في الرابع من شهر ماي/أيار 2024، فازت رواية "دفاتر الجيلاني ولد حمد" بجائزة الكومار الذهبي لأفضل رواية تونسية مكتوبة باللغة العربية. ويعدّ هذا العمل الأول المنشور لصاحبه د.صحبي الكرعاني، أستاذ الرياضيات بجامعة ليل الفرنسية.
قبل الجائزة، لم تحظَ الرواية بالانتشار والمقروئية اللازمين، ويعود ذلك إلى صعوبة وصول الأعمال الأدبية الأولى لأصحابها إلى الجمهور العريض، خاصة إذا كانت منشورة في دور نشر مغمورة أو ليست ذات صيت كبير.
حصدت رواية "دفاتر الجيلاني ولد حمد"، لصاحبها د.صحبي الكرعاني، أستاذ الرياضيات بجامعة ليل الفرنسية، جائزة الكومار الذهبي لأفضل رواية تونسية مكتوبة باللغة العربية في ماي 2024
بفضل الكومار الذهبي، ظهرت مقالات وقراءات في الرواية على بعض المنصات، وتناولتها نواد أدبية في قراءات جماعية، وهنا يتنزل الحوار الذي خصّ به كاتب رواية "دفاتر الجيلاني ولد حمد" صحبي الكرعاني "الترا تونس" للتطرق لبعض المسائل التقنية والمضمونية في العمل ورؤيته للمشهد الأدبي في تونس، بالإضافة إلى مشاريعه القادمة.
- فلنبدأ بإزالة اللبس عن كاتب الرواية، هل هو صحبي الكرعاني أم الجيلاني ولد حمد؟
من المفروض أنّه لا يجب أن يكون هناك أيّ التباس بشأن هويّة كاتب أيّ رواية، إذ أنّ اسمه هو ما يوضع على غلافها (وهو صحبي كرعاني في حال الدفاتر)، أعتقدُ أنّ لعبة الإيهام بالحقيقة -وهي إحدى مهام السارد الرّئيسية- قد جعلت بعض القرّاء يتوهّمون أنّ الجيلاني ولد حمد هو كاتب الدّفاتر وأنّ دوري اقتصر على تحقيقها. وفي هذا السّياق، يجب أن أعترف أنّ إمضاء مقدّمة "المحقّق" في الرواية بحرفي ص.ك، الّتي توافق الحروف الأولى من اسمي كذلك، قد عمّق ذلك الشكّ في نفوسهم.
د.صحبي كرعاني لـ"الترا تونس": أعتقدُ أنّ لعبة الإيهام بالحقيقة -وهي إحدى مهام السارد الرّئيسية- قد جعلت بعض القرّاء يتوهّمون أنّ الجيلاني ولد حمد هو كاتب الدفاتر وأنّ دوري اقتصر على تحقيقها
وقد فصّل الناقد والشاعر عبّاس بيضون في ثنائيّة الحقيقة والحكاية في "دفاتر الجيلاني" في مقال له منشور بصحيفة العربي الجديد.
- في لقاء سابق لك ذكرت أنك تعمدت نشر روايتك في دار غير معروفة -هذا إصدارها الأول- كي ترى هذا المولود يخطو خطواته الأولى دون أي مساعدة، وهو ما أشارت إليه لجنة الكومار الذهبي قائلة إن هذا العمل جاء للجائزة بمفرده، ألا ترى من ناحية أخرى أن هذا القرار ظالم للرواية، كونه يقلل إلى حد ما من حظوظ الانتشار التي توفرها دور نشر محترفة؟
حاولتُ نشر الرواية من خلال دار نشر محترفة، ولكنّ الأمور لم تمض إلى خواتيمها المنشودة.
أسّستُ في أواخر سنة 2022 "دار نشر أطراس" الّتي أصدرت "دفاتر الجيلاني ولد حمد" في شهر جوان/يونيو من سنة 2023. وقد أسعدني جدًّا تتويجها بالكومار الذهبي رغم أنّها العمل الأوّل للكاتب ولدار النشر.
لا شكّ وأن نشرها من خلال دار نشر معروفة، كان سيعطيها مجالاً أوسع وأسرع للانتشار. ولكنّني لم أشعر بالندم أبدًا لأنّ مسار كتابة الرواية ونشرها، والانتهاء بتتويجها، كان في حدّ ذاته رواية حول الرّواية. والنصّ المنشور، على كلّ حال، رواية غير مرتبطة بزمن معيّن وأمامها كلّ الوقت لتصل إلى قرّائها.
- أين يقف الخيال في الرواية ويبدأ الواقع؟
هذا سؤالٌ تصعب على أيّ روائيّ الإجابةُ عنه. أحيانًا يحضر الواقع بشكل غير واع من خلال صور احتفظنا بها في ذاكرتنا واستعدناها بالسرد. أحداث كلّ رواية تستند غالبًا إلى وقائع سمع عنها أو عاشها كاتبها ثمّ غيّر معالمها بالخيال إلى صيغ تعسرُ حتّى عليه نفسه إعادتها إلى أصولها.
د.صحبي كرعاني لـ"الترا تونس": حاولتُ نشر الرواية من خلال دار نشر محترفة، ولكنّ الأمور لم تمض إلى خواتيمها المنشودة، وكان ذلك سيعطيها مجالاً أوسع وأسرع للانتشار، ولكنّني لم أشعر بالندم أبدًا
عين حمد موجودة فعلاً في ريف القيروان، وهي بالمناسبة مسقطُ رأسي الّتي ولدت وأمضيت فيها جزءًا أساسيًّا من طفولتي قبل أن يُخرجنا منها -ويمحي أغلب معالمها- سدُّ بورقيبة بسيدي سعد. أمّا ما عدا ذلك فهو عمل تخييلي بالأساس، وإن بُنيتْ بعض شخصياته بالاعتماد على نماذج واقعيّة من الحياة.
- فيما يسمى برواية الأجيال، تتعاقب الشخصيات ويبقى المكان هو الثابت، فقرية ماكوندو بقيت راسخة بينما اندثرت كل شخصيات مائة عام من العزلة، وبالمثل بقيت وادي العيون في مدن الملح لمنيف، أما عين حمد في روايتك فقد اندثرت قبل أشخاصها بعد قرار بناء سد بورقيبة مكانها. فهل كتبت الدفاتر كمرثية ضد النسيان لهذه القرية؟
عين حمد مكان حقيقي في ريف القيروان، ولد وعاش ثمّ مات. لا شكّ أنّ ذكراها كانت ستمّحى نهائيًّا برحيل آخر جيل ممّن عاشوا فيها وعرفوها قبل الرّحيل القسري عنها. كان صون ذكرى ذلك المكان المتفرّد من الاندثار أحد دوافعي في كتابة الدّفاتر. ولكنّني حرصتُ ألّا يسقط النصُّ في فخّ التّأريخ المملّ للمكان فكانت عينُ حمد إطارًا ثقافيًا وروحيًا تتحرّك فيه شخصيات الرواية، وإن تناءت عنها في المكان والزّمان.
- كثير من النقاد، من أمثال جورج لوكاش وفالتر بنيامين، يُعرّفون الرواية على أنها فن حضري بالأساس، في مقابل الشعر كممارسة ريفية أو بدوية. إلى أي مدى مازال هذا القول دقيقًا في عصرنا هذا؟ وهل ترى الكم الكبير من الروايات التونسية التي تدور أحداثها في العاصمة والمدن الكبرى عامة، تقدم قيمة فنية ما؟
الرّواية هي أحجية للعالم، كما وصفها ماركيز، وتلزمها تفاصيل كثيرة وتعدّد شخصيّات ولعبة أسرار، ولذلك هي تميل إلى الأمكنةَ الّتي تعجّ بالزّوايا والمتاهات. ومن أجل ذلك كانت المدينة الإطار الأمثل لأحداثها في نظر الكثير من الكتّاب في مقابل البوادي والصّحراء الّتي لا يوجد فيها سوى الامتداد الّذي يصعب ملؤه بالسرد (ربّما لأجل ذلك ملأها الإنسان منذ فجر التّاريخ بكائنات غير مرئيّة). لا أعتقد أنّ ثراء السّرد يتعلّق بطبيعة المكان بقدر ما يتعلّق بقدرة الرّوائي على الاستفادة من عناصره من أجل خلق شخصيّات تنبض بالحياة. ولا يجب أن ننسى أنّ دون كيشوت، أوّل رواية في الأزمنة الحديثة، قد جرت أحداثها في الرّيف الإسباني.
د.صحبي كرعاني لـ"الترا تونس": عين حمد مكان حقيقي في ريف القيروان، كان صون ذكرى ذلك المكان المتفرّد من الاندثار أحد دوافعي في كتابة الدّفاتر
هناك روايات تونسيّة كثيرة اتّخذت من المدينة -خصوصًا العاصمة- إطارها العامّ. لا ضير في ذلك طبعًا سوى أنّ تكرار نفس الثّيمات يجعل منها كليشيهات مستهلكة مع الوقت.
- قلت في لقاء سابق إن اختصاصك في الرياضيات قد ساعدك بشكل ما في إيجاد منطق داخلي للدفاتر، وهنا نأتي إلى مسألة التخصص. هل ترى أن المجيء من خلفية غير مختصة في الأدب يمنح الكاتب حرية إبداعية أكبر من تلك التي يمتلكها الأكاديمي المشتغل بالنظريات الأدبية واللغوية، وأسير لها بحسب الكثيرين؟
مرّة أخرى، لا توجد قاعدة واضحة بالنسبة للإبداع. هناك كتّاب عمالقة جاؤوا من خلفيّة علميّة مثل تشيكوف وكانيتي. التخصّص في المجال الأدبي والإنساني عمومًا لا يتعارض مع كتابة رواية جيّدة. بل بالعكس، يمكن للأكاديمي الاستفادة من معارفه من أجل رسم تفاصيل دقيقة لروايته تتجنّب زلّات الهواة. وربّما يكون المثال الأبرز في هذا السّياق هو أمبرتو إيكو الّذي وظّف معارفه في كتابة "اسم الوردة" إحدى أجمل الرّوايات العالميّة. أعتقدُ أنّ السّرد الرّوائي يستند بالأساس إلى موهبة تُصقل مع الوقت بالجهد والمثابرة، وإذا ما حاول أحدهم تعويضها بمعارفه الأكاديميّة فسيكون نصّه على الأغلب باردًا ومتكلّفًا.
د.صحبي كرعاني لـ"الترا تونس": أنصح المقبلين على الكتابة بعدم استعجال النشر بل بأخذ وقتهم لكتابة نصوص متينة يمكنها الاستمرار، كما أنصحهم بتجنّب التنظير والتقعّر اللّغوي
- امتدت أحداث الرواية من زمن الاستعمار الفرنسي، وحتى الاستقلال وبناء الدولة الوطنية. فهل تفكر في عملك القادم في مواصلة الحفر في تاريخ البلاد التي تلت الحكم البورقيبي؟
كما ذكرت في سؤالك، هي أحداث تتنزّل في تاريخ. كنت معنيًّا بالأحداث وبعالم الشخصيات الّذي يتنزّل في إطار عام من تاريخ البلاد. لم أكن معنيًّا بالتّاريخ كتاريخ بل بتفاعل الشّخصيات مع أحداثه، من أمكنتهم وظروفهم الخاصّة. أمّا الفترة الّتي أشرتم إليها والممتدّة على أربعة عقود، فهي بالتأكيد تصلح كإطار تاريخي لأعمال مقبلة.
- وأنت القادم بقوة إلى المشهد الأدبي التونسي، كيف تقيّم الرواية والقص التونسي عامة، الذي صدر خاصة بعد الثورة سواء في الوطن أو في المهجر، وهل من نصيحة للمقبلين على كتابة عملهم الأول؟
تجربتي القصيرة لا تتيح لي تقييم الواقع الروائي في تونس، وإن فعلت ذلك فسيكون ذلك كقارئ أوّلاً. عرفت البلاد زخمًا روائيًّا في العقود الأخيرة ونُشرت نصوصٌ جيّدةٌ في مواضيعَ بأساليب متنوّعة. هناك الكثيرُ من الغثّ الّذي ينشر كذلك وغياب المحرّرين الأدبيين في دور النشر واضحُ المعالم. لا نصيحة لي للمقبلين على الكتابة سوى بالصدق وعدم التفكير مسبّقًا في الانتشار أو الجوائز. عليهم أن لا يستعجلوا النشر بل يأخذوا وقتهم لكتابة نصوص متينة يمكنها الاستمرار. أنصحهم كذلك بتجنّب التنظير والتقعّر اللّغوي في كتاباتهم وبالحذر من الوقوع في الكليشيهات المستهلكة.