بالرّغم من لجوء الدّولة أكثر من مرّة على مدى السنوات الأخيرة إلى التداين الخارجي لترقيع العجز المالي، إلاّ أنّ الأزمة الاقتصادية مازالت تؤثر بشكل كبير على موازناتها المالية.
وقد باتت الدولة غير قادرة حتى على تسديد ديون الشركات العمومية على غرار الشركة التونسية للكهرباء والغاز، والشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه، وشركة اتصالات تونس، والشركة الوطنية لتوزيع البترول والعديد من المؤسسات الأخرى التي تنتظر خلاص ديونها المتخلدة لدى الوزارات والإدارات العمومية، خاصة وأنّها بلغت ملايين الدينارات على غرار مستحقات أنظمة الضمان الاجتماعي لدى المؤسسات العمومية والوزارات التي بلغت ألف مليون دينار.
تواجه الدولة التونسية بسبب العجز المالي صعوبات في دفع مستحقات الشركات العمومية والخاصة على حد السواء
وقد أفاد وزير المالية رضا شلغوم في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي أنّ الدّولة توجهت إلى خلاص ديون مستحقيها من المؤسسات العمومية على دفعات وفق ما تسمح به إمكانيات الدولة، وانطلقت في دفع أقساط من هذه الديون على غرار شركة توزيع المياه وشركة اتصالات تونس.
قطاع المقاولات.. فساد وعجز عن خلاص الديون
الدولة ليست عاجزة فقط عن تسديد ديون المؤسسات العمومية، بل عاجزة حتى عن تسديد ديونها لفائدة الشركات الخاصة على غرار شركات المقاولات التي تصل مستوى معاملاتها إلى 20 في المائة من الناتج الداخلي الخام، إلى جانب شركات التنقيب على المياه وشركات معالجة مياه الصرف الصحي وعديد المؤسسات الخاصة الأخرى التي تتولى إنجاز أو الاشراف على مشاريع عمومية. عجز جعل هاجس المؤسسات والشركات الخاصة هو كيفية استخلاص ديونها من أجل ضمان ديمومتها.
اقرأ/ي أيضًا: الفساد في الصفقات العمومية.. سرطان ينخر الإدارة في انتظار استئصاله
والصفقات العمومية هي من أكثر القطاعات التي يشوبها الفساد المسبّب لخسائر كبيرة للدولة، وفق ما كشفته أغلب التقارير الرقابية الصادرة خلال السنوات الأخيرة، ومن ذلك أبرز التقرير السنوي الرابع والعشرون للهيئة العليا للرقابة الإدارية والمالية لسنتي 2016 و2017، وجود تجاوزات ومحاباة وتضارب مصالح تتعلق بصفقات إسناد أشغال عامة صلب وزارة التجهيز والإسكان والتهيئة الترابية.
فيما أشار شوقي الطبيب، رئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد، أنّ خسائر الدولة التونسية في مجال الصفقات العمومية بلغ حوالي 2000 مليون دينار، وذلك بسبب تفشي الفساد وغياب آليات الحوكمة. كما أكد سابقًا عبد الرحمان الأدغم، الوزير لدى رئيس الحكومة المكلف بالحوكمة ومقاومة الفساد سنة 2012، أنّ الفساد استفحل بالأساس في قطاع الصفقات العمومية التي تصل مستوى معاملاتها إلى 20 في المائة من الناتج الداخلي الخام.
تبلغ خسائر الدولة التونسية في مجال الصفقات العمومية حوالي 2000 مليون دينار وذلك بسبب تفشي الفساد وغياب آليات الحوكمة
وقد تفاعل الرأي العام مع انهيار جسور مشيدة حديثًا في عدة جهات بسبب الأمطار، خلال شهر نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كإحدى نتائج استفحال الفساد في الصفقات العمومية على مستوى وزارة التجهيز. لكن يبدو أنّ الحكومة لا تواجه فقط معضلة الفساد في الصفقات العمومية، إذ تواجه أيضًا مشكل سداد مستحقات العديد من شركات المقاولات والبناء التي أنجزت مشاريع عمومية.
وقد أطلق أصحاب بعض الشركات الخاصة على غرار شركات المقاولات صيحة فزع، في أكثر من مناسبة، محذّرين من إفلاس أغلب شركات المقاولات والبناء لاسيما الشركات المتوسطة والصغرى، نتيجة تراكم مستحقاتها لدى وزارة التجهيز التي ظلّت عاجزة عن دفع المستحقات المالية الشركات الخاصة التي نفذت مشاريع عمومية تتعلّق خاصة بالبنية التحتية. وتتعلق المسألة بعشرات ملايين الدينارات، الأمر الذي أدّى إلى دخول أغلبها في أزمة مالية جعل المؤسسات الدائنة غير قادرة على الإيفاء بالتزاماتها المالية إزاء البنوك أو العمال والموظفين.
محمّد، أحد أصحاب شركة مقاولات، طالب أكثر من مرّة بالحصول على مستحقاته المالية دون بلوغ مراده رغم أنه أنهى إنجاز المشروع منذ أكثر من ستة أشهر. الأمر الذي جعله يواجه أزمة مالية خاصة فيما تعلّق بتسديد الأقساط البنكية أو حتى تسديد أقساط بعض المعدات التي يقع شرائها أو تسويغها لإنجاز المشروع، إضافة إلى العجز عن تسديد رواتب العمّال الذين هددوا بالإضراب، وفق ما أكده في حديثه إليه لـ"ألترا تونس".
محمد (صاحب شركة مقاولات): لم أحصل على مستحقاتي المالية من الدولة رغم إتمام المشروع وأواجه أزمة مالية خاصة فيما تعلق بتسديد الأقساط البنكية
يؤكد محدثنا أنّ تأخر دفع مستحقات شركات المقاولات أمر عادي، لكن الفترة عادة كانت لا تتجاوز بضعة أشهر، إلا أنّ الأزمة الاقتصادية اليوم أثرت كثيرًا على ميزانيات الوزارات وهو ما عطّل دفع مستحقات العديد من الشركات التي أنجزت صفقات عمومية أو أشرفت عليها.
ويشير كمال (اسم مستعار) أيضًا، وهو أحد أصحاب شركات المقاولات لـ"ألترا تونس"، أنه عادة ما يتأخر سداد المستحقات المالية لأغلب المقاولين لأكثر من 3 أشهر خاصة بالنسبة إلى المشاريع التي تفوق تكلفتها 2 مليون دينار، ذلك أن وزارة التجهيز لا تتوفر لديها المبالغ المالية الأمر الذي يتسبب في تأخير خلاص ديونها لتلك الشركات، رغم انتهاء الأشغال التي أشرفت على انجازها.
كما أضاف محدّثنا قائلًا: "جرت العادة أن تتسلم الشركة الأقساط كل ثلاثة أشهر خلال تنفيذ المشروع، على أن يتم خلاص البقية ما أن تنتهي الأشغال. إلاّ أنّ الفترة انتهت وأنهينا الأشغال ولم يقع صرف أيّ مبلغ وهو ما تسبب في عدّة مشاكل مع البنك التي تلزمنا بدفع خطايا التأخير".
يذكر، في ذات الإطار، أنّ الغرفة الوطنية لمقاولي البناء والأشغال العمومية تدارست، بمشاركة كلّ الغرف الجهوية لمقاولي البناء والأشغال العمومية، في فيفري/شباط من العام الماضي، إشكالية عدم استخلاص مقاولي الأشغال العمومية لمستحقاتهم المالية المتخلدة بذمة وزارة التجهيز على إثر قيامهم بإنجاز مشاريع كبرى في البنية التحتية. وراسلت هذه الغرفة النقابية وزارة المالية لتحديد حجم المستحقات التي يجب دفعها للمقاولين الذين نفذوا مشاريع أشغال عمومية.
اقرأ/ي أيضًا: سليم الرياحي وشبهات فساد في استغلال مركّب فلاحي في سليانة (دائرة المحاسبات)
الإجراءات الإدارية تعمّق المعضلة!
لطالما نددت الغرفة النقابية الوطنية لمقاولات التنقيب عن المياه، من جهتها، بتعطيل استخلاص الفواتير والأشغال. وقد طالب أصحاب مؤسسات التنقيب عن المياه بضرورة تفعيل قرارات الإذن بالاستخلاص الفوري لمستحقات مقاولات الحفر، إذ أصبحت معظمها في عجز تام لمجابهة مستلزمات حضائر الآبار المفتوحة وخلاص أجور عمالها، إلى جانب عدم قدرتها على تغطية البعض من العجز المالي المتفاقم بحسابها لدى البنوك.
منير (صاحب شركة خاصة): لم أتلق أي قسط من مستحقاتي من ديوان التطهير رغم أن العقد الممضى ينص على دفع المستحقات على أقساط طيلة فترة التنفيذ
الشاب منير (30 سنة)، أحد أصحاب شركات التصرف ومعالجة مياه الصرف الصحي، انطلق منذ أشهر في الإشراف على مشروع محطة معالجة مياه لكنّه لم يتلق أي قسط من مستحقاته من قبل الديوان الوطني للتطهير، الأمر الذي يجعله يواجه مشاكل عدّة على مستوى دفع أجور العمال منذ أشهر، رغم أنّ العقد الممضى مع الديوان ينصّ على تلقي مستحقاته كدفعات مالية طيلة تنفيذ المشروع.
يضيف الشباب في حديثه معنا أنّ أغلب شركات التصرف في مياه الصرف الصحي التي تشرف على محطات معالجة المياه تواجه صعوبات للحصول على مستحقاتها المالية، وأحيانًا تنتهى مدّة انجاز المشروع دون الحصول على أيّ دفعة من المستحقات، وهو ما بات يهدّد خصوصًا الشركات الصغرى، وفق تأكيده.
على صعيد آخر، أشار محدّثنا إلى معضلة أخرى ألا وهي الإجراءات الإدارية المعقدة التي أكد أنها تزيد من تعميق مشكل دفع المستحقات موضحًا أن الديوان الوطني للتطهير ينتظر بدوره الحصول على مستحقاته من الشركة الوطنية لتوزيع المياه ليكون قادرًا على دفع مستحقات الشركات الخاصة.
اقرأ/ي أيضًا:
توريث الوظائف: الأقربون أولى بالوظيفة!
"أنا يقظ" تكشف شبهة فساد ومحاباة بين ولاية جندوبة ومقاول مدلّس