من المانحين من الغربيين. إلى جانب أنّهم لم يتبيّنوا سرّ دفاع القوى المحافظة عن "شقف الدولة البورقيبيّة" وهي المتهمة دومًا بتهديد مكاسب الدولة الوطنيّة في الحرية والحداثة السياسيّة.

  • توحيد البلاد

هذا الوضع اليوم تغيّر جذريًّا في ظلّ "البديل القاعدي" ورؤيته السياسيّة القائمة على نفي كلّ الأجسام الوسيطة من نقابات وأحزاب منظّمات حقوقيّة وجمعيات. وتصوره الاجتماعي التنموي القائم على فكرة الشركات الأهليّة القاعدة الاقتصاديّة للنظام الجديد. وكأنّ في هذا التوجه المنتصر بحدّة من المركز بطريقته للهامش و"المجتمع الأهلي" ردّة فعل على انتصار الدولة الحاد في المرّة الأولى لـ"مجتمعها المدني" غداة الاستقلال. ولكن مع متغيّر جديد تمثّل في أنّ التغيير طال بنية الدولة نفسها وعلاقتها بالمجتمع. وهذا ما انعكس مباشرة على المشهد السياسي عامة والمشهد النقابي خاصّة.

قد تنتبه النخبة النقابيّة إلى أنّه لا مستقبل للعمل النقابي خارج الشروط الديمقراطيّة وقد كانت قيادة اتحاد الشغل حاربتها بشراسة في عشريّة الانتقال

ردّتا الفعل، سواء المنتصرة للمركز أو المنتصرة للهامش تصدران عن رؤية قاصرة للدولة والمجتمع في تونس. فلا تتوقّفان عند حقيقة الانقسام الذي تعرفه البلاد. وهذا ما يجعل الاختلاف بين "المشروع التحديثي" و"المشروع القاعدي" في الدرجة وليس في الاتجاه. إذ يصدر المشروعان عن تغيير يعتمد المركز والأجهزة مع فارق كبير تكشف عنه كثافة التاريخ والتجربة في "المشروع التحديثي".

والانقسام الذي تعرفه البلاد مضاعف. فهو انقسام هووي نتيجة عمليّة تحديث قصري لم تغطّ فيها الدولة كلّ مساحة المجتمع الثقافيّة. وانقسام اجتماعي نتيجة سياسات تنمويّة فاشلة لم تغطّ فيها الدولة كل مساحتها الاجتماعيّة، فانقسمت البلاد عموديًا إلى ساحل/داخل. ومن الهامش كان الانتفاض المواطني الذي أطاح بنظام بن علي، واقترح إعادة بناء الدولة كي تغطّي المجتمعين "المدني" و"الأهلي". وفي ذلك تجاوز للانقسامين الهووي (بناء مشترك وطني) والاجتماعي (تنمية شاملة محليّة ومستدامة). وهذا هو الشرط الوحيد الذي تتوحّد فيه البلاد وتكون الديمقراطيّة نتيجة التوازن بين الدولة التي اكتسبت صفة الوطنية و"المجتمع المدني" الموحّد. وقد تنتبه النخبة النقابيّة إلى أنّه لا مستقبل للعمل النقابي خارج الشروط الديمقراطيّة وقد كانت قيادة الاتحاد حاربتها بشراسة في عشريّة الانتقال.  

 

عند هذا الشرط الديمقراطي، يُعاد النظر في العمل النقابي وفي دور المجتمع المدني في بناء الديمقراطية. وعنده كذلك، يمكن الحديث عن خطوات أولى ثابتة في المشروع الوطني. وليس دقيقًا ما شاع من قول بأنّ البلاد عرفت في العشريّة تقدّمًا في المستوى السياسي ولم تعرف مثله في المستوى الاقتصادي والاجتماعي.

وتفيد تجارب عديدة في الانتقال الديمقراطي، بأنّ التحول الاقتصادي مشروط بنجاح التحوّل السياسي. وإنّ من أسباب فشل الانتقال الديمقراطي في بلادنا أنّ التوافق لم يكن على مبدأ "الالتزام بقواعد الديمقراطيّة" وإنّما كان بغاية تحقيق "ديمقراطيّة توافقيّة". والبون شاسع بين التوافقين.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"