"الرّيسك" هي كلمة من المعجم اللاتيني ونجدها بأغلب اللغات الأوروبية، ولوضوح دلالاتها التي تشير إلى المخاطرة والمجازفة تحولت مؤخراً إلى مفردة أساسية في معجم علم الاجتماع الحديث للحديث عن تفشى ظاهرة من ظواهر ركوب المخاطر أو المجازفة من قبل فئة من المجتمع جراء اختلالات اقتصادية وتنموية وثقافية وغيرها يشهدها المجتمع في لحظة تاريخية ما.
وراج هذا المصطلح في تسعينيات القرن الماضي مع كتابات أستاذي علم الاجتماع الأنقليزي "أنتوني غيدنز " والألماني "أولريش بيك" اللذين قرنا مصطلح "الرّيسك" باتجاهات التفكير على نطاق أوسع فيما يتعلق بالحداثة وأيضًا لارتباطه نفسيًا بالحديث الشعبي عند تناول مشاعر الفخر أو الخوف من المجازفة وانعدام السلامة والأمن.
خلال السنوات الأخيرة وكنتيجة للتحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية الموصوفة بعدم الاستقرار والتي عرفتها تونس بعد ثورة 14 جانفي/يناير 2011 أو حتى تلك المتغيرات الجيوسياسية التي عرفها العالم فإن "الرّيسك" أصبح سمة أساسية في المجتمع التونسي وحسب الخبراء والمحللين فإن مظاهره قد تجلّت أساسًَا في تلك الانزياحات الخطيرة التي قام بها آلاف من الشباب التونسي نحو الإرهاب المعولم وخصوصًا السفر نحو سوريا أو الانخراط في منظومات التهريب المحلي والدولي أو فيما يعرف لدى عموم التونسيين بـ"الحرقة " أو اجتياز الحدود البحرية خلسة.
وأيضًا من مظاهر "الرّيسك" التي باتت رائجة في تونس في الآونة الأخيرة ويتوخاها أساسًا فئة من شباب ومراهقي ضواحي العاصمة والمدن التونسية الكبرى هي خطف الهواتف النقالة أو ما يعرف بـاللهجة المحلية بـ "النّطر".
خطف/ "نطر" الهواتف المحمولة في تونس صار من مظاهر "الرّيسك" التي باتت رائجة ويتوخاها أساسًا فئة من شباب ومراهقي ضواحي العاصمة والمدن الكبرى
وهي كلها ظواهر خطرة متأتيّة من الاهتزازات المجتمعية ومن الأعطاب التي تتعلق بتآلف الطبقات والتآكل التي قد يصيبها جراء تغيرات طارئة وهي ظواهر قابلة للتأمل والدراسة والتحليل والذهاب الى الحدّ منها ومعالجتها بطرق وأساليب شتى.
وبما أن "النّطر" في تونس أصبح فعلًا إجراميًا يوميًا عند بعض المراهقين والشباب غير مبالين في ذلك بعواقب وتبعات تلك المغامرات وما قد تخلفه من أضرار نفسية ومادية وملوحين عرض الحائط بصرامة القوانين التي تؤدي بهم إلى غياهب السجون حيث نجدهم يترصدون ضحاياهم في شوارع وتقاطعات مدروسة تسهل عليهم إتمام عملهم الخطير ثم الفرار سريعًا.
وقد تنوعت وتعددت روايات وقصص "نطر" الهواتف في تونس حتى أن بعضها كان طريفًا وغريبًا بعض الشيء، "الترا تونس" استمع إلى بعضها والتقى جانبًا من الضحايا فكانت هذه هي الروايات كما سردها أصحابها:
روى كمال، وهو اسم مستعار لإطار من سلك الديوانة التونسية، أن عائلته كلها عاشت عمليات "نطر" لهواتف فهذه ابنته الكبرى وهي طالبة بإحدى مدارس الفنون الجميلة بتونس وفي ظرف سنتين تعرضت للنطر 3 مرات، مرة لحاسوبها المحمول وقد خطفه شابان يقودان دراجة نارية من نوع "فيسبا" أمام الكلية ومرتين لهاتفها الشخصي وهي بصدد إجراء مكالمات.
كمال خسر ما يقارب 5 آلاف دينار تونسي كأثمان للهواتف التي "نُطرت" لأفراد عائلته في ظرف وجيز لا يتجاوز السنتين
وأضاف كمال أن ذلك تسبب لها في أذى نفسي كبير فامتنعت عن الذهاب إلى الدراسة لأيام عديدة وأصبحت لا ترد على المكالمات الهاتفية عندما تكون في الشارع ولا تحمل معها حاسوبها النقال إلا للضرورة القصوى. أمّا ابنته الوسطى وهي تلميذة بأحد المعاهد الثانوية بالضاحية الغربية للعاصمة فأكد والدها أن هاتفها الجديد قد نُطر مساء اليوم الأول من العودة المدرسية للسنة الفارطة وقد عادت إلى المنزل حزينة باكية وأصبحت تعيش كوابيس مزعجة أثناء النوم.
كما روى كمال أنه هو نفسه قد تعرض منذ أسابيع قليلة لـ"نطر" هاتفه بمنطقة "الميزنطا" بضاحية حي الزهور بالعاصمة تونس عندما كان بصدد إجراء مكالمة عمل وهو داخل سيارته. وأوضح كمال أن هؤلاء "النطارة " هم من فئة اليافعين والمراهقين اللذين مازالوا يتلمسون طريق الإجرام وركوب "الرّيسك" حيث يشكلون عصابة صغيرة داخل الحي الذي يقطنون به فيقومون في البداية برصد ومتابعة الضحية ثم التنفيذ بأسلوب برقي وإن لزم الأمر التصدي للضحية إن حاولت المقاومة أو اللحاق بهم.
وعن التتبّعات القضائية بيّن كمال أن الشرطة لا تأخذ الأمر بالجدية المطلوبة فمن كثرة هذه الحوادث أصبح الأمر عاديًا بالنسبة إليهم، فهم يسجلون محضرًا ويطلبون الأرقام الرمزية للهاتف "المنطور" وماركته مع إثبات ملكيته وشرائه من محل مرخص له وينتهي الأمر إلى ذلك الحد ولا يعود الهاتف إلى صاحبه.
كمال (تعرضت كل عائلته لحوادث سرقة هواتف محمولة): الشرطة لا تأخذ الأمر بالجدية المطلوبة فمن كثرة هذه الحوادث أصبح الأمر عاديًا بالنسبة إليهم
زوجة كمال تعرضت هي الأخرى "للنّطر" عند مرورها بسيارتها بمحوّل "بن دحة" بالضاحية الغربية للعاصمة، وفق رواية كمال ل،"الترا تونس"، موضحًا أن أحد المراهقين قام بخطف الهاتف من يدها وهي داخل السيارة بهدوء تامّ ولم يكلف نفسه الجري بل ظل يمشي مع المارة بنفس نسقهم لأنه على يقين أنها لن تستطيع ترك سيارتها وهي في أوج الاختناق المروري من أجل اللّحاق به، مضيفًا أن هؤلاء اللصوص الصغار ورغم حداثة سنهم إلا أنهم اكتسبوا من الخبرة الكثير وأصبحوا محترفين في مجال "النّطر " وأوضح أنه عندما توجهت زوجته الى مركز الأمن من أجل تقديم شكوى وتسجيل محضر في الغرض سألها أحد الأمنيين ما إن كانت تعرف اللص أو حفظت ملامح وجهه عدا ذلك فإنه سيسجل المحضر ضد مجهول. كمال خسر ما يقارب 5 آلاف دينار تونسي كأثمان للهواتف التي "نُطرت" لأفراد عائلته في ظرف وجيز لا يتجاوز السنتين، وفقه.
أما نسرين الولهازي، وهي طالبة بكلية 9 أفريل بتونس، فقد استرجعت قصة "نطر" هاتفها الآيفون بكثير من الألم والأسى قائلة "ما عادش ثمة أمان في تونس.. ". وقد روت بـ"الترا تونس" القصة كما عاشتها "ذات يوم مشمس من أيام شهر أفريل الماضي عندما كانت في انتظار سيارة تاكسي حين باغتها أحد الشباب من الخلف بأن قام "بنطر" هاتفها وولى هاربًا في اتجاه الحي الشعبي الشهير "الملاسين ".. وهنا تقول نسرين إن زملاءها الطلبة حاولوا نجدها واللحاق "بالنّطّار" لكنه كان سريعًا كعداء أولمبي إذ سرعان ما اختفى بين الأزقة".
وتضيف أن "بعض سكان حي الملاّسين تعرفوا على اللص وأكدوا أنه من حي آخر مجاور هو "حي هلال" وقد قام بالتمويه كعادته أثناء الهروب ليعتقد المتضرر أنه من الملاسين. وأثناء توجهها صحبة والدها وشقيقها لتقديم شكوى شاهدت اللص بزي رياضي فخم يجلس على ناصية أحد المقاهي الشعبية بالحي. وعند التوجه إليه ومحاولة استرجاع الهاتف بالحسنى أنكر ما نسب إليه وقام بطردهم متوعدًا إياهم بالعنف إن عادوا".
تعرفت الطالبة نسرين على السارق بعد فترة فساومها طالبًا 400 دينار تونسي لإعادة الهاتف ومؤكدًا أن الشرطة لن تعيده إلى صاحبته
وتواصل الطالبة نسرين ولهازي قائلة إنه "عندما تأكد من ذهابهم إلى مركز الأمن أرسل وسيطًا يطلب 400 دينار تونسي مقابل استرجاع الهاتف وأضافت أن الوسيط قال لهم حرفيا: "تشكيو الحاكم موش باش يرجعلكم التاليفون.."، لكنهم في النهاية قدموا قضية في الغرض ولم يسترجعوا الهاتف وبعد أشهر تم القبض على المجرم في قضايا "نطر" أخرى وزج به في السجن ليقضى عقوبة مطوّلة.
قصة أخرى رواها شكري محمودي، وهو أستاذ يدرّس بالتعليم الثانوي وقد حدثت خلال شهر رمضان المنقضي، إذ يقول محدّثنا أنه لا يملك سيارة وكان عائدًا من عمله مساء مشيًا على الأقدام بجهة المروج عندما هاتفته زوجته لتوصيه بعض الأغراض وبينما كان منهمكًا في المكالمة إذا بيد برقية تمتد لتسلبه هاتفه وتقطع عنه مكالمته وتجعله في ذهول.
شكري محمودي، أستاذ تعليم ثانوي لـ"الترا تونس": كدت أمسك بالسارق لكن أحد المرافقين للص تدخل وقام برشي بالغاز المشل للحركة فتوقفت تمامًا
ويضيف أنه "سرعان ما استفاق من ذهوله ليستجمع قواه من جديد وحاول الجري وراء "النّطار" وكاد يمسك به، لكن أحد المرافقين للص والذي كانت مهمته المراقبة واعتراض الضحية إذا ما قاومت تدخل في اللحظة المناسبة وقام برشه بالغاز المشل للحركة فخارت قواه وتوقف تمامًا وسرعان ما تورمت عيناه ودخل في حالة من السعال الحاد.
ويتابع الأستاذ المحمودي أن بعض سكان الحي تدخلوا لنجدته وعاد إلى منزله مهزومًا منكسرًا، لكن في اليوم الموالي ووفق رواية الأستاذ وجد هاتفه بانتظاره في المؤسسة التربوية التي يدرّس بها، مؤكدًا أن تلامذته عندما علموا بما حصل لأستاذهم ساءهم ما حصل فحققوا في الأمر داخل الحي وعرفوا "النّطار" وقاموا بوساطات ومفاوضات "مكوكية" واسترجعوا الهاتف إكرامًا لأستاذهم.
كل هذه الرّوايات والقصص المتعلقة "بنطر" الهواتف في تونس حاولنا تفكيك شيفراتها الاجتماعية والنفسية مع الدكتور رمزي المحواشي، المختص في علم الاجتماع والمدرّس والباحث في الأنتروبولوجيا بالجامعة التونسية الذي أشار منذ البداية أن "تونس تفتقد فعلاً لدراسات علمية ذات جدوى تتناول هذه المظاهر ويمكن الاستناد عليها من أجل البحث عن حلول تقي المجتمع من إمكانية تفاقمها وتحوّلها إلى "خطر الانعدام الكلي للأمن" ، موضحًا أن الجامعة التونسية تقوم بمجهودات بحثية في هذا الإطار رغم غياب الإمكانيات المادية ومن أموال ووحدات بحث مختصة لكن هذا المجهود حسب اعتقاده يبقى محدودًا أمام هول ما يحدث في المجتمع.
رمزي المحواشي، مختص في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": تشكل مجتمع المخاطرة أو مجتمع "الرّيسك" يبدأ من ظواهر مثل "النطر" وما شابه وهي في جوهرها تتأتي من عدم الشعور بالأمان المجتمعي
ويرى الأستاذ المحواشي أن ظاهرة "النّطر" هي شكل من أشكال المخاطرة أو التدرب على اللصوصية ويجنح إليها المراهقون لأنها بالنسبة إليهم هي "لعبة" أو مجازفة صغيرة يتم من خلالها كسر كل مطارق التأطير والبناء التي سلطت عليه في الطفولة من قبل مؤسسات المجتمع. إنها انتفاضة البحث عن الذات خارج القوانين والأخلاق، كما قد تكون عتبة نحو مخاطرات أخرى كسرقة المحلات والسطو المسلح على المغازات والبنوك وهي بوابة كبرى نحو عالم الجريمة الذي يبدو الخروج منه ليس بالهيّن".
وأوضح المختص في علم الاجتماع أن تشكل مجتمع المخاطرة أو مجتمع "الرّيسك" يبدأ من ظواهر مثل "النطر" وما شابه وهي في جوهرها تتأتي من عدم الشعور بالأمان المجتمعي جراء تفشي الفقر وتدني المقدرة الشرائية والشعور بعدم الاستقرار الطبقي وهو ما بدأ يلوح في تونس في السنوات الاخيرة.
رمزي المحواشي، مختص في علم الاجتماع لـ"الترا تونس": ظاهرة "النّطر" هي شكل من أشكال المخاطرة ويجنح إليها المراهقون لأنها بالنسبة إليهم هي "لعبة" أو مجازفة صغيرة يتم من خلالها كسر كل مطارق التأطير
كما أشار محدثنا للآثار النفسية التي قد تخلفها عمليات النطر في نفوس المتضررين معتبرًا إياها جروحًا مفتوحة لا تندمل أبدًا وتتطلب رعاية خاصة على المدى الطويل. وبخصوص الحلول الممكنة لتفادي كل أنواع "الرّيسك" يرى الأستاذ المحواشي أن الاستقرار المجتمعي في كنف الحرية والعدالة والديمقراطية هي علبة الأدوات المثلى التي وجب التّسلح بها.