في قسم الاستعجالي بالمستشفى الجهوي بالياسمينات يتنقل الكهل "مصطفى"، خمسيني، من مكان إلى مكان بمعية صديقه الذي يتوكأ عليه بحثًا عمن يسعفه ويوقف نزيف ساقه إثر تعرضه لعضة كلب سائب. يقول مصطفى إنه دأب على استعمال دراجته النارية يوميًا خلال رحلة التوجه للعمل التي تنطلق حوالي الساعة السادسة صباحًا لكنه في الآونة الأخيرة أصبح يتعرض لهجمات من الكلاب السائبة التي تتنقل في مجموعات أعدادها كبيرة حذو حاويات الفضلات المبعثرة في كل مكان.
يضيف المتحدث، في تصريح لـ"الترا تونس"، أنه في طريق العمل يجتاز قنطرة "وادي مليان" بصفة دورية فيضطر لتخفيض سرعة دراجته النارية لأن المكان غير معبد، وما راعه إلا أن عشرة كلاب أو أكثر يلاحقونه وبما أن المكان معتّم، لم يتمكن من الفرار وتعرض إلى اعتداء من أحدهم على مستوى الساق اليسرى.
ما بين حلول القنص التي تنتهجها السلطات ودعوات الرفق بالحيوان التي تنادي بها الجمعيات بقي إشكال الكلاب السائبة عالقًا بينما ما انفكّ عددها يتزايد خاصة في الأحياء السكنية ما يشكل خطرًا محدقًا على الإنسان
يتابع مصطفى: "في الحقيقة لم أحظَ بالإسعافات الأولية على وجه السرعة وللأسف لم أتلقَّ التطعيم اللازم على الرغم من مرور ساعتين على الحادثة وهو ما يثير مخاوفي من تبعات هذا الاعتداء على صحتي وسلامتي الجسدية، فجلّ كلاب الشوارع غير ملقحة ضد داء الكلب وهذا ما من شأنه أن يزيد في تعكير الوضع".
لقد أصبح الحديث عن الكلاب السائبة وحالات الاعتداء المتكررة من قبلها على المواطنين شبه محظور في تونس، خاصة وأن كل من يتطرق إلى هذا الموضوع يتهم بمناصرة حلول القنص التي تستعمل في مناسبات من قبل السلطات لإبادة كلاب الشوارع والتقليص من عددها الذي يتكاثر بسرعة في الأحياء السكنية مما يشكل خطرًا محدقًا على الإنسان.
وقد تم رصد وتسجيل العديد من حالات الاعتداء في الفترة الأخيرة كان من بين ضحاياها أطفال، وتبعًا لذلك أطلق العديد من التونسيين نداءات للبحث عن حلول عاجلة تحد من ظاهرة تكاثر الكلاب السائبة عدا الحلول التقليدية المتمثلة في القنص والتي ثار عليها المجتمع المدني التونسي بصفة عامة وجمعيات الرفق بالحيوان بصفة خاصة.
- "عرض الكلاب للتبني في الخارج مكلف"
تؤكد رئيسة جمعية حماية الحيوان بصفاقس سناء الغمقي أن الجمعية تعمل على إنقاذ الكلاب والقطط المتضررة والمتعرضة لحوادث فتعالجهم وتوليهم الرعاية اللازمة في الملجأ الذي توفره بإمكانياتها الفردية والذي يتمثل في منزل مستأجر تم ترميمه وتهيئته لاستقبال الحيوانات التي تسعفهم الجمعية. وبعد تعافيهم تعرض الجمعية القط أو الكلب على التبني في تونس أو خارجها.
رئيسة جمعية حماية الحيوان بصفاقس: مكافحة تكاثر الكلاب السائبة رهين تغير عقلية المواطن التونسي الذي يعمد إلى تربية الكلاب وبعد تكاثرهم يرميهم في الشارع، وكذلك رهين تكثيف عمليات التعقيم
ولفتت محدثة "الترا تونس" إلى أن ملجأ الجمعية يحتوي حاليًا على خمسة كلاب وأربعين قطًا، وهو تقريبًا العدد الأقصى الذي يمكن استيعابه في غياب التمويلات وفي ظل غياب المتطوعين، مبينة أن "أعضاء الجمعية يتقاسمون أيام الأسبوع فيتعهد كل منهم بتسخير يوم أو يومين لخدمة حيوانات الملجأ فيقوم بالتنظيف وطهي الأكل ومداواة المريض منهم.
وفيما يتعلق بالتبني، أكدت سناء أن الحيوانات التي تشكو من إعاقات أو إصابات لا تجد حظها في التبني خاصة في تونس، أما في الخارج فيقبلون على تبنيها وقد تمكنت الجمعية في السنة الماضية من عرض 25 قطًا وكلبًا وحيدًا يشكو من إعاقة على التبني خارج تونس لكن الإشكالية، وفق المتحدثة، تكمن في تكلفة إجراءات إرسال الحيوانات للخارج والتي تبلغ للحيوان الواحد ألف دينار.
كما أضافت أن دور الجمعية فيما يتعلق بالكلاب السائبة ينحصر في التحسيس والتوعية بأهمية تعقيم الكلاب والقطط كي لا يتزايد عددها في الشوارع، مشيرة إلى أن الجمعية تعمل بالتعاون مع بلدية "صفاقس باب بحر" التي بصدد إنشاء مركز يعنى بتجميع كلاب الشارع لتعقيمها وتلقيحها بالإضافة إلى غرس شريحة تعريفية تثبت أن الكلب ملقح ومعقم.
وتعتبر الغمقي أن بعث مآوٍ لتجميع الكلاب السائبة ليس حلًا جذريًا لأن تفريغ المجال الترابي من الكلاب يشجع كلابًا أخرى على الاستيطان فيه، وبالتالي فإن تعقيم الكلاب وتركها في مجالها الترابي لحمايته يعد أنجع وسيلة للحد من تكاثرها كما يضمن أنها لن تشكل خطرًا على المارة على اعتبار أن التعقيم يهدّئ من طباع الكلب ويقلل من شراسته.
رئيسة جمعية حماية الحيوان بصفاقس: ناهيك عن كون القنص غير إنساني بالمرة فإنه علميًا لا يعتبر حلًا جذريًا وعلى جميع البلديات أن تنخرط في حملات التعقيم بالتعاضد مع مجهودات المجتمع المدني
وشددت الغمقي على أن مكافحة تكاثر الكلاب السائبة رهين تغير عقلية المواطن التونسي الذي يعمد إلى تربية الكلاب وبعد تكاثرهم يرميهم في الشارع، وكذلك رهين تكثيف عمليات التعقيم وهو الحل الوحيد، معتبرة أن القنص لم ولن يكون حلًا فمنذ سنوات تقوم البلديات بهذه العملية لكن أعداد الكلاب تتزايد وتقول "ناهيك عن كون القنص غير إنساني بالمرة، فإنه علميًا لا يعتبر حلًا جذريًا وعلى جميع البلديات أن تنخرط في حملات التعقيم بالتعاضد مع مجهودات المجتمع المدني، وهو حل على المدى البعيد إذا تم تنفيذه فبعد سنوات سيكون عدد الكلاب في الشارع يعد على الأصابع".
- "عودة القنص"
تظل قضية الكلاب الضالة في تونس محور اهتمام الجميع وما بين حلول القنص التي تنتهجها السلطات ودعوات الرفق بالحيوان التي تنادي بها الجمعيات بقي الإشكال عالقًا في انتظار حلول جذرية تقي المواطن من تكرر الاعتداءات عليه وتحمي الكلاب من عمليات القنص التي تودي بالبعض منها إلى إعاقات دائمة وتتسبب في نفوق الجراء جوعًا بعد قنص الأم.
على الرغم من أن الشرطة البلدية في تونس كانت قد أوقفت عمليات قنص الكلاب في الفترة الممتدة ما بين سنتي 2011 و2015 إلا أنها استأنفت نشاطها تدريجيًا وسط معارضة شرسة من قبل جمعيات الرفق بالحيوان
وعلى الرغم من أن الشرطة البلدية في تونس كانت قد أوقفت عمليات قنص الكلاب في الفترة الممتدة ما بين سنتي 2011 و2015 إلا أنها استأنفت نشاطها تدريجيًا وسط معارضة شرسة من قبل جمعيات الرفق بالحيوان التي طالما تظاهرت ضد هذه الممارسات اللاإنسانية، على حد توصيفها.
في المقابل، قال رئيس بلدية المرناقية التابعة لمحافظ منوبة فيصل الدريدي، في تصريح لـ"الترا تونس"، إن "دور البلدية في مكافحة تزايد عدد الكلاب السائبة يتمثل في تحضير المعدات أي الخراطيش وسيارة مجهزة بعونين لرفع الكلاب التي يتم قنصها مباشرة ووضعها على ذمة سلك الشرطة البلدية التي تقوم بعمليات القنص في المجال البلدي وسلك الحرس البلدي والترابي الذي يخرج إلى مناطق التوسع، مضيفًا أنه ما على الأسلاك المعنية إلا القيام بدورها، وفق تعبيره.
واستدرك رئيس البلدية أنه "خلال شهر جوان/يونيو الماضي صدرت مذكرة من الإدارة العامة لوزارة الداخلية التونسية تقضي بإيقاف عمليات القنص المباشر لكلاب الشوارع لأن جمعيات الرفق بالحيوان اعترضت على ذلك"، مؤكدًا أنه "بسبب توقف القنص لمدة ستة أشهر تقريبًا تزايد عدد الكلاب في جميع المناطق"، مشيرًا في هذا الصدد إلى أن البلدية راسلت الوالي لإعطاء الإذن للشرطة البلدية على المستوى الجهوي للعودة لعمليات القنص.
رئيس بلدية المرناقية: بسبب توقف القنص لمدة 6 أشهر تزايد عدد الكلاب بجميع المناطق.. وقد عدنا لعمليات القنص ببرامج واضحة لا نرغب في مشاركتها مع المواطنين لأننا نجد أحيانًا بعض الإشكاليات
وتابع: "لقد عدنا لعمليات القنص ببرامج واضحة لا نرغب في مشاركتها مع المواطنين لأننا نجد أحيانًا بعض الإشكاليات. فالمواطن يشتكي من جهة من تكاثر عدد الكلاب السائبة أمام المنازل وفي الحدائق، ومن جهة أخرى يزعجه صوت إطلاق النار وبالتالي نحاول إتمام عمليات القنص بعد منتصف الليل بالإمكانيات المتوفرة لدى البلدية وبالتالي فإن الوضع في بلدية المرناقية تحت السيطرة"، على حد قوله.
وعن حلول التلقيح والتعقيم وعرض الكلاب على التبني، قال الدريدي إن كل برنامج استثنائي يستوجب اعتمادات وخطة عملية في حين أن البلديات تعاني من المديونية وغير قادرة على تحمل تكاليف إنشاء مراكز إيواء وتسخير عملة وتوفير الغذاء والمراقبة الطبية للكلاب، علاوة على أن عملية مطاردة الكلاب تستوجب فرقًا مختصة وشباكًا خاصة وغيرها من المعدات التي لم تتمكن كبرى البلديات من توفيرها.
كما لفت إلى أن بلدية المرسى كانت قد أنشأت مركز إيواء لكلاب الشارع وبعد حوالي شهرين واجهتها العديد من الإشكاليات حتى أن أحد الأعوان المباشرين لهذه الكلاب تعرض للعض وتم إغلاق المأوى، وفق روايته.
وشدد رئيس بلدية المرناقية على أن مقاومة الكلاب السائبة تستوجب مجهودًا متظافرًا من قبل العديد من الأطراف من بينها الجمعيات المدنية، فإذا أمكن لها بعث مراكز إيواء يا حبذا، لكن أن يقتصر دورها على هرسلة البلديات بسبب القنص وعدم تقديمها حلولًا بديلة فهذا غير مقبول خاصة وأن البلديات التونسية ضعيفة وميزانياتها محدودة وهي في جهد يومي للعديد من البرامج الأخرى مثل مكافحة الحشرات وسوس النخيل، وغيرها من المشاكل.
كما لفت إلى أن مكافحة كلاب الشوارع من ضمن مهام مصالح الفلاحة البيطرية التي وجب عليها القيام بأيام تحسيسية للتلقيح ضد داء الكلب وتعقيم الكلاب في نفس اليوم وهذا ما اقترحته البلدية على وزارة الفلاحة التونسية، لكن كل البرامج رهينة توفر الاعتمادات اللازمة، وبالتالي فإن الأفكار موجودة لكن تجسيمها على أرض الواقع يستوجب ميزانيات هامة.
جدير بالذكر أن بعض البلديات في تونس كانت قد منعت عمليات قنص الكلاب السائبة في مجالها الترابي وأقدم البعض منها على إيواء هذه الكلاب في ملاجئ مهيَّأَة لتلافي عمليات القنص والحفاظ على سلامة المواطنين في آن واحد.