يحتّل غذاء الكسكسي موقعًا مهمًا في البلاد التونسيّة وغالبًا ما يعتبر أساس الثقافة الغذائيّة ورمزًا للسيادة الغذائيّة. هو رمز للعمل والحصاد والكرامة مثل الخبز الذي كان محرّكًا للانتفاضة الشعبيّة في تونس التي انطلقت في ديسمبر 1983 والمعروفة بـ"أحداث الخبز" بعد الزيادة في سعر الخبز وعدد من السلع الأساسيّة. بذلك، يمثل كل من الخبز أو الكسكسي رمزًا للمعيش اليومي للمواطن التونسي.
من ظلم الجغرافيا إلى ظلم الدّولة
بدأت المحاولات الأولى لاستبعاد الفلاّح التونسي من دائرة الإنتاج الفلاحي مع الاحتلال الفرنسي. ولازالت المسألة الزراعيّة والفلاحيّة في تونس لا تحظى بالأهميّة الكافية في القطاع الاقتصادي. إذ يعرف القطاع الفلاحي والفاعلون تهميشًا قصديًا منذ عهد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة لأنّ الأرياف والأراضي الفلاحيّة تتمركز في المناطق الداخلية التي تجاهلها نظامه، ولقد نسج على منواله نظام بن علي لاحقًا. كان ولا يزال متساكنو الأرياف من فلاّحين وفلاّحات وشباب وأطفال مقصيّون من مناويل التنمية ومن سياسات الدّولة الاجتماعيّة.
بدأت المحاولات الأولى لاستبعاد الفلاّح التونسي من دائرة الإنتاج الفلاحي مع الاستعمار الفرنسي ولا تزال المسألة الفلاحيّة في تونس لا تحظى بالأهميّة الكافية في القطاع الاقتصادي
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. أين تهدّد كلفة الإنتاج والاستيراد الأمن الغذائي
في هذا الإطار، التقى "ألترا تونس" مع حبيب العايب، رئيس "مرصد السيادة الغذائيّة والبيئة" الذّي تأسس في مارس/آذار 2017، وذلك لمعرفة رأيه كباحث في مجال السياسات الغذائيّة والفلاحيّة. وكان يجول بالبال سؤال أساسي: من يقف أمام تحقيق السيادة الغذائيّة لتونس؟
يعتبر حبيب العايب أنّ الدّولة هي المعرقل الأساسي لتطوير القطاع الفلاحي لأنّ سياساتها الاقتصادية خاضعة للمستثمر الخارجي بل أكثر من ذلك "المستثمرون يبنون التبعيّة الاقتصاديّة والغذائيّة والدّولة تساعدهم على ذلك" وفق تعبيره. ويضيف أن "الدّولة تنتهج سياسة التبعيّة الغذائية عن وعي، في المقابل يسعى الفلاحون، دون وعي البعض منهم، إلى تكريس مفهوم السيادة الغذائية".
"السيادة الغذائيّة هي حق الشعوب في تحديد سياساتها الزراعية والغذائية دون أن تكون في حالة تبعية لبلدان أخرى"، هكذا يوضح حبيب العايب، مضيفًا أنّ مفهوم السيادة الغذائية هو مفهوم شامل وليس مفهومًا قوميًا "أي أنه لا يخضع لشعب أو لمجتمع ما دون غيره، من اللاإنساني أن يحقق شعب ما سيادته الغذائية على حساب شعب آخر ولا يمكن أن يجوع شعب ما لتشبع بطون شعب آخر".
حبيب العايب (رئيس مرصد السيادة الغذائية والبيئة) لـ"ألترا تونس": نحن شعب بنصف كرامة لأننا نستورد 50 في المائة من غذائنا
ويعتبر العايب، صانع فيلم "كسكسي حبوب الكرامة"، أننا "شعب بنصف كرامة لأننا نستورد 50 في المائة من غذائنا". ويقول، خلال حديثه لـ"ألترا تونس"، إن لكلّ دولة الحقّ في حماية إنتاجها وسيادتها الغذائية على إقليمها دون أن يتحوّل ذلك إلى تبعيّة لدول أخرى.
ويدور فيلم "كسكسي حبوب الكرامة" الذي خرج للقاعات عام 2017 حول نفس المفهوم الجوهري أي السيادة الغذائيّة الذي يتلخّص في ارتباط الغذاء بالكرامة الاجتماعية. وقد عرض المخرج شهادات لفلاحين وفلاحات ونماذج فلاحيّة مستقلة بذاتها مثل الزراعة المحليّة والعائليّة. الفكرة التي يدافع عنها صاحب الفيلم أنّ الكرامة الانسانيّة تنطلق من صحن الكسكسي، لذلك وجب الحفاظ على الحبوب الأصليّة للبلاد التونسيّة "ومن لا يمتلك غذاءه هو مسلوب الكرامة" هكذا يؤكد محدّثنا.
من مطمور روما إلى أرض المهمشين
يعرف المشهد الفلاحي الريفي التونسي تنوّعًا وثراءً طبيعيًا ومناخيًا، وقد كانت تسمّى تونس "مطمور روما" لأنها أكثر المناطق إنتاجًا وتخزينًا لبذور القمح والشعير، وهي الحبوب المكونة للأغذية الأساسية للمجتمع التونسي بشكل عام وللطبقة الفقيرة بشكل خاصّ والحديث تحديدًا عن الخبز والكسكسي. في هذا السياق، لاحظت جمعية "التنمية المستدامة بمدنين" تراجع معدل استعمال البذور المحليّة الأصليّة من 65 في المائة سنة 1975إلى 25 في المائة سنة 2004، كما ارتفع عدد الشركات الأجنبية التي تتاجر بالبذور أمام تراجع البذور الأصليّة للفلاحين مع تراجع عمليّة تخزين البذور.
جمعية "التنمية المستدامة بمدنين": تراجع معدل استعمال البذور المحليّة الأصليّة من 65 في المائة سنة 1975إلى 25 في المائة سنة 2004
"أصبحت تونس الآن مهدّدة في أمنها الغذائي وفي حالة تبعيّة شبه تامة فيما يخص البذور على غرار بذور القمح، وأكثر من ذلك أصبحت مرتعًا للمستثمرين المتطفلين على القطاع الفلاحي"، هكذا يؤكد الحبيب العايب مضيفًا، في نفس الإطار، أن القطاع الفلاحي ليس مجالًا للربح والاستثمار، وأن خروج المستثمر من القطاع الفلاحي هي خطوة مهمة لتحقيق استقلاليّة الفلاّحين لانتعاشة القطاع الفلاحي والقطع مع التبعيّة الغذائيّة "ليأخذ الفلاّح دوره الحقيقي باعتباره فاعلًا محوريًا في عملية الإنتاج"، وفق تقديره. ويشير محدثنا، في المقابل، إلى أن الفلاح لا يزال دوره هامشيًا في الوقت الحاضر رغم أنه الذي يزرع وينتج ويزوّد البائعين والمستهلكين بالغذاء اليومي.
"الكلمة للفلاّحين"
يرى حبيب العايب أنّ الاستماع إلى مشاكل الفلاّحين هي مسألة مهمّة لفهم الصعوبات التّي تعترض الفلاّح لذلك نظّم مرصد السيادة الغذائيّة والبيئة بمناسبة "اليوم العالمي لنضالات الفلاحين" يوم 16 أفريل/نيسان 2019 لقاءً مع الفلاحين التونسييّن تحت عنوان "الكلمة للفلاّحين".
عبر الفلاحون عن مخاوفهم من هيمنة الشركات الأجنبية المتاجرة بالبذور ومن غياب استراتيجيا واضحة للدّولة لتحقيق الأمن الغذائي
وعرض الفلاحون، في هذا اللقاء، تجاربهم الفردية والجماعية معبّرين عن مخاوفهم من هيمنة الشركات الأجنبية المتاجرة بالبذور وعن مشاكل التربة والمناخ وتبذير المياه وارتفاع تكاليف الانتاج عدا عن غياب استراتيجيا واضحة للدّولة لتحقيق الأمن الغذائي، وفق تأكيدهم.
كلمات الفلاّحين هي محاولة للتفكير معهم في صياغة حلول وبدائل جديدة، وفرصة للتعبير عن انتظاراتهم من الدّولة. وقد عبّروا عن أخطار تهدد منظومة الإنتاج الفلاحي والسيادة الغذائية واختلال التوازن البيئي والإيكولوجي بالرّيف التونسي مع تدخّل المستثمرين في القطاع الفلاحي. ومن جملة تبعات الاستثمار، يذكر الفلاّحون مخاطر الاستعمال المكثف للأسمدة الصناعيّة والبذور المعدلة جينيًا ودورها في تفقير التربة واستنزاف الثروات المائيّة والطبيعية عدا عن الاستغلال الشاسع للأراضي وعدم الحفاظ على البيئة.
كيف السبيل إلى تحقيق السيادة الغذائية؟
يسعى مرصد السيادة الغذائيّة والبيئة إلى إجراء بحوث ميدانية وأكاديمية حول مختلف القضايا التي تتمحور حول النشاط الفلاحي والتغذيّة والمستهلك والتنوع البيولوجي والعدالة البيئية مع نشر هذه البحوث كي تكون قاعدة بيانات كمية وكيفية لكلّ المهتمين بهذه المجالات.
اقرأ/ي أيضًا: الخطر الزاحف.. تهريب شتلات زيتون وفسائل نخيل إلى تونس
كما يعمل على بناء وتطوير خطاب حول السياسات الغذائيّة "لأنّ تغيير السياسات هو فعل سياسي يتطلّب إرادة سياسيّة"، مع الدفاع عن حقوق الفلاحين الصغار وتشجيعهم على استقلالية أنشطتهم الفلاحيّة وأيضًا تعزيز الوعي بأهمية القضايا الغذائية والبيئية والفلاحية والتفكير بالمشاكل التّي تحوم حولها بما هي الخطوة الأولى لبناء سيادة غذائية حقيقيّة والحفاظ على البيئة والموارد الطبيعية، وفق تأكيده.
ويستهدف المرصد كذلك توعيّة المواطنين والمجتمع المدني والسلطات للتفاعل مع الحلول التي يقترحها للخروج من أزمة التبعيّة الغذائية، مع المشاركة أو دعم التحرّكات الإجتماعيّة التّي تنتصر لمفهوم السيادة الغذائية واحترام البيئة وحقوق الإنسان والموارد الطبيعية.
ماهي أهداف المرصد؟
لعل الهدف الأسمى للمرصد، وفق رئيسه، هو الدفاع عن السيادة الغذائية وافتكاك حقوق الفلاحين المهمشين اجتماعيًا والمقصيين من دائرة الإنتاج الاقتصادي من دولة ناكرة لفضل الفلاّحين على الشعب كما يصف مراقبون. في هذا الجانب، يقول حبيب العايب، في حديثه معنا، أن نشاط المرصد الذي يرأسه له غاية سياسية من خلال السعي إلى التأثير في صنّاع القرار.
ويشير محدثنا إلى أن أول أهداف المرصد هو هدف اجتماعي عبر الدفاع عن حقوق الفلاحين الصغار، وضمان غذائهم واكتفائهم الذاتّي مع السعي إلى استقلاليتهم عن كلّ عنصر يكرّس التبعية، و"نعني بذلك استقلالية الفلاح التامّة عن المستثمرين في القطاع الفلاحي" على حد قوله.
ويضيف أن الهدف الثاني هو اقتصادي يتجلى في مشروع المرصد الذي يسعى لاستعادة قوّة أغلبية الفلاحين الصغار على أقليّة المستثمرين. ويقول حبيب العايب في هذا الجانب: "هدفنا هو جعل الفلاّحين الصغار محور العمليّة الإنتاجيّة وأساسها ولن نصل إلى هذا الهدف إلاّ عبر إخراج المستثمرين من القطاع الفلاحي".
حبيب العايب (رئيس مرصد السيادة الغذائية والبيئة): يسعى المرصد إلى التأثير في صنّاع القرار والدفاع عن حقوق الفلاحين الصغار
ويؤكد أنّ المستثمر أو الرأسمالي الزراعي يهدد الفلاّح الصغير ويمكن أن يقضي عليه مشددًا على ضرورة الدفاع أيضًا عن حقوق المستهلك في غذاء صحيّ ومتكامل مؤكدًا على عدم التمييز بين المستهلك الغني أو الفقير في استهلاك غذاء صحيّ من السوق أو في المطاعم.
كما يشير، في هذا السياق، إلى هدف بيئي إيكولوجي للمرصد من خلال السعي إلى الحفاظ على أنواع الحبوب الأصلية والنظم الإيكولوجيّة والموارد الطبيعيّة وموارد الطاقة والتنوّع البيولوجي. ويعتبر أنّ الحفاظ على البيئة يخدم السيادة الغذائية لأنّ نوع التربة ونوع المناخ والحفاظ على المياه تحدّد نوع الغذاء وجودته وفق تأكيده.
تبقى مسألة السيادة الغذائية مسألة مرتبطة بالسياسات الاقتصاديّة والغذائية للبلاد ورهينة الخيارات الاقتصاديّة وتوجهات صنّاع القرار. ويظل السؤال: هل يتجنّد الإعلاميّ والسياسي والحقوقي للدفاع عن حقوق الفلاّحين الصغار أمام الأخطار التّي تهدّد فلاحته وغذائه؟ وهل يتغيّر خطاب السياسيين حول الفلاّح؟ وهل يأتي اليوم الذّي تغدو فيه السيادة الغذائيّة مطلبًا شعبيًا وليست مبادرة مدنيّة فقط؟
اقرأ/ي أيضًا:
قانون السلامة الصحية.. ثورة تشريعية في القطاع الغذائي و"الأليكا" على الخط