01-سبتمبر-2024
المحكمة الإدارية

قرارات الجلسة العامة للمحكمة الإدارية ستظلّ، إجمالًا، عنوانًا محفوظًا في تاريخ القضاء الإداري

مقال رأي 

 

قرارات الجلسة العامة للمحكمة الإدارية بإلغاء رفض الهيئة العليا "المستقلة" للانتخابات لثلاثة ترشحات للانتخابات الرئاسية، وإعادة المرشحين من جديد للسباق الرئاسي، لا خلاف على أنها قرارات تاريخية من زوايا متعدّدة ليس أولّها تكريس دور القضاء في إعلاء دولة القانون وضمان حق الترشح في مواجهة تعسّف الهيئة الإدارية المشرفة على الانتخابات ضمن سياق سلطوي متصاعد في البلاد. 

المحكمة الإدارية بقراراتها مثّلت مكبحًا لتعسف السلطة وأعادت تصدير دور القضاء الإداري في ضمان سلطان القانون وعلوية الدستور

القضاء الإداري يفرض بالنهاية وبقوّة القانون تنافسية السباق الرئاسي، ويطيح بالعراقيل المتعددة التي وضعتها السلطة السياسية والإدارية وحتى القضاء العدلي لمنع مترشحين جديين من الترشح في مواجهة الرئيس الحالي الذي تبيّن بالكاشف أنه لم يكن متحمسًا من أجل تمكين معارضيه من منافسته.

فحينما ظهر أن السلطة السياسية استطاعت تجيير الإدارة لصالحها التي امتنعت عن منح المرشحين بطاقة السوابق العدلية التي فرضتها من جهتها هيئة الانتخابات بشكل غير دستوري، على نحو كانت تحسب السلطة أن مفتاح الترشح بديها، أكدت المحكمة الإدارية ما سبق وتبنّته منذ سنوات زمن الانتقال الديمقراطي بأنه لا يمكن إسقاط مترشح لعدم إدلائه ببطاقة تمسكها عنه الإدارة. الصورة واضحة ولا تحتاج بالمنطق القانوني المحض لمجهود كبير للإقناع.

على خلاف القضاء العدلي الذي استطاعت السلطة السياسية التحكّم في منافذه وإدارته، ظلّ القضاء الإداري عصيًا على توظيفه بحكم تركيبته

المحكمة الإدارية عرّت، وبالخصوص كذلك، تعسّف هيئة الانتخابات في احتساب عدد التزكيات للمترشّحين بما أدى لإسقاطهم من جانبها، على نحو جعل السهو أو التغافل عن معطى ثانوي في ورقة الاستمارة مسقطًا للتزكية برمّتها. المحكمة أعادت تصويب انفلات الهيئة عبر إصدار أحكام تحضيرية بتوجّه عدد من أعضاء الجلسة العامة لمقرّها للمعاينة، لتنتهي بالنهاية لاحتساب عشرات التزكيات التي تم إسقاطها دون وجه حقّ، بما أدى لإعادة المرشحين للسباق الرئاسي. والمرشحون هم للتذكير عبد اللطيف المكي ومنذر الزنايدي وعماد الدائمي.

المحكمة الإدارية بقراراتها مثّلت مكبحًا لتعسف السلطة وأعادت تصدير دور القضاء الإداري في ضمان سلطان القانون وعلوية الدستور. دور كانت القدرة على تأمينه مشكوك فيها، ليس تشكيكًا في حكم القانون بل تشكيكًا في القدرة على تطبيقه زمن "القضاء الوظيفة"، بعد ضرب ضمانات استقلالية القضاء في دستور الرئيس والممارسة. ولكن على خلاف القضاء العدلي الذي استطاعت السلطة السياسية التحكّم في منافذه وإدارته، ظلّ القضاء الإداري عصيًا على توظيفه بحكم تركيبته. فالجلسة العامة للمحكمة الإدارية تتكوّن من 27 عضوًا هم رؤساء الدوائر التعقيبية والاستشارية والاستئنافية إضافة لمستشار عن كل دائرة تعقيبية، تركيبة لا يمكن التحكم فيها كما لا يمكن ممارسة ضغوط عليها، على نحو يفرض أن تكون المعركة قانونية محضة في العمق أدواتها هي العرائض والتقارير لا غير. 

القضاء الإداري يفرض بقوّة القانون تنافسية السباق الرئاسي، ويطيح بالعراقيل المتعددة التي وضعتها السلطة السياسية والإدارية وحتى القضاء العدلي لمنع مترشحين جديين من الترشح في مواجهة الرئيس الحالي

على خلاف ذلك، كان تمكين وزيرة العدل لنفسها من إصدار مذكرات عمل على سبيل المثال بتسمية قضاة معينين في النيابة العمومية ومكاتب التحقيق على وجه الخصوص بوابة لجعل إثارة القضايا وممارستها ضد المعارضين السياسيين والمحامين الحقوقيين والقضاة المعفيين والصحفيين غير التابعين وغيرهم بيد ما تريده السلطة في نهاية المطاف.

وإن عدا مستوى الشرعية المحض، الأحكام الصادرة تؤمن مشروعية الانتخابات على الأقل من بوابة فرض التنافسية، خاصة وأن المرشحين الذين عادوا للسباق بفضل أحكامها يمثلون عائلات سياسية متعددة، على نحو يعزّز خيارات الناخب التونسي للحسم عبر الصندوق. فالأحكام ضاعفت عدد المرشحين من ثلاثة فقط قبلتهم هيئة الانتخابات إلى ستة مرشحين. مشروعية دائمًا تظل محل التباس في ظل تراجع مؤشرات النزاهة على الأقل مقارنة بالانتخابات الرئاسية زمن الانتقال الديمقراطي، وذلك في الواقع الحقوقي الحرج في ظل توظيف المرسوم 54 لضرب حرية التعبير والمحاكمات السياسية ضد المعارضين مع تراجع حرية الصحافة، وتغييب الإعلام العمومي للخطاب غير الرسمي دون عن غياب هيئة الاتصال السمعي والبصري وإلخ من العناصر المحددة في تقييم نزاهة أي عملية انتخابية.

فرضية عدم احترام أحكام القضاء الإداري، تعكس ترددًا في الخضوع لأحكام القضاء واجبة التنفيذ، وهي رسالة جديدة من هيئة يتراجع يومًا بعد يوم منسوب ثقة الفاعلين السياسيين تجاهها

قرارات الجلسة العامة ستظلّ، إجمالًا، عنوانًا محفوظًا في تاريخ القضاء الإداري وستخلّده الأجيال على مرّ الزمن، وهو رسالة أن المقاومة القانونية والمؤسساتية تظلّ ناجعة مهما استباحت السلطة السياسية في تهديم أركان دولة القانون وفي مقدمتها استقلالية القضاء. مقاومة ابتدأها المرشحون رغم حجم الملاحقات القضائية والأمنية، وواصلوها عبر خوض معركة قانونية في مواجهة هيئة انتخابات جعل إسقاط قراراتها قضائيًا مدى حيادها واستقلاليتها موضع تساؤل. وهو تساؤل تضاعف مع تصريح لهيئة الانتخابات أحال على فرضية عدم احترام أحكام القضاء الإداري صاحب القول الفصل في نزاعات الترشح بنص القانون. وهي فرضية بقطع النظر عن مدى المغامرة نحوها، فهي تعكس ترددًا في الخضوع لأحكام القضاء واجبة التنفيذ. رسالة جديدة من هيئة يتراجع يومًا بعد يوم منسوب ثقة الفاعلين السياسيين تجاهها.

مجددًا، إن المقولة المؤسسة للعلامة ابن خلدون "العدل أساس العمران" تجد تطبيقها في قرارات الجلسة العامة التي انحازت للقانون والحق. دستور 2014 كان قد أوكل للقاضي مهمة ضمان إقامة العدل، وعلوية الدستور، وسيادة القانون وحماية الحقوق والحريات، وهي مهام إن أسقطها الرئيس في دستوره، فهو لا يستطيع إسقاطها من ضمير القضاة لأنها من صميم دورهم ومضمون رسالتهم. وهذه القرارات هي أشبه بجرعة أوكسجين في جسد الحراك الديمقراطي في تونس بتصدير أنه مهما بطشت السلطة وأدواتها، فإن كبحها ممكن بقوة القانون والقضاء مهما اُستهدف بغاية تطويعه. بالنهاية، لازال ينبض العدل في البلاد.

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"