مقال رأي
لتكن الأمور بيّنة منذ البداية، المحاسبة ضد كل من خالف القانون وأجرم في حقّ الشعب هي ليست فقط ضرورة بالمنطق الجزائي البحت الذي يؤسس للردع والزجر لعدم تكرار الجرائم، بل أيضًا ضرورة ديمقراطية ذلك أن سيادة القانون كمنع الإفلات من العقاب مبدأ أساسي في أي نظام ديمقراطي.
من تحديات الثورة التونسية منذ عام 2011، ضمان محاسبة عناصر النظام السابق وحاشيته من رجال الأعمال والإداريين الفاسدين، بيد أن مسار المحاسبة تعطّل لأسباب متعدّدة أهمها ضعف الإرادة السياسية، وتباعًا، ومع تفاقم الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، تعزّزت مطلبية المحاسبة لدى الجمهور العام لكن بما يشمل السياسيين وحلفائهم بعد الثورة، ممن يُتهمون بتمتعهم بحصانة سياسية من المساءلة.
سعيّد يريد محاسبة مشبوهة الأدوات تستهدف خصومه السياسيين بدرجة أولى، بل هو غير معني بالمحاسبة حينما تشمل من تجمعه معهم حسابات مصلحية
في هكذا سياق، مثلت المحاسبة عنصرًا جوهريًا في خطاب قيس سعيّد منذ 25 جويلية/يوليو 2021، بعنوان أن الموعود هو ضمان محاسبة لم تتحقق. لكن المشكل، أن سعيّد يريد محاسبة مشبوهة الأدوات تستهدف خصومه السياسيين بدرجة أولى، بل هو غير معني بالمحاسبة حينما تشمل من تجمعه معهم حسابات مصلحية.
المساءلة القضائية هي الوسيلة الشرعية الوحيدة الضامنة للمحاسبة مع ضمان كل مقومات المحاكمة العادلة. وقد تعطلت هذه المساءلة لأسباب متعددة منها طول البت في آجال التقاضي خاصة في ملفات الفساد المالي، دونًا عن التتبعات المنعدمة أو التحقيقات "غير الجارية" في مكاتب تحقيق عدد من المحاكم.
سعيّد وبدل الاستثمار في دفع المحاسبة ومن ذلك توفير شروط تحققها، ذهب في خيار آخر، وهو نسف أي فرصة لضمان مساءلة غير مشبوهة. حينما نأخذ مثلًا ملفات الفساد المالي، ينتقد سعيّد كثيرًا أداء القطب القضائي لمكافحة الفساد وتحديدًا تأخر التحقيقات التي تدوم لسنوات، ولكن في المقابل، فهو لم يفعل ما يستلزم عليه لتجاوز ذلك.
ينتقد سعيّد كثيرًا أداء القطب القضائي لمكافحة الفساد وتحديدًا تأخر التحقيقات التي تدوم لسنوات، ولكن في المقابل، فهو لم يفعل ما يستلزم عليه لتجاوز ذلك ومن ذلك أن القطب لا يزال يعمل ومنذ انطلاقه دون مساعدين فنيين
لم يستثمر سعيّد في مكافحة الفساد قضائيًا ومن ذلك أن القطب لا يزال يعمل ومنذ انطلاقه دون مساعدين فنيين، فلو كانت تتوفر الإرادة السياسية، لتم انتدابهم لمساعدة قضاة التحقيق على البحث عن الحقيقة في ملفات مالية متشعّبة.
في هذا الجانب، سعيّد يتخلّى أصلًا عن خيار المحاسبة في ملفات الفساد المالي عبر القضاء العادي مقابل فرض مسار عدالة تصالحية قوامها قيام المنسوب إليهم الانتهاكات بالصلح مع الدولة بدفع المبالغ موضوع قضاياهم: مرسوم الصلح الجزائي الذي طرحه الرئيس ينسف أي حاجة لوجود قطب قضائي متخصّص في الفساد المالي.
مرسوم الصلح الجزائي الذي طرحه الرئيس ينسف أي حاجة لوجود قطب قضائي متخصّص في الفساد المالي
خيار الرئيس واضح، لا حاجة لمساءلة المتهمين بل يكفي إعادتهم للأموال فقط. بغض النظر عن النقاش حول هذا الخيار الذي طرقته العدالة الانتقالية بعد الثورة، فهو يؤكد أن حديث قيس سعيّد عن المحاسبة لا يستقصد بالأساس "من نهبوا الشعب" كما يدّعي، بل يستهدف خصومه السياسيين.
استهداف الخصوم يتبيّن في إسهال رئيس الجمهورية في اللجوء للقضاء العسكري، منزوع الاستقلالية، بعد 25 جويلية لتتّبع خصوم سياسيين بشكل لم تشهده البلاد من تواتر إحالة المدنيين على القضاء العسكري بشهادة منظمة العفو الدولية على سبيل الذكر.
الخطير، في القضاء العدلي، هو لجوء سعيّد لتطبيق الفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية الذي يبيح طلب وزيرة العدل من الوكيل العام بمحكمة الاستئناف لإثارة الدعوى العمومية، وهو فصل غير دستوري لأنه يكرّس تدخل السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية، على النحو الذي أكدته لجنة مراجعة المجلة صلب وزارة العدل نفسها. هذا الفصل، الذي كان مهجورًا في التطبيق طيلة العقود الماضية، أصبح بوّابة استهداف سعيّد لمعارضين من سياسيين وحقوقيين.
لم يكن من الصدفة أن عددًا من القضاة المعفيين العام الفارط هم من قضاة النيابة العمومية، ممن رفضوا تعليمات السلطة السياسية في عديد القضايا المثارة ضد سياسيين
هذه القضايا المثارة بطلب من وزيرة العدل هي تأكيد أن الغاية من المحاسبة هي إسكات الأفواه، وإلا لكانت قد بادرت النيابة العمومية بنفسها بإثارة الدعوى. هذه النيابة التي يتهمها رئيس الجمهورية بالتقاعس دائمًا لأنها لا تتبّع من "يتطاول على الدولة"، فسعيّد يريد تتبع منتقديه خاصة على وسائل التواصل الاجتماعي. ولم يكن من الصدفة أن عددًا من القضاة المعفيين العام الفارط هم من قضاة النيابة العمومية، ممن رفضوا تعليمات السلطة السياسية في عديد القضايا المثارة ضد سياسيين.
وللمفارقة أيضًا أن عددًا من القضاة المعفيين هم من القضاة الذين كانوا منخرطين علنيًا في مجهودات مكافحة الفساد القضائي، لكن سعيّد قرّر إبعادهم عن مواقعهم ليحوّلهم إلى ضحايا.
والملاحظ أن سعيّد دائمًا ما يخصّص ثكنات الأمن والجيش ومقرّ وزارة الداخلية بالحديث المشدّد على المحاسبة، وكأن المحاسبة ستحققها الأجهزة الأمنية والعسكرية وليست السلطة القضائية. في هذا الجانب، يتبيّن تبنّي سعيّد للمنطق الأمني على حساب المنطق القانوني في مجال المحاسبة، والمقصود بالمنطق الأمني هو الاكتفاء بالشبهات لتوجيه الاتهامات بدون إعمال الرقابة القضائية.
تبيّن أن سعيّد يتعامل مع التقارير الأمنية كأنها حقيقة مطلقة مقابل إهماله لأبسط المبادئ القانونية كمبدأ المواجهة وحق الدفاع
سعيّد مثلًا اتهم قاضية معفاة بالزنا على أساس تقرير أمني دون انتظار مآل التتبع القضائي الذي انتهى للقضاء نهائيًا ببراءتها. مثال آخر: عدد من القضاة من مساعدين وكيل الجمهورية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب تم إعفائهم لأنهم لم يكونوا "متعاونين" مع الأجهزة الأمنية. أمثلة عديدة كثيرة تبيّن أن سعيّد يتعامل مع التقارير الأمنية كأنها حقيقة مطلقة مقابل إهماله لأبسط المبادئ القانونية كمبدأ المواجهة وحق الدفاع.
ومما يؤكد أن قيس سعيّد لا يريد إلا محاسبة على القياس هو أنه مشارك بصفة مباشرة في إفلات المنسوب إليهم انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان من العقاب. الصورة تتعلّق بالقيادات الأمنية المحالة على الدوائر القضائية المتخصصة للعدالة الانتقالية، والتي رفضت المثول أمام القضاء وصدرت بشأنها بطاقات جلب منذ سنوات، بيد أن وزارة الداخلية لم تنفذ هذه البطاقات القضائية. هو شكل من أشكال تغوّل الجهاز الأمني على حساب السلطة القضائية في تونس. سعيّد لا يتحدث عن مساءلة الأمنيين، ولكنه يسهب في الحديث عن مساءلة خصومه السياسيين، ما يؤكد أن المحاسبة لديه ليست مبدأ بقدر ما هي مسوّغ لخياراته المصلحية لا أكثر ولا أقل.
- المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"