في فيلم كوستا غافراس "رأس المال le capital (2012)"، يقول جاد المالح (في دور المدير الجديد للبنك مارك توني في الفيلم): "المال مثل كلب لا يطلب مداعبة، يكفي أن ترمي له الكرة بعيدًا في كل مرة ليستحوذ عليه إلى الأبد". يقصد المخرج، الذي ساهم في كتابة السيناريو بدوره، على لسان الشخصية أن أساس استحواذ المال في الأنظمة الرأسمالية هو الاستثمار المتواصل والمضي قدمًا والمخاطرة، بدل مداعبتها عبر الحرص الشديد. طبعًا هذا في أنظمة رأسمالية بين رأسماليين، وهذا لا علاقة له بالنظام الماركنتلي والتجار منتحلي صفة رجال أعمال في تونس.
صادق مجلس نواب منذ أيام على قانون 104/2020، والذي اتفق أن يسمى بقانون "الإنعاش الاقتصادي وتسوية مخالفات الصرف". يذكر أن القانون كان من اقتراح حكومة إلياس الفخفاخ، وقد بتت فيه لجنة المالية برئاسة عياض اللومي، النائب عن قلب تونس آنذاك.
لاقى مشروع القانون معارضة "هستيرية" من بعض نواب المعارضة إذ نعتوا الحكومة وحزامها السياسي بتحويل وجهة للقانون ليصب في مصلحة اللوبيات ورجال الأعمال
لاقى مشروع القانون معارضة "هستيرية" من بعض نواب المعارضة، والذين صادف أن كانوا أحد مكونات الحكومة السابقة، إذ نعتوا الحكومة وحزامها السياسي بنعوت مختلفة تتقاطع حول عملية تحويل وجهة للقانون (إلغاء 10 فصول وتعديل 10 من النسخة الأصلية، مع 5 مقترحات من الجهة المبادرة ضمن الجلسة العامة)، ليصب في مصلحة اللوبيات ورجال الأعمال، وهو ما أثار استغراب وزير المالية علي الكعلي في لقائه الإذاعي على إذاعة "إكسبراس أف أم" يوم 14 جويلية/يوليو 2021، مشيرًا إلى أن من صاغوا القانون بالأمس صاروا اليوم من معارضيه.
لحساسية محتوى القانون وأهميته، نحاول فيما يلي تقصي تأثيرات بعض الفصول التي أثارت جدلًا.
اقرأ/ي أيضًا: وزير المالية يوضح أهم إجراءات قانون الإنعاش الاقتصادي
في توجيهاته الرئاسية الإذاعية، كان بورقيبة يحث التونسيين على شراء واكتساب المساكن، والسعي لها ولو بشراء "كنتولة" (مكعب إسمنتي شبيه بالآجر) كل شهر، ما زرع لدى التونسيين ما يشبه الحلم التونسي: منزل. حتى صارت أشغال البناء والصيانة من الأنشطة المستمرة لدى عديد من العائلات التونسية.
في الجلسة العامة ليوم 12 جويلية/يوليو 2021، حاول وزير المالية علي الكعلي التأثير في مشاعر التونسيين عبر اقتراح فصل تلاه بنفسه واعتبره "هدية الحكومة"، والذي ينص على إمكانية الراغبين في اقتناء عقارات للسكنى، من قروض ميسرة في حدود الـ500 ألف دينار، بدون تمويل ذاتي بنسبة فائدة سنوية قارة 3% (وهو ما يتعارض مع النسبة المديرية التي يضبطها البنك المركزي وتقدر حاليًا بـ 6.26%)، تسدد على فترة يمكن أن تمتد إلى غاية 40 سنة، على أن تتعهد الدولة بإعادة تمويل البنوك الممولة مع منحها هامشًا بـ 1%. طالما أثار قطاع العقارات عديد الشبهات والتساؤلات، خاصة بعد تقرير هيئة مراقبة التحاليل المالية لسنة 2017، أين أشارت إلى إمكانية استغلال القطاع لشبهات تقع ضمن طائلة قانون مكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب، مستندة إلى عدة أرقام حول ارتفاع عدد العقارات وتواصل ارتفاع أسعارها بشكل حاد في مقابل تدهور المقدرة الشرائية للتونسيين، ما يخل بعلاقة العرض/الطلب.
منظمة بوصلة: هناك إجراءات في القانون، على غرار المراجعة المحدودة للشركات موضوع تحري المراقبين الجبائيين، تدفع نحن مزيد من ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب ودفع نحو المزيد من التهرب الضريبي
أيضًا، في مقال لمحمد المستيري نُشر على موقع "نواة" بتاريخ 16 أوت/أغسطس 2017، يشير الكاتب إلى رقم ورد بدراسة لوزارة التجهيز، وهو وجود 100 ألف عقار شاغر، غير مأهول كمسكن أول أو ثانٍ، وغير معد للكراء ولا للبيع. من جهة أخرى تتباين الأرقام حول عدد الشقق والمساكن المعدة للبيع في تونس. لكن على ما يبدو أن هناك "شبه-أزمة" عقارية غير معلنة في البلاد، خاصة إذا ما اعتبرنا تقرير الرقابة البنكية للبنك المركزي لسنة 2019 والصادر في مارس/آذار 2021، والذي يوضح في الصفحة 36، السقوط الحر الذي تشهده حركة القروض الموجهة للسكن، إذ تراجع عددها من 6.5% بالنسبة لـ 2017/2018 إلى 1.9% بالنسبة لـ 2018/2019. فيما سجلت الشركات العقارية المدرجة بالبورصة تراجعًا كبيرًا في أرقام معاملاتها لسنة 2018. من البديهي ألا يكون الحال أفضل في السنتين "الكوفيديتين" الفارطة والحالية.
أثناء حضوره في راديو "إكسبراس أف أم" يوم 14 جويلية/يوليو 2021، وعند سؤاله عن مصدر تمويل هذه القروض السكنية التي تعهدت بها الدولة، والذي طبعًا لا يمكن أن يكون البنك المركزي بحكم استقلاليته عن الحكومة منذ 2016، رد الوزير أن مصدر التمويل سيكون صندوق الودائع والأمانات (CDC)، الذي يمثل الادخار البريدي للمواطنين أهم موارده بنسبة 80%.
اقرأ/ي أيضًا: حوار| المحلل المالي نادر حداد: ثقة المقرضين الدوليين في تونس في تراجع
أحدث هذا الصندوق سنة 2011 لمركزة الادخار الوطني، وتوجيهه نحو تعزيز ودفع المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ذات القيمة المضافة العالية، وحث الاستثمار في مجالات الطاقة، المياه، البيئة... ومجالات أخرى واردة بنص إحداث الصندوق، ومجال العقارات والبناء ليس من بينها، أو على الأقل لا يمكن أن يمثل الباعثون العقاريون طرفًا يحتاج إلى تدخل الدولة لإنقاذه، إذ يقبع حوالي 30% من التونسيين في وضعية "الكراي الأبدي"، وفي حالة هشاشة سكنية نظرًا للإشكاليات التي تسود العلاقة بين "الملاك" والمكترين. "نستعمل مدخرات المدخرين الصغار لإنقاذ كبار المجموعات العقارية". هكذا علّق وليد بسباس، الكاتب مع موقع "انحياز"، ويضيف: "أي أننا إزاء عملية ارتهان لمدخرات المواطنين في قطاع العقارات الذي يعاني من أزمة مزمنة منذ سنوات، وبالتالي ستتحول بموجب هذا القانون نحو صندوق الودائع، مع ما قد يصاحبها من أخطار تتحذر منها البنوك الخاصة".
في الواقع، توجد قروض مشابهة في بلدان الشمال المحببة لمقاربات مسؤولينا، قروض سكنية ميسرة مع هوامش فائدة لا تتجاوز الـ 1%. دون الخوض في دوامة الأمثلة من بلدان أخرى، واقتصاديات أخرى، إذ لكل بلاد خصوصياتها، يبقى التساؤل حول لجوء الحكومة لمدخرات التونسيين لحل "أزمة" عقارية مطروحًا مع كل التحفظات حول وجود أزمة فعلًا أم لا، وعلى كل تبعاته سواء أكانت إيجابية أم سلبية.
سحر مشماش (محللة سياسات عامة) لـ"الترا تونس": هذا القانون يؤثر سلبًا على موارد الدولة ويكرس للمزيد من اللا-عدالة الجبائية
من جهة أخرى، يطرح القانون جملة من الإجراءات المتعلقة بالجباية والأداءات كتخفيف العبء الجبائي المساكن المشيدة من قبل الباعثين العقاريين (فصل 4)، ضبط مبلغ أقصى لخطايا التأخير وتسوية المخالفات والجنح الديوانية مقابل 10% من المعاليم المتفصى منها أو من قيمة البضاعة.
في المقابل، تم رفض جملة من الإجراءات، كإجراء المراجعة المحدودة للشركات موضوع تحري المراقبين الجبائيين (فصل 15 و16 في النسخة الأولى للقانون). اعتبرت منظمة بوصلة، عبر صفحتها على فايسبوك، هذه الإجراءات تدفع نحن مزيد من ترسيخ ثقافة الإفلات من العقاب ودفع نحو المزيد من التهرب الضريبي.
"يؤثر هذا القانون سلبًا على موارد الدولة ويكرس للمزيد من اللا-عدالة الجبائية". هكذا عقبت سحر مشماش، محللة سياسات عامة ضمن مشروع مرصد الميزانية مع منظمة بوصلة لـ"الترا تونس".
تضيف: "كلفة الامتيازات الجبائية التي تمنحها الدولة منذ سنوات فاقت ميزانية الصحة مثلًا، ولا نرى بالمقابل أي أثار إيجابية لها. كذلك، تعاني مصالح مراقبة الأداءات في وزارة المالية من نقص حاد في الموارد البشرية. وكان من المفترض أن تمكنهم المراجعة المحدودة من التركيز على فترة زمنية محددة بدل مراجعة فترة كاملة ضمن المراجعة المعمقة المعمول بها، والتي تستنزف موارد وتمتد لفترات طويلة، وتراكم ملفات شركات أخرى في المقابل. أيضًا، رفض الفصل الملزم للبنوك بالتصريح للعمليات المالية واعتماد الشيكات المسطرة، حيث كان من المتوقع أن تسهل هذه الإجراءات عملية المراقبة الجبائية. وأخيرًا، تخفيض مدة المراجعة إلى 4 أشهر، بدل 6 أشهر والتي أصلًا لم تكن كافية نظر لأن عدد الموظفين المشرفين على مراقبة الأداءات يعتبر ضئيلًا بالمقارنة بعدد الشركات".
للإشارة، يذكر أن محافظ البنك المركزي، في جلسة الحوار معه، صرح أن القانون الحالي يصب في مصلحة الشركات الموجودة أساسًا ولا يشجع خلق شركات جديدة.
المحلل المالي نادر حداد لـ"الترا تونس": نخشى مضي الحكومة نحو "لبننة" القانون عبر تحفيز إيداع التونسيين لعملات أجنبية مقابل تمكينهم من مكافآت وحوافز ما قد يؤدي حينها إلى ما يسمى في العلوم الاقتصادية بنظام بونزي
خصصت الحكومة جزءًا من هذا القانون، طال انتظاره، وهو باب به مجموعة من الإجراءات في صلة مباشرة بمجلة الصرف "القروسطية" التي عانى من قيودها الكثير من التونسيين، إذ ينص الفصلان 11 و12 على إمكانية فتح التونسيين لحسابات بالعملات الأجنبية، فضلًا عن إمكانية مسك العملة وتداولها، بالإضافة إلى تمكين غير التونسيين من ذلك أيضًا، ومجموعة أخرى من الإجراءات المشجعة للتونسيين بالخارج.
أبدى المحلل المالي، نادر حداد، ارتياحًا تجاه هذه الإجراءات، إذ قال: "هناك الكثير ممن يتعاملون عبر العملات الأجنبية في مجالات مختلفة كالسياحة، التجارة..." فيما أبدى تحفظه حول عدم وضوح القانون حتى الآن في انتظار المصادقة عليه ونشره أولًا، ثم نشر الأوامر الحكومية والمناشير المصاحبة له. بينما يبدي نادر تخوفه من مضي الحكومة نحو "لبننة" القانون عبر تحفيز إيداع التونسيين لعملات أجنبية مقابل تمكينهم من مكافآت وحوافز مثل نسب فائدة تصل إلى 20% عن كل عملية إيداع ما قد يؤدي حينها إلى ما يسمى في العلوم الاقتصادية بنظام بونزي، système de Ponzi، ما يعني خلاص المودعين والمستثمرين من أموال المستثمرين الجدد.
متحدثًا عن بؤساء المصانع، يروي ماكسيم غوركا في نصه الخالد "الأم": لقد اعتادوا أن يشعروا بثقل الحياة متساويًا في سائر الأوقات، وأصبحوا يرون في كل تبديل، بعد أن يئسوا من التخفيف عنهم، وسيلة قمينة بمضاعفة بؤسهم وشقائهم والاستزادة منهما". ربما تفسر هذه الكلمات البرود والجفاء والتشكيك، الذي لاقى به بعض من التونسيين القانون، إذا طالما عودنا سياسيونا الأشاوس أن هناك دومًا قطارًا يخفي قطارًا آخر.
اقرأ/ي أيضًا:
الدين الخارجي: خرافة "الإفلاس" والسيناريوهات المفترضة من خلال تجارب مقارنة
حوار| آرام بلحاج: تعهدات تونس مع صندوق النقد قد تؤدي إلى انفجار اجتماعي