في السياق الحالي، حيث يُدار التنافس السياسي بكل الوسائل غير الشريفة المتاحة وأهمّها نشر الأخبار الكاذبة، تواجه دراسة الإستراتيجيات الاتصالية للمترشحين الاثنين في الدور الثاني في الانتخابات الرئاسية، قيس سعيّد ونبيل القروي، صعوبتين أساسيتين:
- تتمثل الصعوبة الأولى في أن المناصرين (أو الأنصار)، الذين كما هو معلوم لا يقبلون إلاّ بالمقالات المدحيّة، يعتبرون أن كل تفسير مغاير للسردية الوردية التي تروج عن مرشّحهم هي مؤامرة ضده وإساءة له أو سعيًا للنيل من مصداقيته. وبذلك فالسياق الحالي مناسب لكل أنواع القراءات التآمرية، فالكلّ يعتقد أن المنافس الذي يدافع عليه تُحاك ضده المكائد.
- فيما تتعلّق الصعوبة الثانية بغياب المعلومات والمعارف الدقيقة عن مسارات المترشحين أنفسهم. فلو أردنا البحث عن تحقيق صحفي واحد أو حتى ريبورتاج صحفي عن ناخبي نبيل القروي والأنشطة التي قام بها منذ ثلاث سنوات في إطار إستراتيجيته للوصول إلى قرطاج فقد لن تجد شيئًا. والأمر ذاته بالنسبة إلى قيس سعيّد وعن الحركات الشبابية التي تسانده على فيسبوك، وعن الشباب الذي يتحدّث عنه والذي يقول إنه هو من قام بحملته.
الدراسات البحثية في سوسيولوجيا التصويت أو في العلوم السياسية عن منطق دوافع التصويت في تونس معدومة تقريبًا وإذا كانت موجودة فهي مغمورة في الفضاء الأكاديمي
فالدراسات البحثية في سوسيولوجيا التصويت (sociologie électorale) أو في العلوم السياسية عن منطق دوافع التصويت في تونس معدومة تقريبًا وإذا كانت موجودة فهي مغمورة في الفضاء الأكاديمي، ويعني هذا أن المعرفة الصادرة عن البحوث الميدانية غير متوفرة بسبب غياب الاهتمام بالموضوع وبالمراكز البحثية وحتى من الأحزاب نفسها.
هكذا يبدو أن المؤسّسات التي تستكشف المجتمع وترصد تحولاته، على غرار البحث العلمي في العلوم الاجتماعية والإنسانية والصحافة والميديا (التي تفضل في هذه المسائل النقل والرأي على التحقيق والاستقصاء)، معطّبة وغير قادرة على أداء وظائفها. ولهذا السبب، تبدو نتائج الدور الأول من الانتخابات الرئاسية كالزلزال يأتي دون سابق إنذار ودون أي يكون للمجتمع مقياس ما لاستشعارها.
اقرأ/ي أيضًا: في أزمة الديمقراطية التونسية المزدوجة: السياسة والميديا
ومن هذا المنظور فإن الكثير مما يقال عن فوز المترشحين الاثنين للدور الثاني لا يعدو أن يكون سوى "أراء" أو "انطباعات" تتوزع بين التفسيرات "العجائبية" أو المدحية من جهة أولى أو "التفسيرات المؤامراتية" من جهة ثانية.
تكاد تكون بعض التفسيرات لصعود قيس سعيّد إلى الدور الثاني "عجائبية" على نحو ما، حتى أن انتصاره يقدم أحيانًا على أنه انتصار "الذكاء الجماعي" في الفضاء الافتراضي بفضل "الجموع المتعاونة" والمناهضة للسيستام أو منظومة الحكم، والتي عملت في صمت في مئات المجموعات الخفيّة التي طوّرت تقنيات وأساليب لإنجاز حملة مناصرة لم يرها ولم يعلم بها أحد. أما حملته فهي نموذج سيحتذى به (دون أن تتوفر لنا أية معرفة حتى ولو كانت محدودة عن هذه الحملة وآلياتها). فيصبح قيس سعيّد سياسيًا خارقًا للعادة تمخّض بطريقة "عجيبة" عن إرادة الشعب (أنظر مثلا هذه القراءة حول دور فيسبوك في فوز قيس سعيّد).
في المقابل، فإن قراءات أخرى ذات طابع "مؤامراتي" لا تقلّ "عجائبية" عن القراءات الأولى تتحدث عن تطبيقات ذكية وماكرة وظّفتها أطراف داخلية وخارجية تعمل لصالح قيس سعيّد، تطبيقات قادرة على توظيف آليات وتقنيات متقدمة وماكرة تشبه ما استخدمته شركة "كمبٍريدج أناليتيكا" لاستقطاب الناخبين لصالح ترامب في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة.
تكاد تكون بعض التفسيرات لصعود قيس سعيّد إلى الدور الثاني "عجائبية" على نحو ما حتى أن انتصاره يقدم أحيانًا على أنه انتصار "الذكاء الجماعي" في الفضاء الافتراضي بفضل "الجموع المتعاونة"
أما بالنسبة إلى المرشح الثاني، أي نبيل القروي، فإن مروره إلى الدور الثاني يفسر عادة باستحواذه على قناة خاصة به وبالحملات التي قام بها للتسويق لنفسه كشخصية منشغلة بمصير الفقراء إضافة إلى الأنشطة الخيرية التي قام بها لصالح آلاف التونسيين. وفي كل الأحوال، تبدو "المقرونة، كما يردّد منافسوه، وكأنها تكفي وحدها لتفسير مروره إلى الدور الثاني، وكأن مئات آلاف التونسيين الذين صوتوا له ساذجين إلى حدّ يمكن التأثير عليهم ببعض صناديق الأغذية.
هكذا ورغم غياب التحقيقات الصحفية العميقة التي تفسر لنا مسارات الحملات الانتخابات غير النمطية التي أوصلت المترشحين الاثنين إلى الدور الثاني وفي غياب المعارف العلمية الأكاديمية (سوسيولوجية أو في العلوم السياسية) الصارمة التي يمكن أن تعطينا فكرة دقيقة عن الدوافع التي تفسر التصويت للمترشّحين، فإننا نقرأ هنا وهناك آراء معتدّة بنفسها تفسر سر التصويت الذي أدّى إلى الزلزال.
من جهتنا، فإننا لن ندّعي القدرة على بيان أسباب التصويت (لماذا صوّت أكثر من مليون تونسي لقيس سعيّد ونبيل القروي) بل يمكن أن نكتفي ببعض الفرضيات التي يمكن أن تساعدنا على فهم السياق كما فعلنا في مقالنا السابق أو يمكن أن نفكك إستراتيجية المترشّحين الانتخابية.
وتقتضي الأمانة والنزاهة كذلك أن نتعامل مع الفائزين الاثنين بالطريقة ذاتها باعتبارهما فاعلين سياسيين يطمحان إلى الوصول إلى رئاسة الدولة، فهما ترشحا لهذا المنصب مما يعني أنها يرغبان فيها ووضعا استراتيجية لذلك حتى ولو كان أحدهما على غرار قيس سعيّد يقلل من شأن هذه الاستراتيجية بل ينفيها أصلاً مما جعل البعض يصف حملته بـ"الحملة الصامتة".
القدرة على تقمّص القيم السياسية
من المداخل الممكنة لتفسير صعود المترشحين إلى الدور الثاني قدرتهما أو بالأحرى قدرة شخصيتهما على التجسيد السياسي لأفكار (أو قيم) سياسية ما. يعتبر الباحث الفرنسي المتخصص في السوسيولوجيا السياسية بيار روزنفالون (Pierre Rosanvallon) أن الفائز بالرئاسة يحظى بـ"كيمياء" (Alchimie) ما أو وصفة سحرية لا أحد يعرف سرّها. كما يجب أن تتوفر فيه ثلاثة صفات أو شروط وهي الكفاءة والمصداقية والقدرة على تقمص للقيم (أو تجسدها فيه) التي يدافع عنها (l’incarnation).
والتجسّد أو التقمص (l’incarnation) هو العنصر الأكثر أهمية للشخصية الرئاسية والأكثر غموضًا حسب بيار روزنفالون، وتعني القدرة على أن يصبح المترشح رمزًا للأفكار والقيم التي يدافع عنها وان يمثلها. وهي كما يقول تنتج قوة تأويل للأحداث والواقع في سياق يتسم بالاضطراب. وهذه القدرة تجعل التماهي (l'identification) ممكنًا بين المترشح والناخبين. وبتعبير آخر، فإن القدرة على التقمّص أو التجسّد تجعل من السياسي قادرًا على أن يختزل وأن يمثل أكثر من منافسيه القضايا التي يتحدث عنها أو التي يدافع عنها بفضل شخصيته وحدها.
"السياسي البديل" عن كل السياسيين
ههنا نرى كيف أن قيس سعيّد كان قادرًا أكثر من منافسيه على تقمص القضايا التي يدافع عنها أو التي يعتبرها الناخبون أساسية بالنسبة إليهم وبالنسبة إلى الحياة السياسية، سواء أكان ذلك بطريقة إرادية أو عفوية. فقيس سعيّد كان قادرًا على أن يجسّد قيم "السياسي النظيف" الذي بإمكانه أن يكافح الفساد لأنه من خارج منظومة الحكم التي لم ينخرط فيها ولم يتواطأ معها. وهو يجسّد كذلك التعفف عن الغنائم السياسية لأنه "إنسان بسيط" يعيش بطريقة بسيطة يدخن السجائر العادية الشعبية وسيارته كسيارات التونسيين. وهو يجيد الإنصات لأنه تجوّل في تونس بطريقة عادية يشرب القهوة ويستمع للشباب قي المقاهي الشعبية.
كان قيس سعيّد قادرًا على تقمّص قيم عديدة أو قضايا أخرى على غرار النظافة والنزاهة بفضل مساره الحياتي المختلف عن كل السياسيين جميعًا
اقرأ/ي أيضًا: كيف يقرأ المختصّون في الصورة المعلّقات الدعائية للمترشحين للرئاسيات؟
في المقابل، فإن سياسيين آخرين على غرار محمد عبو كانوا يرفعون لواء مكافحة الفساد لم يستطيعوا أن ينجحوا في تجسيد هذه القيم التي يدافعون عنها أو تقمصها والظهور لدى الناخبين بأنهم يمثلونها. ولم يتفوّق قيس سعيّد فقط على محمد عبّو، في السباق، على تقمّص قيم مكافحة الفاسد بل تفوّق أيضًا على يوسف الشاهد الذي كان يقدم نفسه على أنه مرشح الشباب المناهض لما يسمّى "السيستام" والذي جعل من هذه المسألة محورًا أساسيًا في خطابه السياسي.
وفي كل الأحوال، كان قيس سعيّد قادرًا على تقمّص قيم عديدة أو قضايا أخرى على غرار النظافة والنزاهة بفضل مساره الحياتي المختلف عن كل السياسيين جميعًا. ولا شكّ أن رفض الظهور في الميديا أو التقليص من أنشطة الحملة الانتخابية إلى حدّها الأدنى كان خيارًا ذكيًا بما أن سعيّد كان يستفيد من رصيد التعاطف الذي كان يحظى به لدى التونسيين منذ فترة طويلة والتي كانت تشير إليها استطلاعات الرأي منذ أشهر.
"نصير الفقراء"
في الجهة الأخرى، كانت تتمثل إستراتيجية نبيل القروي في الظهور بمظهر "نصير الفقراء" والمنشغل بأمورهم والقريب منهم. فإذا كان قيس سعيّد قادرًا على تقمّص دور "السياسي البديل" لدى التونسيين الغاضبين من النخبة السياسية ومن المنظومة السياسية بما في ذلك المعارضة، فإن نبيل القروي وضع إستراتيجية اتصالية طويلة المدى سمحت له تدريجيًا بتقمص دور "نصير الفقراء" وهي إستراتيجية استثمرت فيه جهود وإمكانية ضخمة مادية وغير مادية، تبدو مبتكرة من الناحية الاتصالية.
لا تقوم إستراتيجية نبيل القروي على العمل السياسي المعهود أو على تقنيات التسويق السياسي الدارجة بل اعتمد على ما يسمّى أسلوب السرد (Storytelling) منذ أن بدأ يظهر في برنامج خاص في قناة "نسمة" (خليل تونس) وهو يتحدث بشكل مستمر عن حالات بعينها من المحتاجين والفقراء وليس على الفقر والخصاصة بشكل عام ومجرد وسياسي.
لا تقوم استراتيجية نبيل القروي على العمل السياسي المعهود أو على تقنيات التسويق السياسي الدارجة بل اعتمد على ما يسمّى أسلوب السرد (Storytelling) منذ أن بدأ يظهر في برنامج خاص في قناة نسمة
تتمثل إستراتيجية نبيل القروي في أنه لا يتحدّث عن الفقر مع الصحفيين في البرامج الإذاعية والتلفزيونية أو ينافس زعماء اليسار (المنجي الرحوي أو حمّة الهمامي أو عبيد البريكي) أو التيارات الاجتماعية الأخرى بل صنع لنفسه صورة "نصير الفقراء" صاحب "القلب الرقيق" الذي "يناضل" ضد الفقر يسأل عن الفقراء ويقدم لهم المساعدة. هكذا تشكّلت لديه القدرة على تقمص القيم التي يدافع عنها آخرون في مجلس النواب أو في البلاتوهات التلفزية بفضل إستراتيجية اتصالية وتسويقية طويلة المدى.
استخدمت إستراتيجية نبيل القروي ما يسمى السرد (Storytelling) كتقنية تسويقية في عالم الاقتصاد والتسويق التجاري قبل أن تدخل مجال السياسية وتتمثل إستراتيجية السرد في استبدال الأساليب التقليدية التي تقوم على المنتج أو على العلامة التجارية بأسلوب آخر يعتمد على القصص ذات الطابع الإنساني لتجسيد الأفكار والمعاني، ولإثارة مشاعر الناس وعواطفهم باستخدام القصص الإنسانية (أو الحالات الإنسانية ) كمضمون اتصالي يمكن للناس التماهي معها.
وعلى هذا النحو، لا يسعى أسلوب السرد فقط إلى الترويج إلى المنتج أو الخدمة أو العمل على تحسين صورته بل كذلك إلى التأثير على معتقدات الناس. وفي السياسة، لا يتعلق الأمر بالترويج إلى برنامج سياسي أو إلى أفكار سياسية مجرّدة أو عامة بل إلى استخدام القصص الإنسانية المجسّدة في الصور والقصص والحالات الإنسانية مما يمكّن أيضًا من تحويل السياسي إلى شخصية أو بطل في إطار سردية أو قصة.
اقرأ/ي أيضًا: هل تؤثّر المناظرات التلفزيّة على آراء الناخب التونسي؟
قوّة السرد في السياسة
هكذا نرى كيف يتحوّل المترشح إلى بطل لقصة مثيرة وإنسانية يتم التسويق لها: الرجل الذي وهب نفسه لمناصرة الفقراء ومساعدتهم، يزروهم في كل مكان، يجوب تونس شمالًا وجنوبًا، شرقًا وغربًا، يقدّم العطايا ويتفاعل مع الناس يقبّلهم ويعانقهم. لا يتحدث باسمهم بل يتحدث كواحد منهم (نحن الفقراء أو "الزواولة").
أما المترشح الآخر، فقد تشكلت قصّته المثيرة دون تخطيط مسبق دائمًا، وهي تتمثّل في أن رجلًا بسيطًا ونظيفًا ذا كفاءة علمية، معدم يقارع الماكينات الحزبية والسياسية والانتخابية الثقيلة التي استثمرت أموالًا طائلة تتأتي من مصادر مجهولة يجوب البلاد، يلتقي الشباب في المقاهي الشعبية البسيطة ليستمع إليهم ويصبح حاملًا لمشروعهم.
قوّة التقمّص تمثّل عنصرًا أساسيًا في عملية الاتصال السياسي الإرادي أو العفوي لأنها مرتبطة بالمشاعر والأحاسيس (emotions) كما تؤكد ذلك العديد من الدراسات في السوسيولوجيا الانتخابية
وسواء تعلق الأمر بالدعوة إلى محاربة الفقر أو إقامة الديمقراطية المباشرة وإعادة السلطة إلى الشعب، يقدّم المترشح نفسه على أنه بطل قصة مثيرة ومغامرة جماعية تستحق أن ينخرط فيها الفقراء والشباب وكل البسطاء الذين "غدر بهم السياسيون" و"السيستام".
وفي كلتا الحالتين أيضًا، فإن قوّة التقمّص تمثّل عنصرًا أساسيًا في عملية الاتصال السياسي الإرادي أو العفوي لأنها مرتبطة بالمشاعر والأحاسيس (emotions) كما تؤكد ذلك العديد من الدراسات في السوسيولوجيا الانتخابية. فالأحاسيس والمشاعر تلعب دورًا أساسيًا في عملية الـتأثير. يعمل الاتصال على تجسيد هذه المشاعر في قصص صغيرة مؤثرة تسرد بالصورة (صور عائلات بعينها تحصلت على مساعدات أو نبيل القروي وهو يتوسّط جمعًا من التونسيين البسطاء أو بالصوت إذ يروي قيس سعيد مثلًا في حوار تلفزيوني قصّة المرأة الضريرة من مدينة الرديف خرجت على الساعة الرابعة صباحًا كما يقول ووصلت إلى تونس على الساعة الثانية والنصف (في القيض كما يقول) بإمكانياتها الذاتية لتحل مئات التزكيات لصالحه).
وينوّع قيس سعيد من القصص الصغيرة عن الشبان المتطوعين الذي تعاونوا لتمويل حملته وأنه ساهم هو بخمسين دينار، ويروي مثلًا كيف تقاسم مع فريق حملته تكاليف البنزين في سفرة ما. هكذا يبدو قيس شخصية تكاد تكون رومنطيقية متعالية عن تقاليد الطبقة السياسية الفاسدة والعاجزة.
خلاصات عن الاتصال السياسي
اتسمت الحياة السياسية منذ عام 2011 بالاستخدام المتعاظم للاتصال والتسويق السياسي في حملاتهم الانتخابية التي توظف فيها عدة تقنيات وآليات كإدارة الاتصال غير اللفظي (الصورة والمظهر وللغة الجسدية body language)، والاتصال الرقمي (الصفحات الرسمية وكل ما تتضمنه من مواد اتصالية بصرية وفيديوهات وتدوينات والإشهار السياسي)، والاتصال المباشر بواسطة الزيارات الميدانية والاجتماعية الشعبية، وإدارة الاتصال مع الصحافة واستطلاعات الرأي. والواضح أن عددًا من المترشحين اعتمدوا في حملاتهم التي استوجبت أموالًا طائلة على مهنيين متخصصين في هذا المجال.
كان كل مترشح من المترشحين الاثنين للدور الثاني قادرًا على طريقته أن يتقمّص أدوارًا وشخصيات وقيم وقضايا: "مناصرة الفقراء" من جهة أولى و"تجديد السياسة" من جهة ثانية
ومن الدروس الأساسية التي يمكن أن نستخلصها تلك المتعلّقة بالاستخدامات غير النمطية للتلفزيون وفيسبوك في الاتصال السياسي. فلا شك أن فيسبوك أدّى دورًا أساسيًا في تحويل قيس سعيّد إلى شخصية سياسية بديلة للمنظومة السياسية عبر القصص التي انتشرت عنه في مقابل فشل السياسيين الذي استخدموا بإفراط الإشهار السياسي (أنظر تقرير منظمة عتيد حول الإنفاق الانتخابي في فيسبوك). كما أدى التلفزيون أيضًا دورًا أساسيًا في بناء صورة نبيل القروي كـ"نصير الفقراء" بواسطة الاستخدام السردي التراكمي طويل المدى.
ومن الواضح جدًا أن المترشحين للدور الثاني انتهجوا إستراتيجيات اتصالية مختلفة للظهور بمظهر الشخصية القادرة على تولي وظيفة رئيس الدولة. ويبدو جليًا أن الفائزين اعتمدا على أساليب تختلف تمامًا عن تلك التي اعتمدها المترشحون الآخرون ما يحلينا إلى تحولات الحقل السياسي من جهة أولى، وعلى تحولات الاتصال السياسي من جهة ثانية. فسياق أزمة التمثيل السياسي وتراجع الثقة في النخب السياسية والعزوف عن الشأن السياسي يفسّر فعالية الإستراتيجيات المتبعة من المترشحين. فإذا كان قيس سعيّد هجر الميديا لوقت طويل وقلّل من ظهوره التلفزيوني، فإن نبيل القروي اعتمد نوعًا آخر من الظهور المختلف غير السياسي واستثمر بشكل كبير في تقنيات مخصوصة من الاتصال السياسي.
لكن في كلتا الحالتين، كان كل مترشح من المترشحين الاثنين قادرًا على طريقته أن يتقمّص أدوارًا وشخصيات وقيم وقضايا: "مناصرة الفقراء" من جهة أولى و"تجديد السياسة" من جهة ثانية، وأن يقترحا بشكل إرادي مدروس أو غير مدروس على من صوّت لهم قصة مثيرة أو مغامرة جماعية: "محاربة الفقر" أو إقامة "ديمقراطية الشعب". في المقابل، فإن القصص التي يروج لها أسلوب السرد الاتصال السياسي مهما كانت طبيعته لا تنتهي دائمًا كما يريد الراوي لأن النهايات السعيدة في السياسة ليست دائمًا في الموعد.
اقرأ/ي أيضًا:
زلزال الانتخابات في تونس من منظور أسئلة الأخلاق والسياسة والدّولة