إلى حدود ثمانينات القرن العشرين لم يكن شارع فرحات حشاد بالعاصمة تونس شارعًا خلفيًا بسيطًا، بل كان شارعًا مَلَكيًا فاخرًا واسعًا بروح راقية، يطيب فيه الترفيه والتنزه رغم قصره الممتد من ساحة برشلونة إلى حدود شارع "داغ همرشلود" حيث تقف في حدّ الشارعين مدرسة الديوانة التونسية المعروفة لدى التونسيين بـ"قبّة الديوانة" نسبة لقبّتها ذات الطراز الروماني الفخم التي تتراءى للمتجول في شارع فرحات حشاد كأفق معماري جميل وبديع.
كان شارع فرحات حشاد بتونس، شارع المطاعم والبارات والحانات السياحية والشعبية.. لكنه أعدم تمامًا مع بداية أشغال ميترو العاصمة أواسط الثمانينات
لقد كان هذا الشارع منافسًا كبيرًا لـ"شارع الشوارع" ألا وهو شارع الحبيب بورقيبة من حيث الأبّهة، وانسيابية الحياة فيه والخدمات المعروضة، وجمال المعمار ذي الشرفات المطرزة بخيال المهندسين، وبمقاهيه "الشيك" ذات "التيراسات" الواسعة ومغازاته الراقية ومقرات الشركات التجارية الأجنبية والتونسية الموجودة به ولازالت أطلالها باقية إلى اليوم.
كان شارعًا بأشجار باسقة وأضواء كاشفة.. لكنه كان أيضًا شارع المطاعم والمقاهي والبارات والحانات السياحية والشعبية.. وهي ميزة كان يباهي بها بقية شوارع العاصمة. لقد عاش هذا الشارع أجمل القصص واللحظات، لكنه أعدم تمامًا مع بداية أشغال ميترو العاصمة أواسط الثمانينات، فتحول كل ذلك العالم السحري الجميل إلى كومة من ذكريات بعضها عالقًا بالبطاقات البريدية التي كانت رائجة في ذلك الوقت، والبعض الآخر تتناقله الحكايات الشفوية لعشاق هذا الشارع وروّاده المخلصين.
لقد خفتت الحياة بهذا الفضاء المديني المؤنس تاركًا بذلك مكانة أوسع لشارع الشوارع. وتحول إلى مجرّد شارع خلفي بسيط، تشقّه سكة ميترو من حديد بارد، لكن من يدخله مشبعًا بتاريخه وأمجاده الترفيهية، يجد أنّ بعض المقاهي القديمة مازالت موجودة.. والبارات الشعبية أغلبها مازال موجودًا، وبقايا القصص مازالت موجودة وملقاة على أرصفة المكان تنتظر من يلتقطها ويحوّلها إلى ملاحم سردية مخلّدة.
الحانات الشعبية هنا صامدة كمسلاّت فرعونية لا تتآكلها الأزمان ولا تبليها الأيام والدّهور، فقط يتغير الجلّاس والندامى ويتغير النادل: الأبواب الخشبية هي هي، والعتبات الرخامية تقوّس ظهرها من فرط دوس الزبائن عليها جيئة وذهابًا، الأسقف العالية لم تبارحها الأضواء الخافتة منذ أزل، "الكونتوارات" الإيطالية المطرّزة بالنحاس ازدادت عتاقة، الموديلات الكلاسيكية للكراسي التي يتزاوج فيها الحديد بخشب الفورميكا الملوّن.. كلّها شاهد على توقف الزمن بهذه الفضاءات المليئة بالنوستالجيا، والتي هي في حقيقة الأمر تعتبر تاريخًا اجتماعيًا مهدورًا لم يصوّر ولم يدوّن ولم يسجّل.
هنا في هذا الشارع، تسير أمام ناظريك الشخصيات الدرامية للبارات والحانات والمزريات بكامل ألمها وفي قمة نشوتها، وعلى أريج صعلكتها، فقط تنتظر من يقلّب معها التفاصيل.
المساء يقضم من الشفق قطعة ويلقى بها ظلالًا على ذرى أشجار شارع فرحات حشّاد عندما التقيت "فريد"، متعتعًا مترنحًا.. هو كهل خمسيني بدجينز أزرق وقبعة رياضية سوداء تحمل شعار فريق كرة السلة لمدينة شيكاغو الأمريكية. كان واقفًا على الناصية يتحدث الإنجليزية الأمريكية بطلاقة ملفتة وبأعلى صوته، مما جعل المارة ينتبهون إليه. استأنسني قائلًا "تعال ننتظر قدوم الميترو، إنه يذكرني في قطار الترولّي بمدينة فيلادلفيا حيث أقمت لعقدين من الزمن..".
استجبت لطلبه وجلسنا بالمحطة، ولما سألته عن سر اللغة الإنجليزية روى لي قصة تعرّفه بإحدى البارات الشهيرة بهذا الشارع لمواطن تونسي يعيش بالولايات المتحدة الأمريكية، كان ذلك نهاية الثمانينات، يقول: "كنت صغير ونخدم فرملي (ممرّض) وكنت نحلم بالخارج.. كانت الدنيا مازال فيها الخير.. منذ أخبرته برغبتي في السفر، عاوني وطلعني" يضيف فريد: "في أمريكا خدمت كل شيء.. لكن بعد أحداث 11 سبتمبر/ أيلول 2001 تغيّر كل شيء ولقيت روحي في تونس".
مجدة "بارمان" قديم ببار الطاووس: البار كان ملكًا لعائلة إيطالية توارثته جيلًا بعد جيل، وكانوا يجلبون له المشروبات الروحية والخمور الفاخرة من روما، ثم بيع البار لتونسي، وهو الذي غيّر له التسمية وأصبح اسمه "بار الطاووس"
ومن غير تفاصيل، وجد فريد نفسه في تونس بلا إمكانية العودة لبلد الأحلام، فعاد إلى شارعه القديم وباره القديم باحثًا له عن مأوى لأحزانه وخيباته وانكساراته. وكلما تاه في أفق الذكريات، يغدو مخاطبًا للمحيطين به بالإنجليزية .
ليس بعيدًا عن المكان، وعند تقاطع نهج 18 جانفي/ يناير 1952 مع شارع فرحات حشاد، يتخذ "بار الطاووس" زاويته المستحيلة التي تجعل الوصول إليه سهلًا ومتاحًا باعتباره حانة شعبية لها خصوصياتها ومميزاتها عن باقي "البارات" الأخرى. يبدو هذا البار الآن كحطام سفينة بعد سنوات عزّه ونشره أحاسيس النشوة في أجساد البسطاء من عمّال وبحّارة وعتّالين.. خاصة وأن ميناء تونس ليس بعيدًا عن الشارع، فالكل كان يمرّ من هنا.
اقرأ/ي أيضًا: "أنا أسكر.. إذًا أنا موجود": من الدوام إلى الحانة
كان لنا موعد عن طريق أحد الأصدقاء مع "مجدة" (اسم شهرة) وهو "بارمان" (ساقي) قديم ببار الطاووس، "مجدة" اشتغل بالبار في السنوات السبعين ثم انتقل للعمل ببارات أخرى وهو الآن صاحب كشك لبيع المشروبات الغازية والفواكه الجافة والسجائر، يتمركز ليس بعيدًا عن مكان عمله القديم، وقد روى لنا "مجدة" -والعهدة على من روى- أنّ هذا البار كان ملكًا لعائلة إيطالية توارثته جيلًا بعد جيل، وكانوا يجلبون له المشروبات الروحية والخمور الفاخرة من روما، ثم بيع البار لتونسي، وهو الذي غيّر له التسمية وأصبح اسمه "بار الطاووس" تزامنًا مع افتتاح حديقة الحيوانات بهضبة البلفدير وانبهار التونسيين بطيور الطاووس التي صنعت الحدث في ذلك الزمن أواسط القرن العشرين.
ويضيف "مجدة " لـ"الترا تونس" أنّ هذا البار كان سخيًا حنونًا على روّاده البسطاء، ففي سنوات الرخاء كان يقدم "الكَمْيَة" (المزة) مجانًا كما يمنح بعض الزبائن الأوفياء فرصة تأجيل الدفع إذا لم تتوفر لديهم أموال، "الجيرون (صاحب المكان) يكرديهم بمحبة، هو يعرف زبائنه جيدًا". ويتوه خيال "مجدة" في الذكريات القديمة فيقول "لقد كانت الحانة الوحيدة في شارع فرحات حشاد التي تسمع روادها كلاسيكيات الموسيقى التونسية والعربية: شافية رشدي، علي الرياحي، صليحة، عبد الحليم حافظ، أم كلثوم، فريد الأطرش، محمد عبد الوهاب، محرم فؤاد.. كانت الأغاني تغمر الفضاء بهدوء فتزيد من نشوة الروّاد وتخلق مناخات من التعاطف والتحابب.
اقرأ/ي أيضًا: "هنا يباع الخمر خلسة".. حينما يتحدى باعة الخمر الأمن وكورونا معًا
تجولنا مع "مجدة" في شارع فرحات حشاد وكان دليلًا لذيذًا إذ يقول: هنا كان "النواوري" (بائع الورود) يتغزل بالجميلات اللاتي يعبرن كناية عن قرنفله وياسمينه، ويشير إلى دكان اليهودي قائلا: "هنا كان أحسن بائع كَمْيَة في برّ تونس.. كل شي تلقاه عنده مع بنّة (لذّة) الحاجة.. الحقيقة صنعتهم". ويتابع "مجدة": "وذاك المحل كان إلى حدود الثمانينات "مطعم الأنس"، كانت العائلات التونسية تتوافد عليه من كل مكان في العاصمة، يقدم الأطباق التونسية الأصيلة بمذاقات رائعة.." المطعم يحفل نهار السبت، الناس تتعشى ومن بعد تمشي تشوف رواية وإلا فيلم..".
مجدة "بارمان" قديم ببار الطاووس: حانة الطاووس كانت الحانة الوحيدة في شارع فرحات حشاد التي تسمع روادها كلاسيكيات الموسيقى التونسية والعربية
وقفنا مع "مجدة" أمام "بار الطاوس"، نظر نظرة عميقة للمكان وقال: "لم يتغيّر شيء، الباب الحديدي والنافذة الفارهة التي تطل على بهاء الشارع هي هي"، ويضيف: "لقد مسحت ذاك (الكنتوار) آلاف المرات، وابتسمت في وجوه الزبائن ملايين المرات، وفتحت الثلاجات الخلفية بعدد النجوم في السماء، لقد كانت قرقعات الكؤوس والقوارير لحنًا يتكرّر يوميًا"، ويضيف: "وبعد انقطاعي عن المهنة، بقي هذا اللحن يهسهسني لأشهر طويلة، إلى أن صار ذكرى بعيدة رغم قرب المكان".
اتكأ محدثنا على الحائط الذي يسند باب البار المغلق هذه الأيام لأسباب مجهولة قائلًا: "لقد قضيّت عمرًا بأكمله هنا، لكني كسبت محبة الناس وهم من ساعدوني على فتح الكشك الذي أعيل منه أبنائي". نظرنا من خلف البلور: الكراسي الخيزرانية مكوّمة في أقصى الركن تعيش على ذكريات جلّاسها، رخامه باهت وبالكاد تظهر ملامح الرسومات المعلقة على الجدران التي بدأت في فقد طلائها، "الكنتوار" مهجور كقارب خشبي على شاطئ بعيد.
توفيق (اسم مستعار) كهل متقاعد: بار الطاووس كان فضاءً للنسيان، نسيان الواقع بكل مراراته وكل انكساراته وهزائمه، واليوم فقدت بارات شارع فرحات حشاد بريقها وجمالها وزوارها
عرّفنا "مجدة" على أحد الرواد الأوفياء لحانة الطاووس، صديقه "توفيق" (اسم مستعار)، هو كهل متقاعد من شركة فلاحية مازال مقرها موجودًا بشارع فرحات حشاد، يسكن بأحد الشقق القريبة من باب عليوة (أحد أبواب مدينة تونس)، ليس له عائلة.
"توفيق" قضّى سنوات شبابه بهذه الحانة باحثًا عن مطلق النشوة والحلم بالمستقبل المشرق، لكن رياح الأيام جرت عكس التيار، فضاع كل شيء وتحوّل إلى كومة من ذكريات حلوة، ضمن مجالس الحانة تعرّف محدّثنا الأنيق بربطة عنق سوداء وحذاء لمّاع إلى أصحاب أصفياء منهم من رحل ومنهم من مازال يجالسهم إلى اليوم بأمكنة أخرى.
يقول "توفيق" إن بار الطاووس كان فضاءً للنسيان، نسيان الواقع بكل مراراته وكل انكساراته وهزائمه، الكل يأتي مثقلًا فتعترضه أغنية أم كلثوم "جدّدت حبك ليه بعد الفؤاد ما ارتاح.. حرام عليك خليه غافل عن اللي راح.." فينسى كل شيء ويحلق في عالمه الجديد بعد أن ترفعه حبال النشوة إلى أعلى، إلى أعلى..
يختم "توفيق" اللقاء العابر بالقول إن "بارات شارع فرحات حشاد قد فقدت بريقها وجمالها وزوارها، وقريبًا ستفقد ذكرياتها، إنّه عالم من التفاهة بصدد الهيمنة على كل شيء".
وتبقى قصص البارات التونسية تاريخًا اجتماعيًا مهملًا، وسردًا ينتظر من يزيل عنه غبار النسيان.
اقرأ/ي أيضًا:
"مقهى لونيفار" في العاصمة التونسية.. أرض فكرية للمقاومة الثقافية والسياسية