على الضفة الأخرى هناك، في النصف الشمالي من الكرة الأرضية، تنتظرنا آفاق جديدة، غد أفضل وحياة لا شك أجمل.. لا شيء يفصلنا عن تلك الضفة سوى بعض الكيلومترات وزرقة البحر المتوسط الساحرة.
ولكن هذا البحر في أعتى لحظات هدوئه وصفائه، يخفي بين طيات أمواجه أسرارًا مؤلمة ويحتضن أرواحًا علقت فيه وهي تحاول الإبحار عبره بحثًا عن حياة تضمن لها الكرامة، أرواح أغرتها الضفة الأخرى ووقفت بها السبل في بلد يقولون إن ثورة الكرامة قامت فيه لكن شبابه أصبح أكثر يأسًا. أرواح استسلمت لغناء حوريات الأساطير اليونانية الذي لا يمكن مقاومته ولكنها على عكس أوديسيوس لم تملك إلا أن تقع في غوايتهن ليبتلعها البحر.
لا تستطيع هذه الكلمات ولا غيرها التعبير عن المأساة التي يخلّفها الشباب التونسي المندفع بما يعتبره آخر أمل له أو عن الحزن الذي يسكن أبوين أرادا لطفلهما مستقبلًا أفضل ليعود إليهما في صندوق خشبي أو ليصعقا بنبإ غرق المركب الذي كان يقلّه نحو حلمه، في الضفة الأخرى، دون أن يتمّ العثور على جثمانه. فيصبح الحلم شريكًا في جريمة منفذها مركب مهترئ يحمل مئات الأرواح الحالمة وعصابات موت تستخف بقيمة هذه الأرواح وتسعى خلف الربح السريع مستغلة الطموح والرغبة القاتلة في الهجرة.
معاذ بن نصير (باحث في علم الاجتماع) لـ"الترا تونس": ما نعيشه اليوم تجاوز مسألة الظاهرة الاجتماعية فأصبحنا نتحدث عن ثقافة شبابية جديدة
اقرأ/ي أيضًا: المنظمة الدولية للهجرة: ما جد في قرقنة مأساة لمن كانوا يسعون وراء حلم غير مؤكد
ظاهرة الهجرة غير النظامية في تونس ارتفعت بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة خصوصًا بعد الثورة. ولكن المعدلات التي تمّ تسجيلها في الأشهر الفارطة تعدّ قياسية ولم تعش تونس من قبل مثل هذا الإقبال على "الحرقة".
وبحسب المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية يقدّر عدد الذين هاجروا سنة 2017 بأكثر من 15 ألف شخص منهم 6151 مرّوا عبر السلطات الإيطالية و3178 وقع إحباط محاولتهم من تونس والبقية نجحوا في الوصول إلى سواحل أوروبا دون المرور بطرف رسمي.
وقدر منتدى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية عدد الذين حاولوا اجتياز الحدود في الثلاثية الأولى من سنة 2018 بحدود 3000 شخص وهو ما يمثل عشر مرات العدد خلال نفس الفترة من سنة 2017.
هذه الأرقام المفزعة لا تعبّر عن الحرقة كظاهرة تغزو المجتمع التونسي، بل تعكس في حقيقة الأمر تحوّل ما كان في السابق ظاهرة إلى ثقافة تسيطر على عقول الشباب ونفوسهم والتي تتجلّى بشكل خاص في أغنيات "الراب" التي تحث بطريقة مباشرة على الحرقة وتكرّس عقلية الرجل "الزوالي" الذي يظلمه الجميع بدءًا من أصدقائه وحبيبته وصولًا إلى المجتمع والقادر على الحفاظ ما يعتبر خصال "الرجولة" ويكون حبّه لوالدته "اللميمة" أو "الحنينة".
وفي هذا السياق يقول الباحث في علم الاجتماع معاذ بن نصير، لـ"الترا تونس"، إن "ما نعيشه اليوم تجاوز مسألة الظاهرة الاجتماعية، فأصبحنا نتحدث عن ثقافة شبابية جديدة، فهؤلاء الشباب يعيشون على هامش الهامش وكمحاولة لتحقيق ذاتهم والانخراط صلب المجموعة( notion d'intégration au groupe ) يصبح السلوك الفردي متأثرًا بالسلوك الجمعي ككل، فنذكر موجة الاستماع لأغاني الراب وما تقدمه البعض عبر كلماتها من سخط على الواقع و التمرد والبحث عن حياة أخرى خارج تونس، ورسائل التشاؤم التي تبثها، لذا قد تجد طفلًا لم يتجاوز الثانية عشر يتبنى إحدى أغاني الراب كمنهج لحياته".
ويؤكد بن نصير أن "ظاهرة الفراريزم" قد تبلورت صلب المجتمع التونسي وأن هذه الفئة هي كذلك معنية بعملية الهجرة وسهلة الاستقطاب لما تفتقد له من معايير اجتماعية وثقافية وسلوكية مضيفًا أن المسألة اليوم أصبحت ثقافية بالأساس باعتبار الفراغ الثقافي على أشده داخل المجتمع التونسي، شباب فاقد لهويته الاجتماعية والثقافية.
ويرى أن مسألة الهجرة اللانظامية تعود لعدة أسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية وخاصة ثقافيّة، موضحًا أن "هذا السلوك ليس حكرًا على فئة معينة فقد نجد إناثًا بجانب الذكور على متن قوارب الموت، كما قد نلاحظ المتمدرس وصاحب الشهائد العلمية رفقة ذوي المستوى التعليمي المحدود، بل وهنالك العديد ممن ينتمون لأسر محترمة الدخل ماديًا قد خاضوا تجربة الحرقة".
معاذ بن نصير لـ"الترا تونس": "ظاهرة الفراريزم" تبلورت صلب المجتمع التونسي وهذه الفئة هي كذلك معنية بعملية الهجرة
اقرأ/ي أيضًا: أن تموت وأنت تحاول.. عن حلم شاب تونسي بجنّة أوروبا
ويشير إلى أنه لا يمكن التغافل عن الوضعية الاقتصادية الهشة التي تعيشها البلاد التونسية، فارتفاع نسب البطالة وانسداد آفاق الشغل ومع الأخذ بعين الاعتبار عدم التشغيل إلى سنة 2020 صلب القطاع العام، مبرزًا أن مؤشرات الفقر والفقر المدقع بالبلاد التونسية كذلك كان لها الأثر المباشر لتنامي ظاهرة الحرقة، خاصة إذا تمّ الأخذ بعين الاعتبار أن الشريحة الأكبر من المهاجرين السريين ينتمون الى المناطق الداخلية التي تعيش وضعية اقتصادية و اجتماعية صعبة والتي لم تحض بالتنمية على مر سنوات.
ويلفت محدثنا إلى أن الشاب التونسي يعيش اليوم أزمة ثقة مع الطبقة السياسة ككل وبالأخص الطبقة الحاكمة، فيعتبر الشاب أن الثورة التي قام بها قد نُهبت منه وأنه لم يتغير شيء منذ 2011 بل بالعكس الوضع زاد تأزمًا وأن الحل يكمن في الخروج من البلاد والبحث عن حياة جديدة.
ويوضح الباحث في علم الاجتماع أنه من بين أهم الأسباب التي قد تدفع الشباب إلى الهجرة، هو العامل النفسي، فالوضعية النفسية ومدى نضوجها واستقرارها قد يلعب دورًا هامًا، فليس بالضرورة أن تكون من عائلة نوعًا ما فقيرة ومن محيط اجتماعي صعب حتى تجد نفسك "مجبرًا" على الحرقة، فالهوية الشخصية تختلف من شخص إلى آخر، ومستوى التنشئة الاجتماعية هو الآخر يختلف من شاب إلى آخر، أي مستوى نظرتنا للمواضيع المطروحة تختلف تمامًا بحسب الأشخاص والأفراد، على حدّ قوله.
ويقترح معاذ بن نصير أن تشرف الدولة عبر مؤسساتها في فتح حوار وطني حول مسألة الهجرة اللانظامية والغوص في أعماق المسألة والبحث عن حلول جذرية، في تقاطع بين المؤسسة الأمنية من جهة وبين الخبراء من علم الاجتماع من جهة أخرى، وكذلك المجتمع المدني، فالوضع الراهن لا يبشر بخير والشاب التونسي قد "ينفجر اجتماعيًا" في أي لحظة وعلى الدولة ان تعي بخطورة الوضع ككل، حسب تعبيره.
من جهة أخرى، لا يمكن الحديث عن ظاهرة الهجرة غير النظامية دون التطرق إلى تعامل الدولة التونسية بمختلف مؤسساتها مع الشاب التونسي.
فالشباب الذي يتشدق المسؤولون الحكوميون بضرورة النهوض به يعاني الأمرين في بلد تسدّ فيه الآفاق أمام طاقات الشاب وطموحه إذا لم يكن لديه ما يسمى بـ"الأكتاف"، وهي في بلد يفتخر بثورته في المحافل الدولية لا يستطيع العثور على أدنى وأبسط حق يمكن أن يتمتع به. حقه في الحياة بكرامة.
والأمثلة عديدة هنا ولا يمكن حصرها. الشاب التونسي يجد نفسه ملاحقًا من قبل أعوان الأمن ومعرضًا لشتى أنواع العنف والتنكيل بعد نهاية مباراة ما، أو قد يتمّ اقتياده إلى مركز للشرطة أين سيكون على موعد مع أنواع مختلفة من العنف اللفظي والمادي إذا أراد بعض الأعوان التحول إلى هيئة لـ"الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" وينزلوا ركاب سيارة أجرة ويشتموا أفواه ركابها لمعرفة من كان منهم يتناول الكحول.
يبحث الشاب التونسي عن حياة يعيشها بكرامة في الخارج
الشاب التونسي أيضًا محروم من حقه في الإجهار بالإفطار في رمضان، ويمكن أن يتمّ إيقافه بتهمة التجاهر بما ينافي الأخلاق الحميدة إذا قبّل حبيبته في الطريق، أو حتى في منزل مغلق. ولعلّ حادثة الشاب الذي ألقى بنفسه بعد اقتحام الأمن لمنزل كان يوجد فيه صحبة صديقته. وغالبًا ما يجد هذا الشاب نفسه مجبرًا على إخفاء ميولاته الجنسية لا خوفًا من مجتمع مازال يعيش تعفنًا فكريًا، بل أيضًا من ملاحقته أمنيًا وقضائيًا والمس من كرامته الإنسانية من خلال ما يعرف بـ"الفحص الشرجي".
الشاب أيضًا عندما يحاول تأسيس مشروع خاص به يواجه كلّ أنواع الصعوبات والتضييقات من تعقيدات الإدارة البيروقراطية والفساد المستشري في الإدارات والأداءات التي سيدفعها وغير ذلك من المسائل التقنية المعقدة. بل يصبح العمل على عربة متنقلة صعبًا للغاية ويعرّض صاحبها لمضايقات قد تصل إلى حدّ تهديده أو افتكاك بضاعته المتواضعة.
ولعلّ غياب الكفاءة في التعيينات والانتدابات في كثير من الأوقات كذلك من العوامل التي تجعل الشاب ينفر من بلاده وتجعله يبحث عن بلد يوفر له الحد الأدنى من حياة تضمن له الكرامة كإنسان يتمتع بحقه في الفرص المتكافئة واحترام الحريات الفردية. وهو ما قد يفسر الارتفاع المستمر في هجرة الأدمغة التونسية من أساتذة جامعيين وأطباء وغيرهم. وتصدّرت تونس المرتبة الثانية عربيًا في هجرة الكفاءات العلمية إذ غادرتها 94 ألف كفاءة تونسية خلال الـ6 سنوات الأخيرة، من بينهم 24 في المائة من الأساتذة الجامعيين والباحثين.
ولئن كان بعض الشباب التونسي قادرًا على السفر والحصول على الفيزا والأوراق الضرورية، فالبعض الآخر لا تمكنه ظروفه من ذلك فيجد نفسه عاجزًا ويحاول بشتى الطرق الوصول إلى ما يعتبره طوق النجاة الأخير بالنسبة إليه، رغم إدراكه أن محاولة الوصول إلى هذا الطوق قد تكلّفه حياته ثمنًا لذلك.
اقرأ/ي أيضًا: