11-أغسطس-2024
قطع المياه على المناطق السقوية في تونس يُربك الفلاحة ويفاقم تحديات الأمن الغذائي

عديد الزراعات شهدت تراجعًا لافتًا في تونس بسبب النقص الكبير في مياه الري واعتماد سياسة التقسيط

 

تعيش تونس أزمة جفاف غير مسبوقة أثّرت بشكل لافت على نسبة امتلاء السدود والبحيرات الجبلية، ما دفع وزارة الفلاحة إلى اتخاذ قرارات بإيقاف تزويد عدد من المناطق السقوية بمياه الريّ في كل من سليانة وباجة وجندوبة وعدد من المناطق الأخرى، وذلك بالتزامن مع مواصلة اعتماد سياسة تقسيط مياه الشرب إلى أجلٍ غير مسمى.

وزارة الفلاحة التونسية اتخذت قرارات بإيقاف تزويد عدد من المناطق السقوية بمياه الريّ في عدد من المناطق، تزامنًا مع مواصلة اعتماد سياسة تقسيط مياه الشرب إلى أجلٍ غير مسمى

ومع تواصل انحباس الأمطار وتراجع مخزون المياه في البلاد، يتابع آلاف الفلاحين بقلق مصير أراضيهم ومستقبل زراعتهم، في حين يحذّر مختصون من أنّ هذه الأزمة ستنعكس على المنتجات الفلاحية وستفاقم تحديات الأمن الغذائي في البلاد.

ونهاية شهر جويلية/يوليو الفائت، أعلنت المندوبية الجهوية للتنمية الفلاحية بسليانة، أنه تقرر إيقاف تزويد المنطقة السقوية بسليانة بمياه الري، وذلك نظرًا لتراجع المخزون المائي بسد الأخماس إلى مستوى ينذر بالنفاد، وقبلها تمّ قطع مياه الريّ على عدد من المناطق السقوية في كل من باجة وجندوبة والكاف.

  • مناطق سقوية دون ماء.. تراجع في الإنتاج وخسارة للفلاح

يقول معز عبد الله وهو فلاح من المنطقة السقوية العمومية بسليانة، إنّ المنطقة التي تم قطع مياه الريّ عنها تضمّ نحو 1200 هكتار ويتمّ فيها تربية نحو 1500 رأس بقر، إضافة إلى إنتاج الخضر الموسمية واحتوائها على مساحات هامة من الزيتون واللوز والقمح.

ويصف عبد الله، في حديثه مع "الترا تونس"، قرار إيقاف تزويد المنطقة السقوية العمومية بمياه الري بـ"الكارثة"، لكنه يرى أنّ هذا القرار جاء نتيجة شحّ المياه وتراجع المخزون المائي لسدّ الأخماس وغياب استراتيجية واضحة للتعامل مع الآثار السلبية للتغيرات المناخية.

ويؤكد محدث "الترا تونس"، أنّ قطع مياه الري على نحو 120 فلاحًا في المنطقة السقوية بسليانة سيكون له تأثير سلبي على إنتاج الحليب والخضروات وعلى صابة الزيتون، وزراعة العلف مثل "الفصّة".

ووفق عبد الله، فإن زراعة "الفصّة" تكون مرة كل 7 سنوات ويكون إنتاجها لاحقًا من الجذور أي دون الحاجة إلى زراعتها مجددًا، مؤكدًا أنه في حال لم يتم سقيها بالمياه الكافية فإنّ جذورها ستموت ما سيتسبب في خسارة فادحة للفلاحة.

فلاح بسليانة لـ"الترا تونس": قرار قطع مياه الري على نحو 120 فلاحًا في المنطقة السقوية بسليانة كارثة، وسيكون له تأثير سلبي على إنتاج الحليب والخضروات وعلى صابة الزيتون، وزراعة العلف مثل "الفصّة"

وتحتاج المنطقة السقوية بسليانة سنويًا حوالي 2.5 مليون متر مكعب، وبعد قطع مياه الريّ عنها لجأ الفلاحون إلى شراء صهاريج المياه لسقي أشجار الزيتون ولسقي قطيع الأبقار، بينما يتوجهون للتخلي عن زراعة البطاطا والبازلاء في الوقت الحالي.

ويؤكد معز عبد الله، أنّه كان من المفترض أن يبدأ الفلاحة في المنطقة السقوية بسليانة في زراعة البطاطا نهاية شهر أوت/أغسطس الجاري حتى تكون جاهزة للاستهلاك في فصل الشتاء، غير أنهم يتوجهون في الوقت الحالي للتخلي عن زراعتها مع تواصل انقطاع مياه الري.

وأوضح أنّ التخلي عن زراعة الخضروات سيتسبب في تراجع الإنتاج الفلاحي في تونس مقابل ارتفاع أسعار الخضر في الأسواق، إضافة إلى تأثر الفلاحة وتراجع مداخيلهم وجفاف أراضيهم.

فلاح بسليانة لـ"الترا تونس": التخلي عن زراعة الخضروات نتيجة تواصل انقطاع مياه الري، سيتسبب في تراجع الإنتاج الفلاحي في تونس مقابل ارتفاع أسعار الخضر في الأسواق

وعلى سبيل المثال، فقد تم سنة 2023 إنتاج 150 طنًا من البطاطا في المنطقة السقوية بسليانة غير أنّ هذا الإنتاج تراجع سنة 2024 إلى نحو 90 طنًا، وهو تراجع كان له أثر سلبيّ على الفلاح والمستهلك على حدّ السواء، وفق عبد الله.

كما أشار إلى أنّ قطاع الفلاحة في ولاية سليانة تأثر بشكل كبير من تواصل انحباس الأمطار والتغيرات المناخية وأثر على إنتاج الحبوب وحب الملوك وعديد الإنتاجات الفلاحية الأخرى.

  • الجفاف يربك الفلاحة

وبالتزامن مع تراجع المياه، توجه الفلاحون لزراعة الزيتون نطرًا لعدم حاجته لكميات كبيرة من المياه، في حين لجأ فلاحون آخرون إلى شراء صهاريج المياه بعد موافقة وزارة الفلاحة التونسية لسقي أبقارهم وريّ مزارعهم.

عضو الاتحاد الجهوي للفلاحة بسليانة لـ"الترا تونس": سدّ الأخماس يحتوي في الوقت الحالي على نحو 250 ألف متر مكعب من المياه وهو رقم ضعيف جدًا

ويؤكد عضو المكتب التنفيذي للاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بسليانة رؤوف حسني، على حاجة الفلاحة للماء لإنجاح موسم زراعة الفصّة التي يتم استعمالها لعلف الأبقار في فصل الصيف للترفيع في إنتاج الحليب.

وأوضح حسني في حديثه مع "الترا تونس"، أنّ سدّ الأخماس يحتوي في الوقت الحالي على نحو 250 ألف متر مكعب من المياه وهو رقم ضعيف جدًا، مؤكدًا أنّه لو تم التسريع في إنجاز سد "وزافة" لكان لدى الجهة الآن احتياطي هام من الماء.

وأكد حسني في السياق ذاته، أنّ إنجاز السدّ الذي من المتوقع أن تصل نسبة تعبئته إلى نحو 30 متر مكعب، تأخر كثيرًا، موضحًا أنّ نسبة كبيرة من مياه السد كانت ستُخصص للمنطقة السقوية بولاية سليانة.

عضو الاتحاد الجهوي للفلاحة بسليانة لـ"الترا تونس": إنتاج المنطقة السقوية بسليانة تراجع في السنوات الأخيرة مع تواصل الجفاف ونقص مياه السدود، ما دفع الفلاحين إلى التخلي عن الزراعات الفصلية والتفريط في قطيع الأبقار

وأشار إلى أنّ إنتاج المنطقة السقوية بسليانة تراجع في السنوات الأخيرة مع تواصل سنوات الجفاف ونقص مياه السدود في الجهة، ما تسبب في إرباك الفلاحين ودفعهم إلى التخلي عن الزراعات الفصلية والتفريط في قطيع الأبقار.

وبحسب رؤوف حسني، فقد أصبحت ولاية سليانة تشتري أكثر من 70% من حاجياتها من خارج الولاية بعد أن كانت تحقق اكتفاءها الذاتي، خصوصًا مع تراجع إنتاج مناطق سقوية أخرى مثل المنطقة السقوية ببنورية (قعفور)، والمناطق السقوية بكل من بوعرادة والعروسة، وفقه.

عضو الاتحاد الجهوي للفلاحة بسليانة لـ"الترا تونس": أصبحت ولاية سليانة تشتري أكثر من 70% من حاجياتها من خارج الولاية بعد أن كانت تحقق اكتفاءها الذاتي

وتابع عضو المكتب التنفيذي بالاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بسليانة، أنّ بعض المناطق السقوية التي تعتمد على المياه الجوفية في الولاية لازالت تعمل مثل منطقة صدقة 1 و2 و3 المختصة وهي تنتج الأشجار المثمرة (التفاح، حب الملوك)، والمنطقة السقوية بالروحية.

وأوضح أن عديد الزراعات شهدت تراجعًا لافتًا في الجهة فعلى سبيل المثال، تراجعت زراعة الثوم من 750 هكتار سنة 2023 إلى 200 هكتار، مشيرًا إلى أنّ هذا التراجع مخيف ووجب دقّ ناقوس الخطر خاصة عندما يتعلق الأمر بالأمن الغذائي للبلاد.

  • باجة.. شبح الجفاف يهدد نحو 24 ألف هكتار من المناطق السقوية

وفي باجة، يعاني الفلاحة بدورهم من نقص كبير في مياه الري واعتماد سياسة التقسيط ما نتج عنه تراجع في الإنتاج الفلاحي بالجهة، وفق ما أكده رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بباجة شكري الدجبي.

رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بباجة لـ"الترا تونس": يوجد في باجة نحو 24 ألف هكتار من المناطق السقوية العمومية، لكن المساحات التي أصبحت تحصل على نصيبها من مياه الري باتت محدودة جدًا

ووفق الدجبي، فإنه يوجد في ولاية باجة نحو 24 ألف هكتار من المناطق السقوية العمومية التي تعتمد أساسًا على مياه السدود والبحيرات الجبلية، غير أنّ المساحات التي أصبحت تحصل على نصيبها من مياه الري باتت محدودة جدًا.

وتم في الموسم الفلاحي لسنة 2024 توفير مياه الري لنحو 3 آلاف هكتار من جملة 5 آلاف من المساحات المخصصة لزراعة الحبوب، قبل أن يتم قطع مياه الري عن المناطق السقوية بالجهة وإرجاعها في جوان/يونيو الفائت مع الاعتماد على سياسة نظام الحصص، وفق ما أكده الدجبي.

وأضاف الدجبي، أنّ المناطق السقوية في قبلاط وتستور ومجاز الباب على سبيل المثال تحصل فقط على خُمس احتياجاتها المائية وأنّ كميات المياه المتوفرة يتم استغلالها لسقي الأشجار المثمرة فقط، وهو ما يعني عدم توفير كميات من المياه لسقي الخضروات والقرعيات والطماطم.

رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بباجة لـ"الترا تونس": كميات المياه المتوفرة يتم استغلالها لسقي الأشجار المثمرة فقط، وهو ما يعني عدم توفير كميات من المياه لسقي الخضروات والقرعيات والطماطم

وأكد رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة والصيد البحري بباجة، أنّ هذا التوجه يقع تطبيقه في عديد الولايات الأخرى مثل جندوبة والكاف وكل المناطق السقوية التي تعتمد على مياه البحيرات الجبلية والسدود للري.

  • إعطاء أولوية للبحث العلمي لإيجاد بدائل لمواجهة التغيرات المناخية

على صعيد متصل، أكد شكري الدجبي أنّ السنة الماضية تعدّ أفضل من سنة 2024 على مستوى كميات المياه المتوفرة في السدود وأيضًا على مستوى الإنتاج الفلاحي، مشيرًا إلى أنّ تواصل الجفاف تسبب في تراجع الإنتاج وارتفاع أسعار الخضر والغلال.

وأشار الدجبي، إلى أنّه عادة ما يبدأ الفلاح في شهر أوت/أغسطس من كل سنة في الاستعداد لموسم آخر الفصلية وهو موسم تتم فيه زراعة البطاطا والخضر الورقية، مؤكدًا أنه في ظل نقص الماء فإنه لا توجد أي مؤشرات على نجاح هذا الموسم.

رئيس الاتحاد الجهوي للفلاحة بباجة لـ"الترا تونس": الفلاحون ممنوعون من زراعة العديد من أصناف الخضروات في ظل غياب خطة بديلة تنقذهم وتنقذ زراعتهم

وقال الدجبي في السياق ذاته، إنّ الفلاحين ممنوعين من زراعة العديد من أصناف الخضروات في ظل غياب خطة بديلة تنقذهم وتنقذ زراعتهم، مضيفًا أن هذه الوضعية تسببت في ارتفاع مديونية الفلاحة والمجامع الفلاحية.

ويرى محدّثنا أنّ السلطات مطالبة بالجلوس إلى طاولة الحوار مع كل الأطراف المعنية لإيجاد حلول بديلة في ظل تواصل انحباس الأمطار وتراجع مخزون المياه في البلاد بشكل مخيف.

وأضاف الدجبي، أنه آن الأوان لإعادة خارطة الفلاحة بالاعتماد على الباحثين التونسيين بهدف إيجاد أصناف جديدة من الغراسات والزراعات التي تتأقلم مع الجفاف وتقاوم التغيرات المناخية.

وتابع قائلاً: "آن الأوان أن يتصدر البحث العلمي المشهد وأن نفهم أن التغيرات المناخية أصبحت واقعًا يجب التعامل معه وإيجاد حلول عاجلة لمواجهته".

  • البنك الدولي: تراجع الإنتاج الفلاحي بنسبة 11% في تونس

وفي تقرير له بداية شهر ماي/أيار 2024، قال البنك الدولي إن تعافي الاقتصاد التونسي تأثر في عام 2023 بالجفاف الشديد، وظروف التمويل الضيقة والوتيرة المحدودة للإصلاحات، مما جعل معدل النمو في البلاد دون مستويات ما قبل جائحة كورونا، وجعلها واحدة من أبطأ معدلات التعافي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.

البنك الدولي: تأثّر الاقتصاد التونسي من الخسائر المرتبطة بالجفاف، التي أدت إلى انخفاض الإنتاج الفلاحي بنسبة 11%، وهذه الوضعية تؤكد الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات للتكيف مع تغير المناخ

وأكد التقرير أنه على الرغم من المكاسب التي تحققت في قطاعي السياحة والتصدير، فقد تأثّر الاقتصاد التونسي من الخسائر المرتبطة بالجفاف، التي أدت إلى انخفاض الإنتاج الفلاحي بنسبة 11%، وأنّ هذه الوضعية تؤكد الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات للتكيف مع تغير المناخ.

وفي مارس/آذار 2024، وافق مجلس المديرين التنفيذيين للبنك الدولي، على قرضين جديدين بقيمة 520 مليون دولار، لتوفير تمويل إضافي بهدف معالجة تحدّي الأمن الغذائي والحد من التفاوتات الجهوية في تونس، من خلال تحسين الربط بممرات الطرق.

وقال البنك الدولي في بيان صحفي له حينها، إنّ مشروع القرض بقيمة 300 مليون دولار سيُكمل الاستجابة الطارئة للأمن الغذائي في تونس الذي سيساعد على مواجهة آثار أربع سنوات متتالية من الجفاف في البلاد، بما في ذلك موسم الحبوب الصعب في عام 2023.

كما يستهدف هذا المشروع تحسين واردات القمح ودعم صغار المزارعين والمنتجين بتوفير الشعير لإنتاج الألبان والبذور القادرة على الصمود في وجه تغير المناخ لمزارعي القمح.