تحتفي تونس بتاريخ 15 تشرين الأول/أكتوبر من كل سنة بذكرى الجلاء العسكري، تاريخ مغادرة آخر جندي فرنسي للبلاد وذلك سنة 1963، وهو احتفاء تم تهميشه طيلة العهد السابق قبل أن يصبح عيدًا وطنيًا بعد الثورة، بيد أنه ظلّ دائمًا عنوانًا للجدل بخصوص تقييم معركة بنزرت ضد القوات الفرنسية، المعركة الختامية من أجل الاستقلال التام.
الاحتفاء بعيد الجلاء في تونس طالما ترافق بجدل عنوانه تقييم معركة بنزرت ضد القوات الفرنسية والتي يعتبرها البعض محرقة لم تكن ضرورية
رغم حصول تونس على الاستقلال منذ 1956، لم تغادر قوات الاستعمار الفرنسي حيث احتفظت بقاعدة عسكرية شمال البلاد في مدينة بنزرت، ليطالب لاحقًا الرئيس الأول للبلاد الحبيب بورقيبة بمغادرة هذه القوات مع تلكئ الجانب الفرنسي، الذي كان يواجه حينها الثورة الجزائرية في أوجّها.
ومع الرفض الفرنسي، وجّه بورقيبة الجيش التونسي الوليد حينها مدعومًا بقوات شعبية تمت تعبئتها لتحرير القاعدة العسكرية في البلاد في تموز/يوليو 1961، لتنطلق معركة غير متكافئة عسكريًا دامت أربعة أيام، وخلفت أكثر من 630 شهيد تونسي. وبعد تدخل الأمم المتحدة والدخول في مفاوضات بين الجانبين، تم الاتفاق على مغادرة القوات الفرنسية لتونس وهو ما تمّ بجلاء آخر عسكري بتاريخ 15 تشرين الأول/أكتوبر 1963 الذي أصبح فيما بعد عيدًا وطنيًا في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: تونس.. تعددية بدائل التغيير وتكثيفها
"إن تقييم محنة بنزرت لا يزال يثير جدلاً، وهي مواجهة عنيفة وغير متكافئة ولكن لم يتسنّ استكمال الاستقلال إلا بفضلها"، هكذا كتب في مذكراته الرئيس الحالي الباجي قائد السبسي والذي ترأس حينها الوفد التونسي للتفاوض حول خطة فك الارتباط بعد المعركة. حيث كلما جاءت ذكرى الجلاء العسكري إلا ورافقها جدل دائم حول مدى ضرورة الدخول في معركة بنزرت، التي يصفها البعض بالمحرقة بالنظر للعدد الكبير للشهداء في بضعة أيام، رغم أن فرنسا أعلنت قبلها استعدادها الدخول في مفاوضات لمغادرة البلاد.
شكك معارضون سياسيون حينها ومؤرخون حاليًا في جدوى المعركة، ويعتبرون أن قرار بورقيبة الدخول في معركة غير متوازنة عسكريًا لم يكن هدفه إلا الاستثمار السياسي وهو الذي كان حينها في أوج قمعه لليوسفيين القوميين ألدّ خصومه، الذين كانوا يتهمونه بالعمالة والحصول على استقلال شكلي. ويحاجج هذا الفريق بأن فرنسا لم تسحب قواتها في النهاية إلا بشروطها وبعد فقدان قاعدة بنزرت لأهميتها الاستراتيجية بالنسبة لهم خاصة بعد منح الجزائر استقلالها، كما لم يتم إجلاء آخر جندي فرنسي إلا بعد أكثر من سنتين من انتهاء المعركة.
لا يزال جزء من التونسيين ينكرون أن يترادف الجلاء مع السيادة التامة، في ظل الحديث عن ارتهان القرار الوطني لصالح القوى النافذة
وفي المقابل، يشدّد فريق آخر على أنه لم يمكن طرد القوات الفرنسية إلا بتقديم التضحيات في معركة عسكرية وإن كانت غير متوازنة وخسائرها البشرية فادحة، ويؤكد هذا الفريق أن قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بضرورة مغادرة القوات الفرنسية لم يكن لولا حدوث هذه المعركة بالنهاية. وبين هذا الفريق وذاك، يظل الجدل دائمًا بين الفاعلين السياسيين والمؤرخين حول هذه المعركة والتي قد تظهر حقائق جديدة بخصوصها في إطار تنفيذ مسار العدالة الانتقالية حاليًا.
اقرأ/ي أيضًا: شباب تونس..أذرع حزبية وإرهاب وتمرد وأكثر
وعمومًا يحتفي العديد من التونسيين بهذا العيد ببعض البرود، فلم تعرف الأجيال الجديدة ذكرى الجلاء العسكري إلا كحدث يتم دراسته في كتاب التاريخ، حيث لم تكن هذه الذكرى عيدًا مبجلًا في عهد الرئيس بن علي، حينها كانت مجرد مناسبة جهوية خاصة بمدينة بنزرت، شمالي تونس. ولذلك، قررت السلطات بعد الثورة سنة 2011 إعادة الاعتبار لهذه الذكرى بجعلها عيدًا وطنيًا وإقرار يوم 15 تشرين الأول/أكتوبر يوم عطلة رسمية في البلاد.
وإن كان الحديث في هذا العيد يتمحور دائمًا عن "الجلاء"، و"الاستقلال"، و"السيادة"، لا يزال جزء من التونسيين ينكرون أن يترادف الجلاء العسكري مع الاستقلال الوطني والسيادة التامة، في ظلّ الحديث عن مواصلة ارتهان القرار الوطني بعده لصالح القوى النافذة، والتشكيك في التمتع بالسيادة التامة. ويتصادف هذا الجدل المتجدد هذه السنة مع الخشية من ارتهان البلاد للمؤسسات المالية العالمية وشروطها لمنح قروض، وهو ما قد يمسّ من القرار الوطني وسيادة البلاد، ليظلّ سؤال تحقيق الاستقلال التّام بذاته محلّ جدل.
اقرأ/ي أيضًا: