تدفّق الماء من باطن الأرض بقوة ثم اشتعلت النيران فتحول الحلم إلى كابوس. قصة فلاح كان يأمل بأن يوفر بعض الماء من بئر ارتوازية يسقي بها شجيراته ويترك أثرًا لأبنائه من بعده مما أثار الرأي العام المحلي والوطني غير أن القدر ساقه إلى مغامرة غير منتظرة، فبعد أيام من الحفر بحثًا عن جيب ماء سطحيّ، انبثقت من الأرض مياه بقوّة دفع عالية جدًا وغير معهودة في منطقته وسرعان ما تحول الحدث إلى مصدر للفرح في الجهة كلّها غير أن إلقاء سيجارة في منبع المياه حولها إلى كتلة من نار عالية مما ينبئ عن وجود سوائل نفطية أو غازية، وانتشرت الصور على منصات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم.
وصلت إلى قرية "سيدي بوعثمان" في الساحل التونسي، تبعد بعض الكيلومترات عن مدينة الوردانين و تنتسب إلى ولاية المنستير، قرية هادئة سكانها قليلون عماد رزقهم الفلاحة وتربية الأغنام وتحلّقت بيوتهم بوليّ صالح اتصلت كراماته بالماء، فيروى أن من يغتسل بماء بئر سيدي بوعثمان يكون له شفاء من كل داء ويذهب عنه الهم والكدر، وقيل في ذلك أبيات شعر نحتت على باب الوليّ الصالح.
فلاح بالمنستير يحفر بئرًا ارتوازية لريّ أشجاره فكانت المفاجأة بأن المياه المتدفقة من البئر كانت ممزوجة بغاز ما تسبب في اشتعالها، الأمر الذي أثار ضجة واسعة في تونس
لم نكد نصل إلى هناك حتى طالعتنا عشرات السيارات القادمة من الجهات المجاورة والعديد من الفضوليين الذين يبحثون عن منبع "الغاز" المنبعث، وكأنها الثروة القادمة التي ستحول الجهة إلى جنة وتفتح آفاقًا لأهالي الأرض المجاورة في الاستثمار، وكبر الحلم الذي قد لا يأتي.
كانت التساؤلات تحوم حول ماهية هذا السائل المتدفق وتركيبته؟ ولماذا يختلط بالماء؟ وهل هي فعلًا ثروة غازية كامنة في أعماق هذه الأرض؟ وما نصيب صاحب الأرض منها؟ وهل ستتفاعل السلطة مع هذا "الاكتشاف"؟
وصلنا إلى منبع المياه الممزوجة بالغاز الذي يتوسط أرضًا شاسعة تمسح قرابة الأربعين هكتارًا، وقابلنا الفلاح وليد عبد العزيز (55 سنة) رفقة أبنائه. كان يوم الأحد 7 ماي/أيار 2023 طويلًا جدًا على هذا الكهل الذي كان منهكًا بعد أن امتزجت المشاعر عنده بين الأمل واليأس، وبين الحلم والكابوس، وبين الفرح والحزن لِما آل إليه مسار هذا الحادث المفاجئ الذي لم يكن ينتظره حتى بات يطلب حقًا قد يضيع من بين يديه في أي لحظة.
حدثنا وليد عن قصته.. قصة بحث عن مياه تسقي شجرًا فباتت غازًا وربما "ثروة وطنية". يقول: "كان القدر يجري ورائي وقضاء الله أن ينفث من الأرض غازًا، كان أملي الوحيد هو أن أسقي هذه الشجيرات الناشئة والتي تعدّ بأربعة آلاف عود بين زياتين وكروم وخوخ ولوز. ارتهنت إلى المزودين وشركائي من عملة وأنفقت كل ما لديّ من مال كي أترك لأبنائي رزقًا يخدمونه وأرضًا معطاءة لا تنضب".
وليد عبد العزيز (الفلاح الذي حفر البئر): كنت أنوي حفر بئر ارتوازية وبعد أيام من الحفر تدفقت المياه بقوة شديدة ارتفعت قرابة 40 مترًا بشكل عمودي وبشدة تدفق غير معهودة ما أفقدنا السيطرة عليها ليتبين فيما بعد أنها لم تكن مجرد مياه
ولما كان الماء ضروريًا من أجل كل منبت حيّ، اتخذت قرار حفر "صونداج"، أي بئر ارتوازية سطحية، على غرار بعض الجيران الذين يملكون آبارًا وكان الأمل كبيرًا في إيجاد الماء في الأرض رغم أن المهندسين المختصين أبدوا رأيهم المشكك في ذلك.
يواصل وليد حديثه لـ"الترا تونس": بعد أيام قليلة كانت المفاجأة العظمى وذلك بتدفق المياه بقوة شديدة ارتفعت قرابة 40 مترًا بشكل عمودي وبشدة تدفق غير معهودة ما أفقدنا السيطرة عليها، فنحن لم نكد نتمم مهمة البحث واستبشرنا بذلك تمام الاستبشار وشكرنا الله على هذه النعمة".
ويعقّب: "لما حل مساء السبت 6 ماي/أيار 2023 تحول الحلم إلى كابوس وامتزجت الفرحة باللوعة، إذ أن قادحًا أشعل النار في المنبع وتحوّل تدفق المياه إلى كتلة نارية ضخمة تعلو سماء القرية، كانت المفاجأة مدوية فكيف للماء أن يشتعل؟ ولم تمرّ بضع دقائق حتى حل المسؤولون الجهويون والسلطات الأمنية والحماية المدنية على عين المكان واشتعل الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي وتحول خبر العين المتدفقة الجارية إلى مصدر من مصادر المحروقات الهامة واختلط الحابل بالنابل في التحليل والتفصيل، حتى تداخل عليّ الأمر وبت أخشى ضياع حلمي من بعض الماء الذي يروي عطش شجيراتي".
كان الألم يهزّ الفلاح وليد حينما التقيناه، وهو خمسيني ورجل قانون يعمل في أحد الأسلاك الأمنية. وأكد أنه كان قد قدم إلى الجهات المسؤولة في المندوبية الجهوية للفلاحة والصيد البحري بالمنستير طلب رخصة في حفر بئر ارتوازية منذ 11 مارس/آذار الفارط غير أنه لم يتصل بأي ردّ، وفي الأثناء شرع في غراسة الأشجار واستأنف عملية الحفر حتى لا تضيع ثروته وتموت غراساته، وفق ما صرّح له.
ووجّه وليد نداء إلى السلط بأن تحفظ حقه في الماء فذاك مصدر رزقه مهما كانت نتيجة التحاليل التي ستسفر عنها الطبقات السفلى من وجود غاز أو محروقات من أي نوع.
كاتب الدولة المكلف بالمياه: المستغل للأرض لا يملك ترخيصًا للحفر ويعتبر هذا الحفر عشوائيًا.. ولتحليل الظاهرة سيقع تأمين المكان في شعاع 300 متر إلى أن يتم تحليل المعطيات والدراسة على مستوى الجيولوجي
ومتابعة للموضوع، تابعنا زيارة المسؤولين الجهويين في ولاية المنستير الذين حلوا بالأرض المذكورة وعاينوا المياه المندفعة رفقة خبراء ومسؤولين في وزارة الفلاحة منذ مساء السبت وطيلة ظهر الأحد.
وقال كاتب الدولة لدى وزير الفلاحة المكلّف بالمياه رضا قبوج، الذي تحول إلى المنطقة رفقة لجنة وطنية :" لقد عاينا مباشرة هذه المنطقة التي تنتسب مائدتها المائية إلى المنطقة المائية "جمال بنبلة" والتي تعتبر محدودة الموارد (1 مليون متر مكعب) ونسبة الاستغلال فيها 30 بالمائة"، معقبًا: "المستغل للأرض لا يملك ترخيصًا للحفر ويعتبر هذا الحفر عشوائيًا"، مردفًا: "لا بدّ من تحليل الظاهرة، لذلك سيقع تأمين المكان في شعاع 300 متر إلى أن يتم تحليل المعطيات ودراسة على مستوى الجيولوجي والاستئناس بمناطق أخرى".
ويتابع كاتب الدولة للمياه تصريحه قائلًا: "هذه البئر الارتوازية ذات ضغط غير قوي يعادل 17 بار، ويجب تشخيص طبيعتها، كما نبحث عن تأثيرها على الآبار المجاورة".
وخلال الزيارة الميدانية، أدلى الأستاذ في علم الجيولوجيا الحبيب الطرودي بتصريح صحفي كشف فيه أن "البئر حفر في عمق يقارب المائة متر ويتضمن خزانًا كلسيًا وحطاميًا موجودًا في أعماق البئر وهو الذي مكّن من تدفق الماء والغاز بهذا الشكل".
أستاذ في علم الجيولوجيا: البئر حفر في عمق يقارب المائة متر ويتضمن خزانًا كلسيًا وحطاميًا موجودًا في أعماق البئر وهو الذي مكّن من تدفق الماء والغاز بهذا الشكل
واعتبر الحبيب الطرودي أنّ هذا البئر لا يُمثّل خطرًا كبيرًا، مُشيرًا إلى أنّ الحماية المدنية ستتولّى القيام بجميع الإجراءات الضرورية/ ورجح أن يكون هذا الغاز قد تسرّب مع المياه من مكامن بترولية عميقة.
ودعا إلى ضرورة الاستئناس بالخبرات الموجودة في جميع الوزارات، حتى تقوم بدراسات متعدّدة الاختصاصات، لافتًا إلى أنه سيتمّ انتظار مدّة أسبوع لمعاينة البئر مرّة أخرى.
من جهتها، أصدرت وزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري بلاغًا توضيحيًا أشارت فيه إلى تأكيد "ممثلي الشركة التونسية للأنشطة البترولية ETAP أن الدراسات الجيوفيزيائية والزلزالية التي أنجزت بمنطقة الساحل (سوسة والمنستير) تؤكد وجود الغاز المتكون من الصخرة الأم من الأعماق حيث يوجد بحوض الساحل عديد من الفوالق التكتونية النشطة عبر الأزمان الجيولوجية مما أدى لتسرب غاز متكون من الصخرة الأم من الأعماق لتصل للسطح (على غرار بئر سيدي عبد الحميد بسوسة التي شهدت نفس الحالة).
كما أفادت بأنه يتمّ حاليًا تدخل مختصين في المجال لتشخيص الوضعيّة. هذا وقد تمّ أخذ كل الاحتياطات لتأمين البئر وضمان سلامة المواطنين.
وزارة الفلاحة: الدراسات الجيوفيزيائية التي أنجزت بمنطقة الساحل تؤكد وجود الغاز المتكون من الصخرة الأم من الأعماق حيث يوجد بحوض الساحل عديد من الفوالق التكتونية النشطة عبر الأزمان الجيولوجية مما أدى لتسرب الغاز
كما أشارت الوزارة في بلاغها إلى أنه تمت "معالجة البئر العشوائية الكائنة ببوعثمان التي تسبّبت في خروج مياه ارتوازية بارتفاع 15 مترًا تقريبًا وبدرجة ملوحة 5.5 غ/ل مع تواجد انبعاثات غازية، إذ تبيّن اشتعال النيران بها بفعل فاعل ممّا استوجب تدخل أعوان الحماية المدنية لإخماد الحريق"، وفق نفس البلاغ.
الجدل حول هذه البئر لا يزال في أوجه ولم تحسم التقارير الرسمية ماهية السوائل المنبعثة مما أشاع العديد من الفرضيات التي تنبئ بوجود خزانات غازية عميقة في هذه المنطقة ما قد يمثل ثروة وطنية.