29-مارس-2023
باب بحر

في محيط باب بحر لا يكاد يمر مواطن دون أن يهمس رجال منتشرون بالمكان على مقربة من أذنيه "صرف.. صرف" (Getty)

 

تعج ساحة النصر بالعاصمة تونس بآلاف الزائرين يوميًا الذين يجدون في هذا المكان الذي يفصل بين المدينة العتيقة والمدينة الجديدة ضالتهم. باب بحر هو مقصد أغلب التونسيين الباحثين عن قضاء حوائجهم من "سوق بومنديل" أو "الأسواق" أو "السوق التقليدي" وغيرها من الأسواق المجاورة، كما أنه يمثّل أيضًا وجهة البعض لاحتساء القهوة واكتشاف هذا المعلم التاريخي خاصة منهم السياح الأجانب. 

في محيط باب بحر تحديدًا تحت "les arcades" وفي مدخل نهج الجزائر، لا يكاد يمر مواطن دون أن يهمس رجال منتشرون في كل زاوية بالمكان على مقربة من أذنيه "صرف.. صرف.. عندك (لديك) صرف". همسات ووشوشات تعوّد عليها كل تونسي يمر من شارع "شارل ديغول" لكن أحدًا لا يعيرها اهتمامًا ما عدا الباحثين عن صرف العملة الأجنبية في سوق الصرف السوداء التي لا تطالب بإثبات مصدر العملة مهما كان مقدارها والتي توفر أسعارًا تنافسية مقارنة بالبنوك وبمكاتب الصرف التي انتشرت مؤخرًا. 

في محيط باب بحر لا يكاد يمر مواطن دون أن يهمس رجال منتشرون بالمكان على مقربة من أذنيه "صرف.. صرف" عساهم يجدون من بينهم باحثين عن صرف العملة الأجنبية في السوق  السوداء التي لا تطالب بإثبات مصدر العملة

التجارة الموازية للعملة في تونس العاصمة لا تستغرق سوى دقائق معدودة، فبعد حصول "الصرّاف" على حريف يتم التخفي عن الأعين وراء أعمدة "les arcades" أو خلف سيارات رابضة في المكان وبعد الاتفاق على مبلغ الصرف القابل للبيع والشراء تتم العملية وينصرف كلا الطرفين في حال سبيله. 

سوق الصرف الموازية بالعاصمة باتت مكشوفة ومعروفة لدى عموم التونسيين وبطبيعة الحال لا يمكن أن تخفى عن أعين وزارة الداخلية التونسية التي لا يبعد مقرها سوى بضعة أمتار عن "المقر الدائم للصرّافة" الذين تشهد تجارتهم ازدهارًا مستمرًا في ظل التدني المتواصل لسعر الدينار.

العاصمة هي القلب النابض للسوق الموازية للعملة في تونس، المتسبب الرئيسي في شح السيولة لدى البنوك وفي ارتفاع نسب التضخم علاوة على أنه ستار لجميع المعاملات التجارية غير القانونية. وقد كشف محافظ البنك المركزي مروان العباسي سنة 2019 أن الأموال المتداولة في السوق الموازية يبلغ حجمها حوالي 4 مليار دينار نصفها يتم تداوله في المناطق الحدودية.

 

صورة
محيط باب بحر بتونس العاصمة بعتبر "المقرّ الدائم للصرّافة" (هاجر عبيدي/ الترا تونس)

 

  • السوق السوداء للعملة تنتعش بانتعاش الاقتصاد الموازي 

أفاد المختص في الاقتصاد عز الدين سعيدان بأن سوق الصرف الموازية هو نتيجة للاقتصاد الموازي الذي يتعامل بالنقد عند الاستيراد والبيع خارج المسالك القانونية وبالتالي فهو يحتاج لعملة يشتريها وعندما تتوفر العملة يمتهن بيعها وتصبح هي في حد ذاتها تجارة، لافتًا إلى أن من أسباب ظهور السوق الموازية للعملة في تونس هو قانون الصرف الذي يمنع العديد من التحويلات وهذا ما يخلق قانون صرف موازٍ، وكل ما هو موازٍ فيه إضرار كبير جدًا بالاقتصاد المنظم. 

عز الدين سعيدان لـ"الترا تونس": من أسباب ظهور السوق الموازية للعملة في تونس هو قانون الصرف الذي يمنع العديد من التحويلات وهذا ما يخلق قانون صرف موازٍ، وكل ما هو موازٍ فيه إضرار كبير جدًا بالاقتصاد المنظم

واعتبر سعيدان، في حديثه لـ"الترا تونس"، أن الاقتصاد الموازي في العملة أو في أي مجال آخر لا يحترم القوانين ولا يساهم في منظومة الجباية والتضامن الاجتماعي وينافس بشكل غير قانوني الاقتصاد المنظم، مشيرًا إلى أن السوق الموازية للعملة لها علاقة مباشرة بتسعيرة العملة أي أنه عندما يرتفع التضخم تتراجع قيمة الدينار، وبالتالي ترتفع قيمة العملة، وبذلك ترتفع قيمتها أيضًا في السوق الموازية. 

ولفت، في هذا الصدد، إلى أن السوق الموازية أصبحت متواجدة في كل مكان وخاصة في تونس العاصمة والساحل وبن قردان  قابس والجم، معتبرًا أن "انتشار سوق العملة السوداء ليس له علاقة بضعف القوانين أو غيابها لأن القوانين موجودة وتجرم هذه العمليات غير القانونية وتنص على عقوبات لكل مخالف". 

 

 

وأشار محدث "الترا تونس" إلى أن "الحل في مراجعة أصل الظاهرة وأسباب نشأة سوق عملة موازية التي تتلخص في وجود قانون صرف يمنع العديد من التحويلات وهو يخلق قانون الصرف الموازي إلى جانب انتعاشة الاقتصاد الموازي الذي يحتاج التعامل بالنقد سواء بالدينار أو بالعملة الصعبة"، حسب تصوره.

وكحلول سنتها الدولة لتطويق نشاط تداول العملة الصعبة خارج المسالك القانونية سمحت الدولة التونسية سنة 2018 بممارسة نشاط صرف العملة في مكاتب الصرف،  وقد اعتبر عز الدين سعيدان أن هذا الإجراء لم يحل المشكل لأن هذه المكاتب عوضت البنوك فقط في جزء من عملها فيما يتعلق بعملية الصرف، كما أنها تخضع للقانون كالبنوك وأكثر على اعتبار أن عملياتهم محدودة جدًا.

ويعتبر المختص في الاقتصاد أن البحث عن حلول لسوق الصرف الموازية موضوع كبير ومتشعب يستوجب النظر في أسباب ازدهار هذا السوق وانتعاشه خاصة منذ سنة 2011،  قائلًا: "عندما تضعف الدولة كل ما هو غير قانوني ينتعش لذا الحل في إنقاذ الاقتصاد أولًا، فمنذ سنة 2012 ما يحدث هو مجرد إجراءات مالية أو نقدية لكن لا وجود لأي عملية إنقاذ للاقتصاد".

سعيدان لـ"الترا تونس": البحث عن حلول لسوق الصرف الموازية موضوع متشعب يستوجب النظر في أسباب ازدهاره خاصة منذ سنة 2011،  فعندما تضعف الدولة ينتعش كل ما هو غير قانوني لذا فإن الحل يكمن في إنقاذ الاقتصاد أولًا

وتابع: "نتحدث عن الإصلاحات الكبرى ولا وجود لأي إصلاحات والدليل على ذلك توجهنا ثلاث مرات لصندوق النقد الدولي. سنة 2013 تقدمنا ببرنامج إصلاحات ولم نلتزم به وفي عام 2016 تقدمنا كذلك ببرنامج إصلاحات ولم نلتزم به أيضًا. وها نحن الآن نتفاوض منذ سنتين مع الصندوق ولم نتوصل إلى نتيجة،  لذا فإن الحل يكمن في إنقاذ الاقتصاد".

وعقّب سعيدان قائلًا: "عند إنقاذ الاقتصاد يمكن فتح المجال أكثر فيما يتعلق بقانون الصرف نحو المزيد من حرية الصرف وهو أفضل إجراء لمقاومة السوق الموازية بشرط أن يكون الاقتصاد قادرًا على تحمل مزيد من حرية الصرف فلا يمكن القيام بهذه العملية وقت الأزمات لأن ذلك يكون خطير جدًا"، مشددًا إلى أن "التوجه نحو حرية الصرف لا بدّ أن يتم عندما يكون الاقتصاد في وضع جيد جدا ومنتعش"، حسب تقديره.

وعن حجم الأموال المتداولة في السوق السوداء، اعتبر عز الدين سعيدان أنه "لا يمكن تقديره، لكن ما هو معلوم هو أن الاقتصاد الموازي انتعش وفي مزيد انتعاشه سنة بعد سنة يرتفع حجم الأموال بالعملة الموجودة في هذا السوق، لأن متطلبات الاقتصاد الموازي ترتفع"، متسائلًا عن "كيفية احتساب حجم الأموال في سوق الصرف الموازية سنة 2019 والجزم بأنها في حدود 4 مليارات دينار".

 

صورة
العاصمة هي القلب النابض للسوق الموازية للعملة في تونس (Getty)

 

  • في ظل غياب التنمية.. تصريف العملة في المناطق الحدودية ضرورة لا خيار

لئن تنتشر سوق الصرف السوداء في أغلب مناطق البلاد فإن الملاحظ هو أن توزيعها الجغرافي يختلف باختلاف خصوصيات كل منطقة. وتعتبر هذه التجارة أكثر رواجًا في المناطق الحدودية مع ليبيا والجزائر خاصة منها مدينة بن قردان الواقعة جنوب شرقي البلاد، وهي أول مدينة تجاور معبر رأس جدير الحدودي.

الشارع الرئيسي في بن قردان يمتد على مدى حواليْ كيلومترين ويلقب بـ "وول ستريت بن قردان" أو "شارع الصرف"، ينتصب فيه حوالي 300 مكتب صرف عشوائي يستقبل زبائن بأعداد هامة نظرًا للموقع الاستراتيجي لهذه السوق المالية الموازية. وتوفر مكاتب الصرف الموازية مواطن شغل لأهالي المنطقة والمناطق المجاورة خاصة منهم خريجو الجامعات المعطّلين عن العمل بسبب غياب التنمية وسياسة تهميش المناطق الحدودية والداخلية التي تنتهجها تونس منذ الأزل.

الشارع الرئيسي في بن قردان يلقّب بـ "وول ستريت بن قردان" أو "شارع الصرف" إذ ينتصب فيه حوالي 300 مكتب صرف عشوائي يستقبل زبائن بأعداد هامة نظرًا للموقع الاستراتيجي لهذه السوق المالية الموازية

وأكد رئيس جمعية القطب المدني للتنمية وحقوق الإنسان بمدنين عبد الوهاب ماضي أن الولاية لم تحظَ طيلة العشرية الأخيرة وسابقاتها بأي تحسينات ملموسة لها تأثير على حياة الأهالي خلافًا للطريق الحزامية التي استغرق إنشاؤها حوالي ست سنوات، مشيرًا إلى أن المناطق الحدودية يمكن أن تكون بوابة تونس في علاقاتها مع الدول المجاورة.

وأفاد رئيس الجمعية، في حديثه لـ"الترا تونس"، بأن متساكني المنطقة لا يعتبرون أن تجارتهم موازية خاصة وأن العديد من الأصوات تطالب بتنظيم وتأطير هذا القطاع ودمجه في الاقتصاد علاوة على أن الدولة لم تستثمر في المنطقة ولم تخلق مواطن شغل، مشيرًا إلى أن مؤشرات التنمية في مدنين ضعيفة جدًا، وأن معتمديتيْ "بني خداش" و"سيدي مخلوف" تحتلان المراتب الأخيرة في مؤشرات التنمية على المستوى الوطني.

وتابع المتحدث أن "أقصى طموح شباب ولاية مدنين هو مغادرة البلاد، لأن دولته لا تعترف به ولأنه محسوب على ليبيا وعلى والحدود في اكتساب قوت يومه"، لافتًا إلى أن "الجنوب التونسي بصفة عامة محسوب على ليبيا بحكم العلاقات الاقتصادية، وغلق الحدود يعد فاجعة بالنسبة لمتساكني المناطق الحدودية لأن المعيشة مرتبطة بها". 

واعتبر عبد الوهاب ماضي أن "الحديث عن سوق عملة موازية في بن قردان مجانب للصواب لأنه لا يمكن إطلاق كلمة "موازية" على نشاط في العلن منتصب في شارع معلوم فيه مكاتب علقت عليها لافتات "صرف" ومتواجدة بجانب مؤسسات رسمية وبنوك"،  لافتًا إلى أن "الدولة لم تنجح في استيعاب هذا النشاط وتقنينه".

ناشط مدني بمدنين لـ"الترا تونس": متساكنو بن قردان لا يعتبرون أن عملهم في مجال الصرف تجارةً موازية خاصة وأنهم يطالبون بتنظيم وتأطير هذا القطاع ودمجه في الاقتصاد لا سيما وأن الدولة لم تستثمر في المنطقة ولم تخلق مواطن شغل

ويضيف محدث "الترا تونس": "في جميع دول العالم، المناطق الحدودية لديها خصوصية والدول التي تحترم نفسها تخشى العديد من الإشكاليات في المناطق الحدودية لهذا تسن قوانين خاصة بالمعاملات التجارية أو بالمعيشة اليومية للمواطنين وهذا ما نفتقده في تونس"، معقّبًا: "هناك منطقة حرة كانت مبرمجة بين تونس وليبيا ظلت حلمًا ومبادرة تتلون في كل مرة وأي وزير جديد يدشنها ويغادر فظلت حلمًا لم يتحول لحقيقة". 

ويرى المتحدث أن المناطق الحدودية فيها العديد من مقومات الاستثمار فولاية مدنين مثلًا فيها 300 يوم "شمس"، وبالتالي بالإمكان الاستثمار في منتوج الصحراء والشمس، كذلك في مجال تربية الماشية والفلاحة، مشددًا على أن الدولة محمول عليها تشجيع شبابها على الاستثمار ليس بالتمويل بل بالتخفيف من الإجراءات والبيروقراطية وتكريس اللامركزية في الإدارات، معتبرًا أن هاجس المسؤولين المتعاقبين على البلاد هو المحافظة على الجانب الأمني وتجاهل الجانب التنموي، متابعًا: "في مدنين لدينا شباب متميز استثمر في مجال تربية الأسماك في طريق بني خداش وكذلك في التجديد في مجال الصناعات التقليدية".

جدير بالذكر أن جميع المساعي الحكومية الرامية إلى تطويق السوق السوداء للصرف لم تأت أكلها، مما يشكل خطورة على سوق العملات خاصة وأن التقديرات ترجّح أن حجم التداولات المالية في سوق الصرف الموازية مرتفع جدًا.