هل أتاك حديث شجار عنيف بين قيس سعيّد ونبيل القروي داخل زنزانة في السجن المدني بالمرناقية، عراك تدخل في نهايته راشد الغنوشي وحسم الأمر، لصالح المرشح الفائز بالانتخابات الرئاسية عام 2019. لكن مهلًا لم تنته الحكاية، خرج الإعلامي وصاحب قناة الحوار التونسي سامي الفهري، من السجن، ليهدد رئيس حركة النهضة بقرص مضغوط قال إنّه يحمل أسرار تمويل الحركة، ودخل مع الغنوشي في عراك قبل أن يتفقا على بقائه في حالة سراح.
يبدو أنّ مشاكل الغنوشي لم تنته، بعد أن تصالح مع الفهري، خرج له سعيّد بقوة جديدة "إخشيدية" ليحاربه وكانت المواجهة، ثم توافقا، لكن النهاية توحي ببداية جديدة، تجسدت في الأزمة السياسية الحالية.
كل هذه الأحداث ليست خيالًا فقط بل هي واقعية ممزوجة بضرب من الإبداع، الذي تصوره وأشرف عليه أحمد المناعي مخرج الكرتون التونسي. هو شاب صنع من موهبته وحبه للكرتون وعالم الأنيميشن (تحريك الصور)، مساحة يقدم من خلالها محاكاة للواقع التونسي، بلمسة فنية تغلب عليها السخرية.
أحمد المناعي (25 سنة) هو مخرج كرتون تونسي صنع من موهبته وحبه للكرتون وعالم "الأنيميشن" مساحة يقدم من خلالها محاكاة للواقع التونسي بلمسة فنية تغلب عليها السخرية
أحمد المناعي (25 سنة)، بدأ مشواره منذ سنوات، بثقة كبيرة وتشجيع المحيطين به، آمن بقدراته وصنع عالمًا خاصًا به، بهوية تجمع بين روح الطفولة الخالصة واليومي المعيش، لغاية واحدة هي تبسيط المفاهيم وتسهيل بعض القضايا التي تبدو مستعصية في نشرات الأخبار.
يقول أحمد في حوار مع "الترا تونس" إنّ "الأنيم" في تونس مثل باقي المجالات التي تعيش ثورة في العالم، مهمش ويعيش على وقع التقزيم، وأن أغلب المتعاملين يعتبرونه مجرد كرتون للأطفال فقط، لا يعرفون تأثيره أو ما يمكن أن يحدثه.
وأضاف أنّ غياب التأطير في هذا المجال محليًا رغم شهرته وتحقيقه لإيرادات خيالية في العالم على غرار سلسلة "وان بيس"، التي تجاوزت الألف حلقة وخلقت جمهورًا مدمنًا عليها، تؤذن بضرورة الالتفات إليه والاعتماد عليه في المستقبل من خلال رؤية مختلفة عن التصور الموجود حاليًا في البلاد.
اقرأ/ي أيضًا: أشهر 10 مسلسلات كرتونية أثرت في جيل الثمانينيات في تونس
المناعي عصامي التكوين، لا ينتمي لمدرسة أنيميشن معينة ولا يؤمن بضرورة الاصطفاف مع رؤية أحادية، يرى أنّه قادر على مزج أفكاره وفق منطلقاته الخاصة وسياقه لخلق توجه جديد ربما. يقول لـ"الترا تونس": "لا أنتمي لمدرسة محددة ولا أمثل توجهًا فنيًا معينًا، كل ما أنجزته ذاتي وشخصي".
المناعي لـ"الترا تونس": لا أحب السياسة وتأكد لي أنّ ما يظهره السياسيون عكس ما يضمرونه، فاخترت أن أكون ناقدًا وكاشفًا للحقيقة من خلال عمل فني يمزج بين الكرتون، الخيال العلمي والسخرية
يروي المناعي كيف ترك الدراسة في المرحلة الثانوية لأسباب وصفها بالشخصية، "التحقت بمدرسة تكوين مهني لإرضاء العائلة، ثم عدت للمجال الذي أفضله وأجيده وهو عالم الصور المتحركة". كل ما أنجزته اكتشفته بنفسي، إمكانياتي لم تسمح لي سابقًا بالبحث على الإنترنت والتعرف أكثر على المجال، فاجتهدت حتى أكون مدرسة لنفسي، مزجت كل الصور التي علقت بذهني وتأثرت بها من خلال مشاهدتي لقنوات الأطفال، واستخدمتها في نقل ومحاكاة الواقع المعيش".
وعن الغاية التي دفعته لهذه المحاكاة الفنية يقول إنّها متعددة، "منها أني اليوم لا أحب السياسة التي كنت في يوم من الأيام متابعًا لها وناشطًا فيها، لكن تأكد لي أنّ ما يظهره السياسيون عكس ما يضمرونه، فاخترت أن أكون ناقدًا وكاشفًا للحقيقة من خلال عمل فني يمزج بين الكرتون، الخيال العلمي والسخرية".
ويضيف: "أنجزت سلسلة اسمها حرب السياسة تتكون من أربع حلقات ولا تتجاوز الواحدة منها الدقيقتين، الحلقة الأولى بدأت مع دخول نبيل القروي إلى السجن خلال الحملة الانتخابية عام 2019، كنت أتخيل مشهدًا وحيدًا يقوم على سؤال هو: ماذا لو التقى القروي وقيس سعيّد في السجن؟ وفكرت في السيناريوهات الممكنة وفق رؤيتي الفنية".
وأوضح المناعي لـ"الترا تونس": "المشهد حين أنجزته كان محاكاة واقعية فنية لما حصل من تشنج واستقطاب ودعاية سواء لهذا الطرف أو ذاك، في شكل عراك كرتوني بين المرشحين". وزاد "ثم انتظرت نتائج الانتخابات الرئاسية وأنجزت المقطع الثاني الذي فاز فيه قيس سعيّد بالعراك فنيًّا والانتخابات واقعيًّا".
اقرأ/ي أيضًا: الـ"ميمز": صور تسخر من الواقع.. أنشرها ولك الأجر
أنجز أحمد مقاطع فيديو أخرى في علاقة بمواضيع مختلفة تحت عنوان "تذكر"، عرض فيها حكايات أليمة عاشها تونسيون في العشرية الأخيرة منها ضحايا الهجرة غير النظامية وقصة وفاة عمر العبيدي مشجع النادي الإفريقي التونسي، الذي طارده الأمن التونسي على خلفية مباراة في ملعب رادس في العاصمة، وانتهى به الأمر إلى الغرق في واد بعد أن طلب منه الأمن "تعلم السباحة".
أما فيروس كورونا، فأفرد له حلقة خاصة وصل عدد مشاهديها إلى أكثر من 6 ملايين في قناته على موقع يوتيوب. وعن التجربة يقول لـ"الترا تونس": "كورونا أخذتها من منظور آخر، كنت جالسًا وفكرت في سبب وجود الفيروس، يقول الخبراء إنّ الخفاش مصدره بعد أن أكله شخص ثم نشر العدوى. لكن كيف؟".
المناعي لـ"الترا تونس": تعرضت لتهديدات ومضايقات إثر نشر مقطع قصير لمشروع أنا بصدد العمل عليه وهو عن "الحرب العالمية الثالثة" الذي أنوي المشاركة به في منافسات ومهرجانات محلية ولمَ لا عالمية
وأضاف: "بدأت في تخيل السيناريو، عائلة سعيدة من الفيروسات التاجية، تتكون من ثلاثة أفراد، تعيش على ظهر خفاش، يمرح بين الكهوف، وفي لحظة فارقة، أمسك به شخص وقرر تناوله. وضعه على طاولة شواء وبدأت ألسنة اللهب تلتهم ظهره، ما تسبب في وفاة الزوجة والابن وبقي كوفيد الأب وحيدًا، جمع حشدًا لعينة منه، نشرها وقرر الانتقام من البشرية".
بنيت القصة على فكرة خيالية لانتشار الفيروس من وحي الحقيقة، وحكاية تستند على مراحل تطوره وفق مراجع طبية متماهية مع بداية انتشار الفيروس حتى اكتشاف اللقاح وبداية تراجع الإصابات والوفيات. لكن رغم بداية انحصار الفيروس، فإنه مازال يهدد البشرية حاملًا فكرة الانتقام الأولى.
وفق المناعي، محاولة إنقاذ البشرية من الفيروس مهمة لكن وجوده بيننا إلى اليوم وعدم فعالية اللقاح من جهة ثانية ضد سلالات جديدة لكوفيد 19، يجعلنا أمام تساؤل كبير حول أهميتها وخاصة جدواها. وهو ما سيشرحه في مشروعه المقبل "الحرب العالمية الثالثة" الذي سيكون أطول أعماله وسيمتد على ثلاثين دقيقة، يرغب من خلاله في الدخول إلى منافسات ومهرجانات محلية ولمَ لا عالمية.
ذكر المناعي أنّه نشر مقطعًا صغيرًا من العمل عبر قناته على موقع يوتيوب، فواجه تهديدات واتُّهم بالإرهاب حينها، بسبب بعض المشاهد خاصة منها الذي يصور انفجارًا في شارع الحبيب بورقيبة. "فهمت أنّه لو نزل كاملًا سيحدث ضجة كبيرة"، يقول المناعي.
اقرأ/ي أيضًا: من الكابتن ماجد إلى "الأيباد": كيف أصبح الطفل وحيدًا؟
وفي سؤال عن إمكانية وجود محاذير وخطوط حمراء لعمله لتجنب مثل هذه التهديدات والمضايقات، صرح لـ"الترا تونس" بأنّ عوده اشتد في المجال ولا تخيفه هذه التهديدات والاتهامات، وأنّ مثل هذه الأعمال ستدخل في ثقافة التونسي وسيقبلها دون خوف.
وعن طبيعة جمهوره، يقول المناعي إنّه من مختلف الأعمار ومن تونس وخارجها، "يتابعني آلاف الأشخاص من مختلف دول العالم، لدي مقاطع فيديو شاهدها أميركيون أكثر من التونسيين أنفسهم، أحاول أن أطور في عملي ولا أنحصر في تقديم مادة لجمهور معين".
المناعي لـ"الترا تونس": لا تخيفني لا السلطة السياسية ولا المجتمع، لأن هدفي هو تقديم مادة تفيد الجمهور وليس التأثير عليه سلبًا بأي شكل من الأشكال
يعتبر مخرج الصور المتحركة أنّه من أنجح صناع المحتوى في تونس، وأنّ إنتاجه متداول أكثر من اسمه أو صورته. "لدي 16 مليون مشاهدة لمقطع فيديو على يوتيوب، و100 مليون مشاهد لمقطع فيديو على موقع فيسبوك، تحاورت مع أكثر من 15 قناة عربية وأجنبية خلافًا للإعلام المحلي، وهو رقم ليس من السهل تحقيقه، لست أتفاخر بنفسي لكن ذلك يحفزني على الابتكار أكثر".
وعن سبب نجاحه يقول إنّه اعتمد توليفة مهمة استلهمها من أعمال أدبية معروفة، وأفلام قديمة، وصور متحركة شاهدها في طفولته، مع لمسة إبداعية مختلفة، لتبسيط وتسهيل الفكرة على المتقبل.
أما أكثر شخصية سياسية لم يكن من الصعب عليه التعامل معها فهي شخصية راشد الغنوشي تليها شخصية قيس سعيّد، بسبب اللكنة والعبارات التي صارا يُعرفان بها.
عادة ما يخشى الفنان الذي يعتمد الفن للسخرية من الواقع أو محاكاته، من السلطة السياسية أو السلطة الدينية، أو السلطة الاجتماعية بما تمثله من عادات وتقاليد راسخة، لكن أحمد المناعي يرى أنّ السلطة السياسية والمجتمع لا يخيفانه وأنّ ما يحكمه هو ضميره، "لا تخيفني لا السلطة السياسية ولا المجتمع، ما يمكن أن يؤثر فيَّ هو الدين وقناعاتي الشخصية، لأن هدفي هو تقديم مادة تفيد الجمهور وليس التأثير عليه سلبًا بأي شكل من الأشكال".
اقرأ/ي أيضًا: