تعتبر الثروة المائية لدى أغلب شعوب الأرض، أهم من باقي الثروات الطبيعية الأخرى، فهي بالنسبة إليهم أثمن من النفط والغاز الطبيعي والذهب والألماس لأنها مصدر حياتهم وسبب استمرارها، وهي أيضًا جزء من سيادة الوطن، وقد تنشب الحروب بين البلدان من أجل تحويل مسار واد صغير أو استئثار بلد بحصة مائية من نهر مشترك، أو إنشاء سدّ دون مشورة البلد الجار.. حتى إنّ أغلب بلدان العالم لديها وزارات للمياه تدير شؤون هذه الثروة الباطنية وتبحث في الحلول وقت الأزمات المناخية والسياسية ووقت الحروب.
فوضى مستجدة لم تعد خافية على أحد، تنامت في السنوات الأخيرة في تونس وتتعلق بالحفر العشوائي للآبار
ومعروف لدى كل التونسيين أن المياه السطحية والجوفية هي ثروة وطنية ولا يمكن المساس بها أو التصرف فيها من قبل الأشخاص أو المجموعات أو الشركات أو الجمعيات.. وغيرها خارج ما تنص عليه القوانين وتحديدًا مجلّة المياه الصادرة سنة 1975 والتي تنظم كل ما له علاقة بالثروة المائية. وأوكلت لوزارة الفلاحة والموارد المائية والصيد البحري مهمة تطبيق قوانين مجلة المياه، كما تنظر المحاكم التونسية بمقتضى المجلة ذاتها في كل المخالفات المائية التي يمكن أن يرتكبها الأشخاص أو المجموعات.
لكن يبدو أن ترسانة القوانين المتعلقة بالثروة المائية التي أصدرتها تونس بين 1975 و2019 لم تعد سارية المفعول ولم تعد لها قيمتها الأخلاقية تجاه إحدى أهم الثروات الطبيعية بالبلاد وذلك في ظل تنامي فوضى مستجدة لم تعد خافية على أحد، ومتعلقة بالحفر العشوائي للآبار، ففي السنوات التي تلت الثورة حصلت عدة انفلاتات في علاقة بالثروة المائية بتونس نذكر منها: جمعيات مائية تحتكر المياه الموجهة للفلاحة وتسيء التصرف فيها، بيع للمياه الصالحة للشرب خلسة خارج الأطر القانونية والشروط الصحية بعيدًا عن سيطرة الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه "الصوناد"، عائلات تتعاقد مع شركات غير قانونية لحفر آبار عميقة، مستثمرون في المجال الفلاحي يحفرون آبارًا من دون تراخيص، أشخاص غير مؤهلين فنيًا يتحولون إلى حفّار آبار.. وغير ذلك.
هذه الفوضى حدت بوزارة الفلاحة إلى تخصيص عدّة جلسات تتعلق بموضوع حفر الآبار بطريقة عشوائية نذكر منها جلستي جانفي/ يناير 2021 ونوفمبر/ تشرين الثاني 2021 وآخر تلك الجلسات تلك التي انعقدت في شهر أوت/ أغسطس من سنة 2022 والتي تم التأكيد خلالها على أن الماء هو ملك عمومي وثروة وطنية لا بدّ من حمايتها، مع الإشارة بقوة أيضًا إلى أن الآبار العميقة العشوائية أضرّت بالمائدة المائية الجوفية واستنزفت الموارد وأدت إلى تدهور نوعية المياه المخصصة للشرب وللعمل الفلاحي بأنواعه.
كما دعت أغلب الجلسات الفنية التي خصصتها وزارة الفلاحة التونسية لهذا الموضوع الحارق إلى ضرورة مراجعة وتنقيح القوانين التي تتضمنها مجلة المياه.
سوء تصرف الجمعيات المائية بالجهة والبيروقراطية الإدارية في علاقة بملفات التراخيص وغياب العدالة المائية بين الجهات هي من بين أسباب ظاهرة الآبار العشوائية
كل ذلك لم يثن المغامرين في مجال حفر الآبار خلسة بمختلف الولايات عن الكف عن ذلك، بل واصلوا أنشطتهم بكل هدوء، وقد سجلت ولاية القيروان أعلى النسب في عدد الآبار العشوائية وعدد المخالفات حيث تم تسجيل حفر ما يفوق الـ 3 آلاف بئر عشوائية إلى موفى سنة 2022 موزعة على مختلف معتمديات الولاية، وحوالي 450 مخالفة وذلك حسب معطيات وزارة الفلاحة. وهي أرقام محيّرة تتطلب قراءات ودراسات قانونية واجتماعية واقتصادية وسياسية، إذ أن أغلب المخالفين لديهم حججهم ودوافعهم التي حدت بهم إلى مخالفة قوانين مجلة المياه ومن ذلك مثلًا: سوء تصرف الجمعيات المائية بالجهة والبيروقراطية الإدارية في علاقة بملفات التراخيص التي يدفعون بها إلى المندوبية الجهوية للفلاحة بالجهة، وعديدة هي التدوينات على منصات التواصل الاجتماعي التي تتحدث عن غياب عدالة مائية بين الجهات وبين المعتمديات وأحيانًا بين الفلاحين أنفسهم، فضلًا عن المحاباة في علاقة بالمخالفين.
وقد قسّمت المخالفات المتعلقة بحفر الآبار العشوائية إلى قسمين: قسم يُرتكب بالجهات الريفية حيث تكثر الأنشطة الفلاحية وخصوصًا الاستثمار الفلاحي، وقسم ثان حضري نجده بالمدن الكبرى والمعتمديات الداخلية، حيث لوحظ بشكل جلي تغيّر سلوك المواطن التونسي بالمناطق الحضرية في علاقته بالمياه في ظل الانقطاعات المتكررة للماء الصالح للشرب بالعديد من المدن وأيضًا تغير لون الماء وطعمه في بعض الأحيان، الأمر الذي دفع بالعديد من الناس إلى حفر آبار بمنازلهم وبالحدائق المحيطة بمحلات السكنى بغرض الاستعمال المنزلي مثل الغسل والشرب وري للمناطق الخضراء الخاصة وغسل السيارات.. وهنا تغيب الإحصائيات والمؤشرات الخاصة بالقسم الحضري وذلك في ظل غياب المراقبة والمتابعة.
محمد العياري (السرس) لـ"الترا تونس": انقطاع الماء خلال أشهر الصيف أجبرني على حفر بئر عشوائي، واحتجاجاتنا أمام شركة "الصوناد" لم تجد نفعًا
"الترا تونس" تحدث إلى عدد من المواطنين التونسيين الذين حفروا آبارًا عشوائية فكانت هذه آراؤهم:
"محمد العياري" يقطن بمدينة "السرس" وهي من معتمديات ولاية الكاف بالشمال الغربي التونسي تحدث بألم عن حجم المعاناة التي عاشها أهالي "السرس" جرّاء انقطاع الماء خلال أشهر الصيف، وأرجع ذلك لغياب رقابة السلط الفلاحية المحلية للحفر العشوائي لبعض الآبار العميقة التي قام بها بعض المستثمرين الفلاحيين قرب البئر العميقة التي تزود البلدة بالماء منذ سبعينات القرن الماضي، وهو ما أضر بالمائدة المائية وعطّل تدفق الماء بالقدر الكافي للأهالي.
وأضاف محدثنا أن سكان "السرس" قاموا باحتجاجات سلمية عديدة من ذلك وقفة احتجاجية أمام مقر الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه بالعاصمة، لكن كل ذلك لم يجد نفعًا مما اضطر أغلب السكان إلى حفر آبار بمنازلهم، مشيرًا إلى أن الحي حيث يسكن شهد أنشطة حفر عشرات الآبار بشكل عشوائي، وختم العياري بالقول إن الحل يكمن في تطبيق القانون على الجميع من دون محاباة وتغليب مصلحة المواطنين وتمكينهم من حقهم الطبيعي في الحصول الماء الصالح للشراب.
رضا ولهازي (فلاح من تستور) لـ"الترا تونس": يجب وضع خارطة مائية محلية واضحة، يتم استغلالها بشكل علمي سليم، تقسّم حسب قواعد تراعى فيها المساحات ونوعية المزروعات
أما رضا ولهازي وهو فلاح شاب من معتمدية "تستور" من ولاية باجة فيشير إلى أنه ورغم وجود سد سيدى سالم وهو أكبر السدود التونسية بجهتهم، ومرور وادي مجردة، فإن أهالي الجهة يعانون من منع وكبح في الاستغلال والتصرف في المياه السطحية من قبل السّلط الفلاحية المحلية، وحتى مع حلول سنوات الثورة لم تسعف الإدارة عموم الفلاحين بالجهة بالاستغلال الحسن والميسر، الأمر الذي دفع بالعديد من المواطنين إلى حفر آبار في آراضيهم وبمزارعهم خلسة، وفقه.
ويرى رضا الولهازي أن الوضع الفلاحي الحالي بتستور يتطلب تنظيمًا مغايرًا خاصة وأن جيلًا جديدًا من الفلاحين الشبان دخلوا غمار فلاحة متنوعة حادوا من خلالها عن تقاليد الأجداد، وأن يكون منطلق هذا التنظيم الجديد هو وضع خارطة مائية محلية واضحة، يتم استغلالها بشكل علمي سليم، وأن يتم تقسيمها حسب قواعد تراعى فيها المساحات ونوعية المزروعات وخصوصية المشاريع، مضيفًا أنه إذا ما بقي الوضع كما هو عليه فإن المائدة المائية السطحية والجوفية سوف تنعدم وتعمّ الخسارة كل المستثمرين.
سليم الجندوبي (مهندس من باردو) لـ"الترا تونس": تكلفة حفر البئر لم تتجاوز 5 آلاف دينار، ولاحظت بعد ذلك انخفاضًا واضحًا في أثمان فواتير شركة "الصوناد"
يرى سليم الجندوبي، من جهته، وهو مهندس في مجال الإعلامية ويقطن بضاحية باردو بالعاصمة تونس، أن غلاء فواتير الماء والتي باتت تزعجه في ظل غلاء المعيشة في تونس، دفعت به إلى حفر بئر في حديقة منزله منذ سنة 2021، وقد لاحظ بعد ذلك انخفاضًا واضحًا في الأثمان التي ترد في الفواتير التي ترسلها شركة "الصوناد"، وأشار الجندوبي أن تكلفة حفره للبئر لم تتجاوز 5 آلاف دينار، وأوضح أنه ينوي القيام بتركيز وحدة صغيرة لتحلية ماء البئر وإنشاء شبكة جديدة داخل المنزل ومن ثمة تحويله للشرب إلى جانب الاستغلال للأغراض الأخرى كسقي الحديقة وغسل سيارات العائلة.
إن جنوح مواطنين تونسيين إلى حفر آبار عشوائية سواء بالمناطق الفلاحية أو الحضرية كان للضرورة القصوى، واعتبره بعض المخالفين لزامًا حتى ينقذوا حياتهم من العطش أو ينقذوا زراعتهم وقوت يومهم وذلك في ظل غياب تام للدولة سواء بالمراقبة أو المتابعة بتطبيق القوانين السارية، وأيضًا في ظل سوء تقدير محلي متعلق بإسناد التراخيص أو بتقسيم المياه الموجهة للزراعة والفلاحة أو العناية وصيانة المياه الموجهة للبيوت بغرض الشرب والاستغلال المنزلي أو المتجهة للنسيج الصناعي.
إن الثروة المائية في تونس باتت مهددة في ظل فوضى الآبار العشوائية وغياب استراتيجيات وطنية حامية وتنظر إلى المستقبل في ظل متغيرات مناخية باتت تهدد وجود الوجود البشري على كوكب الأرض.