كي أفهم ما يحدث داخل عالم ما يعرف بـ"دوّارجيّة الماء" (يدورون بشاحنات خفيفة داخل الأحياء ويبيعون الماء)، كان لا بدّ من الذهاب مع أحدهم والقيام بجولة معه في سيارته "الأسيزي" والوقوف على تفاصيل بيع الماء خلسة في أحياء العاصمة تونس.
كان يوما مشمسًا من أيام أواخر شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2021 ودرجات الحرارة مازالت تحافظ على ارتفاعها رغم مشارفة الخريف على الرحيل، عندما صعدت إلى سيارة "الدوّارجي" رضا الذي يبيع الماء في مناطق الزهور والسمران وحي الروضة وحي الطيران.. وهي أحياء شعبية قريبة من بعضها البعض، وذات كثافة سكانية عالية وتوجد بالضاحية الغربية للعاصمة تونس.
إبراهيم (أحد زبائن "دوّارجيّة الماء") لـ"الترا تونس": نشتري الماء من الدوّارجية أحيانًا 3 مرات في الأسبوع، لأن الماء الصالح للشراب الموجود بالحنفيات المنزلية ثقيل وطعمه غير مستساغ ولا نستطيع شربه
"رضا" يبيع الماء منذ أكثر من تسع سنوات، وقد قدّم نفسه بأنه قيدوم "دوّارجية الماء". كانت السيارة تمشي الهوينى داخل أحياء ضيقة، وكان رضا بين الفينة والأخرى يضع يده على منبّه السيارة معلنًا قدومه فتخرج سيدات وأطفال ورجال من منازلهم يحملون أوان متعددة الألوان والأشكال ويشترون الماء بكل ثقة في النفس، بسعر مائة مليم للّتر الواحد.
ينزل رضا من السيارة بعد أن يضع "البنانة" في حزامه (محفظة نقود تلبس حول الخصر)، حيث يضع النقود ويشرع في عملية البيع والمزاح مع زبائنه.. سألت "العم إبراهيم" وهو من زبائن رضا ومتقاعد من إحدى مصانع الحليب، عن سبب شرائه الماء من عند الدوارجي فأجاب صراحة: "ماء السّبالة مولغ ما نجموش نشربوه" (أي أن الماء الصالح للشراب الموجود بالحنفيات المنزلية ثقيل وطعمه غير مستساغ ولا نستطيع شربه) وأنه مضطر لذلك ويشتري الماء مرتين في الأسبوع وأحيانًا ثلاث مرات خاصة عندما تشتد الحرارة في الصيف فيكثر الاستهلاك.
اقرأ/ي أيضًا: الأحياء الشعبية التونسية: على هامش الدولة (1/2)
أخبرني رضا ونحن نسير بين أنهج وأزقة حي الزهور، أنه اقتنى سيارته الأسيزي بالتقسيط من "الليزينغ" (شركة للإيجار المالي) وكان يدفع 500 دينار شهريًا، وحاليًا قد أتم الأقساط وأصبحت السيارة ملكه، وأضاف أن كل ذلك تم بفضل بيع الماء لسنوات، مضيفًا أن العملية مربحة جدًا، خاصة وأنه يوفر نوعية جيدة من الماء يضعها في أوعية بلاستيكية صحية اشتراها خصيصًا لذلك. وأوضح أنه بهذا يتميّز عن عدد آخر من الباعة الذين يعمدون لبيع الماء في أوعية بلاستيكية غير صحية يتم اقتناؤها من أسواق الخردة وأغلبها كانت مخصصة لوضع الأدوية والمواد الكيميائية الفلاحية، فيقومون بتغطيتها بخيش قماشية حتى لا يتفطن المواطن لذلك، وفقه.
رضا (أحد "دوّارجيّة الماء") لـ"الترا تونس": أبيع الماء منذ أكثر من 9 سنوات، والعملية مربحة جدًا حتى إنني أنهيت أقساط الشاحنة وأصبحت على ملكي
وعن مصدر الماء حكى رضا أنه كان في البداية (بين 2012 و2019) يجلب الماء من جهة المرناقية التابعة لولاية منوبة لأنها تتزود من سد بني مطير "شيخ السدود التونسية" المبني من منذ الاستعمار الفرنسي (1954)، ونوعية هذا الماء جيدة جدًا ومطلوبة حسب وصفه، وهو يتزود مرتين في اليوم خلال فصل الصيف من حنفيات عمومية ريفية مجانية وضعتها الدولة للسكان البعيدين عن شبكة التزويد بالماء الصالح للشراب.
وذكر رضا أن طوابير طويلة من الدوارجية يأتون لهذه الحنفيات قصد التزوّد إلى درجة احتكارها، فقامت الدولة بغلقها نهائيًا فاستغل بعض سكان المرناقية ذلك وأصبحوا يبيعون الماء من منازلهم للدوارجية. وفي الأثناء، كثرت نقاط المراقبة الأمنية وسحبت العديد من رخص السياقة وحجزت العديد من السيارات لتتحول العملية بعد ذلك إلى لعبة كر وفر مع الأمن، وأصبح الماء يهرب من المرناقية بطرق أخرى ويتم إفراغه خارج نقاط المراقبة من أجل بيعه، وهو ما اضطر الدولة لتغيير خط تزود الجهة بأكملها من سد بني مطير إلى سد غدير القلة الموجود بولاية منوبة، والكل يذكر الأزمة التي حصلت في المرناقية في صائفة سنة 2020 والضغط الذي مارسه "دوّارجية الماء" على الأهالي من أجل الاحتجاج على قرارات الدولة بتغيير خطوط التزود بالماء والإضراب المحلي والجلسات الماراطونية في الولاية ودخول سياسيين على الخط من أجل العدول عن القرارات.
رضا (أحد "دوّارجيّة الماء") لـ"الترا تونس": أصبحت أتزود بالمياه من عمق ولاية باجة وخاصة من مدن تستور وتبرسق والسلوقية وقبلاّط ومجاز الباب.. وهي مياه متأتية من سدود الشمال وخاضعة للمعالجة والتصفية مما يؤكد سلامتها
وحسب "رضا" فإن كل ذلك دفعه إلى تغيير خطط جلب الماء، فأصبح يتزود من عمق ولاية باجة وخاصة من مدن تستور وتبرسق والسلوقية وقبلاّط ومجاز الباب.. وهي مياه متأتية من سدود الشمال وخاضعة للمعالجة والتصفية مما يؤكد سلامتها، ورغم ذلك تمت محاصرة باعة الماء خلسة ومنهم من واجه القضاء وتمت تخطيته ماليًا، ومنهم من قام بالتزام لدى المصالح الأمنية على حد قوله.
سرعان ما يقطع القصة التي يسردها "رضا" فيما يتعلق ببيعه الماء خلسة منذ تسع سنوات، سيدات يخرجن من منازلهن لشراء الماء، وبسؤالي إحداهن عن سبب شرائها الماء الصالح للشراب من عربة قد تكون غير مضمونة صحيًا، تجيب بأنها لا ترى مانعًا في ذلك، وأنها قد جربت الماء الذي يأتي من عند رضا قرابة العامين وهو جيد وذو مذاق طيب، وحسب رأيها هو أقل ثمنًا من المياه المعلبة خاصة مع غلاء المعيشة في هذه السنوات الأخيرة.. وهنا تتدخل أخرى فتوضح أن الماء في الحنفيات لونه متغيّر على الدوام وأن الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه (الصوناد) لا تقدم خدمات لائقة بالمواطن، فهي لا تعرف سوى خلاص الفاتورات لذلك تجد نفسها مضطرة لشراء الماء بهذه الطريقة.
اقرأ/ي أيضًا: تونس العطشى: عن أزمة المياه من خارج صندوق أيديولوجيا المساواة
يواصل الدّوارجي "رضا" القصة معترفًا بأن ما يقوم به مخالف للقوانين، لكنه يجد نفسه مضطرًا حتى يعيش، وهو يعتقد أنه يقدم خدمة للمواطنين، ويشير إلى أن مئات الدوارجية ينتشرون في تونس الكبرى، وخاصة في الأحياء الفقيرة حيث لا يقدر المواطن على شراء لتر من الماء المعلّب بحوالي 500 مليم وأنهم يناورون "الحاكم" (الأمن) طيلة يومهم.
وأوضح رضا لـ"الترا تونس"، أنه لم يعد يقطع المسافات من أجل شراء الماء من المنازل بجهة باجة، بل هناك مصانع عشوائية وُجدت ببعض الأحياء، مهمتها تكرير الماء وتنقيته وتحليته ومن ثمة بيعه للدوراجية بسعر أقل، حيث لا يتجاوز سعر اللتر الواحد خمسين مليمًا وهو أمر محمود بالنسبة إليه.
وفي الأثناء، تمر سيارة أمن فيقوم رضا بتحيتهم التحية اللائقة، يلتفت إليّ مبتسمًا ويقول: "إنهم أصدقائي"، ويواصل حديثه مبينًا أنه كـ"دوّارجي مياه" يتابع كل الأخبار التي تتعلق بالمياه في البلاد وخاصة أخبار الأزمة الأخيرة والمتمثلة في عملية احتكار كبرى عاشتها تونس نهاية شهر أوت/ أغسطس، وطيلة شهر سبتمبر/ أيلول المنقضي وشملت أغلب أنواع المياه المعلبة وخاصة حجم نصف لتر المطلوب كثيرًا في المقاهي والمطاعم والنزل، وذلك من أجل تصديره إلى الجارة ليبيا، وهو ما دفع العديد من المواطنين اضطرارًاإالى شراء الماء من عنده وهكذا تكبر شبكة زبائنه.. ووأشار رضا إلى أنه يقدم الماء مجانًا لبعض العائلات المعوزة في الأحياء التي يقصدها وذلك من باب الأخلاق والشهامة حسب وصفه.
طيلة هذه الرحلة، باع "رضا" ربع الحمولة وقدرها 240 لترًا، منتظرًا عطلة نهاية الأسبوع ليواصل بيع بقية الكمية.
إن بيع الماء خلسة من قبل مئات الدوارجية بتونس الكبرى والمدن الساحلية خارج الدوائر الرسمية على مرأى من الدولة في مخالفة صارخة للقانون ولمختلف فصول "مجلة المياه"، يكبّد الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه خسائر فادحة تقدر بمئات آلاف الدنانير، زد على ذلك إخلالات أخرى يقوم بها المواطنون أو ما يعرف بـ"القناة قبل العداد"، واستغلال ذلك للبيع وللريّ الفلاحي ولأشغال البناء.. وهو ما حدا بالشركة للتوجه للقضاء من أجل مقاضاة المختلسين. هذه الظاهرة تجعل من تونس بلدًا يواجه المزيد من التحديات بخصوص استراتيجيات المياه، فإلى جانب التغيرات المناخية وارتفاع درجات الحرارة وشح مياه الأمطار، نجد أن ثلث السدود تعاني شيخوخة مبكرة نتيجة ارتفاع منسوب الطمي (23% النسبة العامة للطمي)، وتأخر الجهر والصيانة وتزايد طلبات القطاع السياحي على الماء وحفر الآبار بشكل عشوائي مما أضر بالطبقات المائية الجوفية.
يبدو أن حبل الماء منفلت في تونس نتيجة عدم الاستقرار السياسي طيلة العشرية الأخيرة وغياب مراجعات هيكلية فيما يتعلق بالمناهج والسياسات القديمة وعدم تطبيق القانون على المخالفين، من مختلسين للثروة المائية ومحتكرين، فضلًا عن عدم مراجعة رخص وحدات إنتاج المياه المعدنية (29 رخصة إلى حدود السداسي الأول من سنة 2021)، وهو ما دفع بالمجتمع المدني للتحرك في اتجاه معالجة الانفلات الحاصل في الثروة، على غرار جمعية نوماد 08 التي بعثت "المرصد التونسي للمياه" من أجل رصد ما يحدث في مجال المياه ومناقشة "مجلة المياه" وتقديم بدائل بعد الجلوس للخبراء والمختصين.
اقرأ/ي أيضًا:
استنزاف المياه: بين أسطورة التصدير ومجتمع الاستهلاك
"هنا يباع الخمر خلسة".. حينما يتحدى باعة الخمر الأمن وكورونا معًا