17-أغسطس-2022
قضاة تونس أنس الحمادي

"آن للقطار السريع الذي يقوده السائق الأوحد غير العابئ بإشارات الإنذار والمتجاوز لنداءات التنبيه أن يتوقّف، ولو جزئيًا" (ياسين القايدي/الأناضول)

مقال رأي

 

لم تكن قرارات رئيس المحكمة الإدارية بإيقاف تنفيذ إعفاء 49 من أصل 57 قاض مُعفى بأمر رئاسي، مفاجأة بالمنطق القانوني البحت باعتبار أن أمر الإعفاء صدر في انتهاك لأبسط المبادئ والضمانات القانونية، والأهم أن هذه القرارات هي أول صفعة مباشرة لرئيس الجمهورية قيس سعيّد منذ انقلاب 25 جويلية/يوليو 2021. آن للقطار السريع الذي يقوده السائق الأوحد غير العابئ بإشارات الإنذار والمتجاوز لنداءات التنبيه أن يتوقّف، ولو جزئيًا.

إن سمة أي انقلاب بالضرورة هي القدرة على فرض الأمر الواقع بالقوّة، وهو ما نجح فيه قيس سعيّد الذي وظفّ كل وسائل القوة، من نافذة حالة الاستثناء المطبّقة خارج الدستور، لتنفيذ مخططاته وصولًا لفرض دستور كتبه لوحده في غرفة مغلقة.

قرارات إيقاف تنفيذ عزل قضاة هي وقوف إجباري، ولكن لا ضمان لذلك، باعتبار أنه لا نزال في مرحلة اختبار لمدى احترام سعيّد لأحكام القضاء

لم يلق سعيّد أي مقاومة جديّة مانعة من التنفيذ طيلة زهاء عام كامل، إذ أن المظاهرات والإضرابات والبيانات وغيرها من وسائل الاحتجاج لم تحل دون مواصلته لمسيره حاكمًا لوحده دون حتى تمهّل. الآن، قرارات إيقاف التنفيذ هي وقوف إجباري، ولكن لا ضمان لذلك، باعتبار أنه لازلنا في مرحلة اختبار لمدى احترامه لأحكام القضاء. إذ لا تزال تتواصل مؤشرات التصعيد من وزيرة العدل، وهو ما يعني بوضوح أن قانون القوّة لا يزال يحاول السطو على قوّة القانون، وهو إن ما تأكد، سيثبت مجددًا أن شعارات الرئيس حول احترام أحكام القضاء والمساواة في تطبيقه هي صالحة لمجرد التسويق لا أكثر ولا أقل، وأن رئيس الدولة، ومجددًا أيضًا، ليس إلا مخادع.

 

 

لا يزال يشكّك البعض في نوايا رئيس الجمهورية في علاقة بالقضاء، بل ويصدّر أنصاره أنه يقود في الواقع معركة لضمان استقلاليته من براثن شبكات الفساد السياسي والمالي، وهي معركة تبيح بالنسبة إليهم إجراءات رئيس الدولة وصولًا لتحويل القضاء إلى "وظيفة" في نص دستوره.

ربّما من البديهي إذًا أن نطرح السؤال: هل رئيس الجمهورية يستهدف استقلالية القضاء؟ لأنه من البديهي الجزم بالإيجاب. من المهمّ أن نقرّ، في البداية، أن القضاء لم يكن مكتمل الاستقلالية قبل 25 جويلية، لم تكن الصورة وردية، بل لم يكن وضع القضاء برمّته شاذًّا عن وضع البلاد: فساد موجود وإرادة معطوبة وإصلاح بطيء.

من المهمّ أن نقرّ أن القضاء لم يكن مكتمل الاستقلالية قبل 25 جويلية بل لم يكن وضعه شاذًّا عن وضع البلاد: فساد موجود وإرادة معطوبة وإصلاح بطيء

ولكن، في علاقة بالوضع القضائي، فالسكة سليمة للوصول للمطلوب رغم بطئ المسير، فالإصلاحات المنجزة منذ 2011 والمحوصلة في ضمانات استقلالية القضاء في دستور 2014، هي شرط أي قضاء مستقل وناجز، فيما لم يكن طريق الإصلاح مفروشًا بالورود، وهذا الطبيعي.

لقد لخصّت معركة ملف فساد الرئيس الأول لمحكمة التعقيب والتجاذبات داخل المجلس الأعلى للقضاء أنه بقدر ما كانت تتشبث قوى الفساد بمواقعها وتسعى لتحصين نفسها، بقدر ما كان يتعاظم نفوذ قوى الإصلاح لفرض طيّ صفحة ماضي الإفلات من العقاب. في خضم هذه المعركة التي خلقت ديناميكية حيوية، لم يختر رئيس الدولة دفع قطار الإصلاح، بل اختار إيقافه وصنع سكة جديدة مشبوهة لن تؤدي إلا لمزيد من الخراب.

 

 

يعتقد سعيّد، كما يصوّر لنفسه أنه شخص نزيه، بأن ضمان سطوته على القضاء عبر كل الأدوات القانونية الممكنة سيضمن بناء قضاء مستقل، فهو يسمح لنفسه التدخّل للتصدّي لمن يعتبرها شبكات الفساد داخل القضاء وعزل القضاة المشبوهين، وهذه ليست إباحة وقتية، يفترضها منطق الاستثناء، بل دائمة فرضها بدستوره الذي مثل نكسة لضمانات الاستقلالية الوظيفية والهيكلية للقضاء.

تعامل سعيّد في هذا الملف يشبه إدارته للبلاد، هو المعلّم النزيه الذي يفرض قيادته نحو الخلاص وما على الآخرين إلا اتباعه. لقد أثبت لنا أمر عزل 57 قاضيًا خطر هذا الطريق، بعد الشبهات المتواترة على تدخل عائلته وأجهزة أمنية في إعداد بطاقات أمنية لعزل قضاة ذنبهم أنهم لم ينصاعوا للسلطة السياسية أو لم يكونوا غطاء لتجاوزات الأمن. في خضم ذلك، تمثل قرارات إيقاف التنفيذ انتصارًا محفزًا لقضية عادلة، ولكنه انتصار جزئي في طريق قادم لا يزال أكثر وعورة.

في خضم معركة إصلاح القضاء، لم يختر سعيّد دفع قطار الإصلاح، بل اختار إيقافه وصنع سكة جديدة مشبوهة لن تؤدي إلا لمزيد من الخراب

لقد فرض سعيّد الآن دستورًا ينزع عن القضاء أي استقلالية، وجعل بموجبه القاضي موظفًا غير معني بحماية الحقوق والحريات ولا صون النظام الديمقراطي ولا علوية الدستور، كما ألغى دسترة المجلس الأعلى للقضاء، وألغى ضمانات دستورية كتحجير الامتناع عن الأحكام القضائية وتحجير إحداث محاكم استثنائية كعدم تنظيم القضاء العسكري بما يدفع لمحاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. لقد فرض سعيّد سطوته على المسار الوظيفي والتأديبي للقاضي، وهو وضع هيكلة لقضاء خاضع لسلطته لا مستقلّ عنه، ولكن يبقى السؤال عن مدى القدرة على المقاومة.

فرض سعيّد الآن دستورًا ينزع عن القضاء أي استقلالية، وجعل بموجبه القاضي موظفًا غير معني بحماية الحقوق والحريات ولا صون النظام الديمقراطي ولا علوية الدستور

لنقرّ أن مقاومة المجتمع القضائي، القضاة والمحامون والحقوقيون، لمسار تركيع السلطة القضائية منذ زهاء عام، بقدر ما كانت حيوية، فهي لم تكن شديدة، إذ اختارت الأكثرية العددية الصمت والانكفاء وهو ما سهّل مهمة سعيّد، وقد شاهدنا أن إضراب القضاة لم يقدر على الصمود لأكثر من شهر مع تراجع الاستجابة القطاعية له توازيًا مع خيار السلطة في التصعيد.

بالنهاية لم توقف المقاومة قطار سعيّد، ولكن أوقفته، جزئيًا، قرارات إيقاف تنفيذ ولازلنا لا نعلم إن كان سيرضخ لاحترامها أم لا. لكن ذلك لا يعني التخلي عن المقاومة بل على العكس لا خيار إلا مواصلتها وتصعيدها فلم يكن قرار إيقاف التنفيذ أصلًا إلا حصيلة لها بشكل من الأشكال. فالأهم مع هذا الانتصار الجزئي هو الاستعداد لمواصلة المعركة للحفاظ على الأقل على أدنى موجبات استقلال القضاء مع دستور لا يعترف بمفهوم الاستقلالية أصلًا.

لا خيار إلا مواصلة المقاومة وتصعيدها فلم يكن قرار إيقاف تنفيذ عزل قضاة أصلًا إلا حصيلة لها بشكل من الأشكال

على المدى القريب، ننتظر معركة الحركة القضائية التي ستصدر في غضون أسبوعين، وهذه أول حركة بعد حل المجلس الأعلى للقضاء وتعويضه بمجلس مؤقت مفتقد شروط الاستقلالية عن السلطة التنفيذية، مع جملة من المخاطر استحدثها سعيّد لنفسه في شكل امتيازات كامتيازه بحق الاعتراض على تسمية أو تعيين أو ترقية أي قاض ولزوم استجابة المجلس المؤقت المعني لطلب الاستبدال، وأيضًا امتيازه بتعيين القضاة في الخطط القضائية السامية دون التزام بأي قائمة ترشيحات.

سيعمل سعيّد على إبعاد القضاة الذين ظلوا طيلة سنة يرفضون الضغوط السياسية والأمنية مستبدلًا إياهم بقضاة تابعين، هم قضاة موظفين وما أكثرهم

سيعمل سعيّد هنا على إبعاد القضاة الذين ظلوا طيلة سنة يرفضون الضغوط السياسية والأمنية مستبدلًا إياهم بقضاة تابعين، هم قضاة موظفين وما أكثرهم. سيسعى سعيّد لهندسة قضائية تطيعه لاستهداف معارضيه وتأسيس منظومته. وبالتالي فالمطلوب هو المزيد من المقاومة من المجتمع الحقوقي والقضائي بكل الوسائل الشرعية المتاحة للتصدي لمخططات سعيّد، فإن لم يكن لردّها فعلى الأقل لتقليص الخسائر.

وأما معركة ضمانات الاستقلالية سواء الهيكلية منها أو الوظيفية، لقد فرض سعيّد أن تُقاد على الدستور وليس من داخله. فبالنهاية، لا يُمكن المضي في أي إصلاح جدّي للقضاء بدستور يعتبر القاضي مجرّد "موظّف".

 

  • المقالات المنشورة في هذا القسم تُعبر عن رأي كاتبها فقط ولا تعبّر بالضرورة عن رأي "ألترا صوت"