قد يتبادر للأذهان -أوّل ما يتبادر- حين نلفظ كلمة "حرقة"، بالعامية التونسية، تعبيرها عن ظاهرة تفشّت بشكل كبير في الأعوام الأخيرة، ألا وهي ظاهرة الهجرة غير النظامية. على أنّ اللفظ يتجاوز هذا المعنى ليشمل "حرقة" الأم على فلذة كبدها.. "حرقة" الأب على نجله، "حرقة" كلّ فرد فقدَ شخصًا اختار أن يركب الزورق أو "الشقف" ليتجاوز الحدود خلسة إلى إيطاليا.
"حرقة" إذًا هو عنوان المسلسل الرمضانيّ الرئيسي في 2021 على القناة الوطنية الأولى (عمومية)، وهو من إنتاج التلفزة التونسية ومن تنفيذ شركة خاصة، وقد أخرجه الأسعد الوسلاتي وكتب السيناريو والحوار عماد الدين الحكيم.
ولئن يحظى مخرج كلّ عمل في العادة بالاحتفاء اللازم إثر عرض عمله على الشاشات، فإنّ كاتب العمل نفسه قد يظلّ غير معروف لدى الكثيرين.. ومن هنا أردنا أن نغوص أكثر في عالم "عماد الدين الحكيم"، كاتب هذا المسلسل الواعد، وهو الذي في رصيده 3 أعمال أخرى هي مسلسل Ambulance في 2015، وفيلم سامحني في 2018، ومسلسل المايسترو في 2019، الذي عرف نجاحًا لافتًا.
"الترا تونس" توجّه لعماد الدين الحكيم، وكان معه الحوار الآتي:
- ما الذي يمكن أن يضيفه الطرح الفني على ظاهرة مثل الهجرة غير النظامية؟
بعض القضايا يكون تأثيرها أكبر على الناس إذا ما تناولناها من الزاوية الفنيّة.. فالتقارير الإخبارية تركّز على عدد الغرقى وأرقام المفقودين في نشرات الأنباء، لكنّنا في المسلسل حاولنا أن نقول إن وراء كلّ رقم حكاية ووراء كلّ حكاية عائلة يمكن أن نغوص في التفاصيل معها ونسبر أغوارها. أؤمن أنّ الطرح الفنيّ قادر على تسليط الضوء على عديد المشاكل وتغيير نظرة الكثير من الأشخاص بخصوص عدد من القضايا.
كاتب سيناريو مسلسل "حرقة" لـ"الترا تونس": التقارير الإخبارية تركّز على عدد الغرقى وأرقام المفقودين، لكنّنا في المسلسل حاولنا أن نقول إن وراء كلّ رقم حكاية
- بين السيناريو المكتوب، والعمل المصوّر الذي يبثّ حاليًا، تغيّرت الكثير من الأشياء؟ ما هي حدود تدخّل الإخراج في السيناريو؟
يقتضي أيّ عمل فنيّ تدخلًا في النص، وهذا يفرضه الديكور أو الإمكانيات المتاحة لتصوير العمل، وفي "حرقة" لا أتصور أن هناك تغييرات كبيرة قد حصلت لأنّ المخرج الأسعد الوسلاتي من أكثر المخرجين الأوفياء لقدسيّة النص.. لكن التحويرات ضرورية بالتأكيد، لأنّ الرؤية الإخراجية للمخرج تمنحه حق تغيير بعض التفاصيل، كما أنّه من المهمّ أيضًا أن نترك للممثّل مساحة كي يستطيع تقديم الإضافة. ونصّ "حرقة" لم تحدث به تغييرات كبيرة ممكن أن تؤثر على السياق أو مسيرة الشخصيات.
- بما أنّك ذكرت الشخصيات، هل يتدخّل كاتب السيناريو في اختيار الممثّلين؟ في "حرقة"، من هي الشخصيّة المركّبة التي أتعبتك في بنائها؟
المؤلف يتشاور دائمًا مع المخرج في اختيار الممثّلين، حتّى إنّني أكتب مباشرة لبعض الفنّانين.. لكن تقريبًا كان هناك اختيار منذ جاءت فكرة "حرقة" بالذهاب نحو المحافظة على الفريق نفسه الذي اشتغل مسلسل "المايسترو" منذ سنتين بما أنه فريق ناجح، وأضفنا طبعًا عددًا آخر من الممثلين، ويمكن القول إنّ كلّ الشخصيات كانت متعبة، لأنّها تقتضي العديد من التفاصيل.. كلّ شخصية يجب أن توصل رسائل معيّنة، وكان يجب الاختصار وعدم الإطالة في الحوارات بالشكل الذي يجعل الشخصيّة تمضي بالقصة قُدمًا وتساهم في تصاعد الحبكة.. وهذا متعب قليلًا فيما يتعلّق ببناء الشخصيات.
اقرأ/ي أيضًا: مسلسلات رمضان في تونس: "الحرقة" ينقذ الموسم!
- اللغة السينمائية الخاصة بعماد الدين الحكيم، فيمَ تختلف عن بقيّة كتّاب السيناريو؟
اللغة السينمائية التي أكتب بها هي تلك التي تعتمد أكثر على الصورة وأحاول فيها أن أختصر قدر الإمكان الحوار، وأنا أسعى إلى اللغة السينمائية التي تكون قريبة للمشاهد.. هناك معادلة مهمّة في هذا الإطار.. أن تكون اللغة فيها عمق لكنها بسيطة في الآن نفسه، بالشكل الذي يجعل كل متفرّج يفهمها بطريقته: المواطن البسيط أو الباحث وكل أطياف المجتمع، وحاليًا ردود فعل المشاهدين إيجابية وهو ما يدلّ على تفاعل كل الشرائح مع المسلسل، وأنا أحرص كثيرًا على أن أكون قريبًا من الناس وأن يكون العمل به أكبر قدر من الواقعية.
كاتب سيناريو مسلسل "حرقة" لـ"الترا تونس": وقفنا على عديد الإخلالات بالفعل، فقد كان هناك بحث كبير لتحضير هذا العمل، أردنا فقط إيصال ذلك للمتلقّي
- استغرب البعض كيف تقدّم القناة الوطنية الأولى عملًا يحتوي نقدًا للسلطة بشكل مباشر، الأمر الذي ربما مازال يعرف خلطًا إذ لا يميّز البعض بعد بين الإعلام العمومي والإعلام الحكومي.. هل واجهتم مشاكل في هذا الإطار؟ هل طلب منكم حذف بعض المقاطع على سبيل المثال؟
لمسنا التحوّل الكبير في القناة الوطنية التي أصبحت عمومية وابتعدت عن كونها حكومية منذ سنوات قبل حتى مسلسل "حرقة".. وفي المايسترو أيضًا احتوى المسلسل على نقد لاذع للسلطة، ولم نجد أيّ مشكلة ولم يحدث حذف أيّ مشهد، بل إنّ إدارة القناة الوطنية كانت تؤمن أنّه حان الوقت لأن نقدّم أعمالًا فيها نقد، طبعًا بلا تحامل أو شتم أو عبارات غير لائقة، وقد كان الاختيار أن يخاطب المسلسل الناس ومشاكلهم، ونحن نعرف أنّ مشاكل الناس مرتبطة دومًا بنقد السلطة الحاكمة ومن في أيديهم القرار والمسؤولية.
كانت هناك أريحية كبيرة وتوفرت كل الإمكانيات التي أردناها، صحيح أنّه كانت هناك بعض الاقتراحات والتخوّفات في البداية لكن هذا لم يؤثر لحرص الإدارة على أن يكتمل المسلسل في أحسن الظروف.
اقرأ/ي أيضًا: شارات المسلسلات الرمضانية في تونس.. حضور لافت لفناني الراب
- الفساد في بعض مؤسسات الدولة ساهم في تفاقم ظاهرة الهجرة غير النظامية وفق المسلسل، هل وقفتم على إخلالات بعينها لدى رحلة بحثكم؟
نعم، هناك عديد الإخلالات بالفعل، كان هناك بحث كبير لتحضير هذا العمل، هذا البحث جعلنا نكتشف العديد من التفاصيل، ولهذا حرصنا على أن ينطلق كل شيء في المسلسل من حقائق.. فمثلًا مسألة أن تقوم وزارة الخارجية بقرعة لاختيار محام ليمثّل عائلات المهاجرين.. هذه من بين الأمور التي أدهشتنا، ولم أكن أتخيّل أن تصل الأمور إلى هذه الدرجة، فهذه طريقة فيها الكثير من الإهانة ورسالة سيئة جدًا أوصلتها السلطة للعائلات، ولهذا مسلسل "حرقة" مبني على حقائق حدثت بالفعل وأردنا فقط إيصالها للمتلقّي.
- وُصف العمل بالسوداوية والنزعة التشاؤمية، هل هذا هدف في حدّ ذاته لتغيير بعض قناعات الشباب الساعي وراء الهجرة غير النظامية؟
شعرتُ أنّ الكثير من الإعلاميين متحاملين قليلًا على العمل ونعتوه بالسوداوية، للأسف هناك "لوبي" كامل يشتغل لترسيخ توجه معيّن في الدراما، ويسعى لأن يظلّ التونسي يتفرّج على الأعمال الهابطة التي لا تتحدّث عن مشاكله. هذا المسلسل يتناول الهجرة غير النظامية، هل كانوا يتوقّعون قصص حب وغرام مثلًا في عمل يتحدث عن مفقودين ولوعة الأهالي ومعاناة العائلات؟
كاتب سيناريو مسلسل "حرقة" لـ"الترا تونس": هناك "لوبي" كامل يشتغل لترسيخ توجه معيّن في الدراما، ويسعى لأن يقبل التونسي على الأعمال الهابطة التي لا تتحدّث عن مشاكله
نزعة الحزن والدراما لم نخترها بل فرضها الموضوع، وبالعكس حاولنا أن نخفّف جرعة الألم لأنّ الواقع صادم أكثر بكثير مما نقلناه، وللأسف يتعامل الكثير مع المسلسلات وكأنها وسيلة للترفيه فقط وليست أداة للنقد والحديث عن مشاكلهم.. يريدون مشاهدة الأعمال التي تخدّرهم أو التي تمثّل مشاكل فئة قليلة من المجتمع، ومن المؤسف فعلًا أن نجد كلّ عمل ينقد ظاهرة في البلاد، إلاّ ويجابه حملة من بعض الأطراف من القطاع الخاص خاصة الذي يجد مشكلة كبيرة ولا يريد للإعلام العمومي أن يعود للإنتاج.
- كيف تتوقّع تأثير المسلسل على شابّ كان يخطّط للـ"حرقة"؟
أيّ شخص سيشاهد المسلسل سيراجع نفسه بخصوص مسألة الهجرة غير النظامية، رغم أننا لم نحاول تقديم مواعظ وعبر، بل حاولنا أن ننطلق من الواقع ونقدّم طرحنا بموضوعية. الموضوعية مهمة جدًا في مواضيع كهذه، وقد حاولت أن أتبنى كل الآراء والأفكار.. هناك أفكار الشخص الذي يريد أن يحرق، وأفكار عائلته وقناعات السلطة.. لم أحاول أن أعطي دروسًا أو حلولًا، لأنّي أؤمن أنّه ليس من دور الأعمال الفنية أن تعطي حلولًا بقدر ما من دورها تسليط الضوء على المشاكل.. لكن أردنا طبعًا أن نقول في الأخير إن الحلّ ليس في "الحرقة".
- ليست إيطاليا الجنّة الموعودة التي يحلم بها من يركب قوارب الموت، لكن ألم تكن هناك مبالغة في إبراز مظاهر العنصرية ضدّ السود مثلا؟
بالعكس، العنصرية في إيطاليا متفشية بشكل كبير، وحاولت أن أبرزها من جوانب أخرى.. فالعنصرية التي تمارس على الأفارقة في تونس هي نفسها العنصرية التي تُمارس علينا في إيطاليا.. ولا أرى أنّ هناك مبالغة بل بالعكس، كل يوم نرى هذه الممارسات العنصرية في أوروبا، والأمر يتفاقم يومًا بعد يوم. لم تكن الفكرة أن نضيف أشياء من عندنا أو نحاول المبالغة بل كلّ شيء مستوحى من الواقع.
- ما هي نقطة قوّة المسلسل، وما هي النقطة التي في حاجة إلى التحسين؟
من بين نقاط القوة في هذا المسلسل هي الواقعية، وكل الأحداث كانت مرتبطة بالناس ومشاكلهم.. ربما يعود هذا إلى الاحتكاك المباشر بهم، ومن بين المراجعات هي ضرورة تطوير عملنا، ولهذا تعوّدنا بعد كلّ عمل أن يحدث تقييم له وأن نبني على كلّ نجاح لتقديم أعمال لائقة ترتقي بالدراما التونسية لتتجاوز الحدود المحلية.
كاتب سيناريو مسلسل "حرقة" لـ"الترا تونس": لا آفاق كبيرة في تونس في كتابة السيناريو لأنّه ببساطة لا توجد إنتاجات، وهي اليوم ليست مهنة 100%
- بعد أن تمّ تأجيل بثّ المسلسل السنة الفارطة بسبب فيروس كورونا، هل تعتبر أنّ نجاحه كان نجاحًا مؤجّلًا؟
النجاح يقرّره الناس، كنا نتوقع أن يلقى المسلسل نجاحًا وصدى طيّبًا لأننا تعبنا فيه وركّزنا في كلّ التفاصيل ولم نترك شيئا للصدفة.
- "كاتب السيناريو".. هل هي مهنة يقتات منها صاحبها، أم هواية؟ آفاقها في تونس؟
كتابة السيناريو في تونس لا يمكن أن تكون مهنة باعتبار غياب الصناعة، ولا آفاق كبيرة في تونس في كتابة السيناريو لأنّه ببساطة لا توجد إنتاجات، وحين ننجح في تسويق الأعمال التونسية في الخارج، قد يزيد وقتها الإنتاج، وقد تتحوّل وقتها كتابة السيناريو إلى مهنة، لكنّها اليوم هي بين المهنة والهواية، ليست مهنة 100% أو هواية 100% لأنّ المؤلف اليوم مطالب أن تكون لديه وظيفة أخرى أو مشروع ليقتات منه.
- لماذا يجب الانتظار إلى شهر رمضان ليشاهد التونسي هذه الأعمال رغم أنّ القضايا ليست موسمية؟
إنتاج الأعمال الدرامية مرتبط دومًا بالإشهار، وسوق الإشهار في تونس صغير جدًا، ولهذا لا نرى أعمالًا على مدار العام، كما أنّ الأعمال الدرامية عمومًا مُكلفة، ولهذا تختار القنوات الخاصة أن تنتج برامج لا مسلسلات، وأرجو أن يتغير هذا الواقع وأن نشاهد منتجين يقررون خوض التجربة، وعلى القنوات أن تراهن على الدراما لأنها قادرة على جلب الجمهور وأن تكون ربحية.
- ما هو الموضوع الذي ستطرحه في العمل القادم، وهل بدأ الاشتغال عليه؟
هناك عديد الاقتراحات التي لا يمكنني الإفصاح عنها في الوقت الحاليّ، لكن ليس هدفًا في حدّ ذاته أن أقوم بمسلسل كل سنة.. فالمهم بالنسبة إليّ هو طرح قضية مهمة تترك أثرًا.