يرتفع منسوب النكهة في شهر رمضان من كل سنة، نكهة شهر بخليط من عبق التاريخ ونفحات الدين وإحياء الموروث وتحديث العتيق، وبين هذا وذاك يبقى المطبخ التونسي أحد محاور الاحتفاء بقداسة شهر الصيام من خلال لمّ شمل الأسرة على مائدة واحدة وإعداد ما لذّ وطاب عند الإفطار والسحور. ويتزامن هذا الاحتفاء مع التفنن في تزيين وتزويق المأكولات والمشروبات والحلويات وتأثيث المنزل بالأواني والأطباق الفخارية والمنحوتات والصحاف الخزفية فيتزاوج التقليدي بالحديث في المنزل التونسي.
اقرأ/ي أيضًا: "عولة رمضان".. عادة تونسية تواجه الاندثار
في مدينة المكنين الساحلية تنتشر هنا وهناك محلات بيع المنتوجات الفخارية والخزفيات من كل الألوان والأشكال تحت مسميات مختلفة فنجد الحلبيّة والبوقال والكانون والصحاف والأواني والمعجنة والكسكاس والبرنية والخابية والمحبس والعجان والبرمة والمحبس والجرّة و الحلاب، وأنواع كثيرة من القدور ذات أحجام مختلفة تستعمل جميعها في المطبخ والمخزن التونسي التقليدي والحديث.
غزا الخزف من جديد السوق التونسية وعاد إلى تأثيث المطبخ التونسي غير متأثر بما بلغته البلوريات وأنواع من السيراميك الحديث من تطوّر ومجابهًا السلع المستوردة من خارج البلاد
ويشهد قطاع الفخار إقبالًا كثيفًا في شهر رمضان من قبل العائلات التونسية التي تتزود بما حسن شكله وبرق لونه وازدان نقشه وبهى منظره، وقد غزا الخزف من جديد السوق التونسية وعاد إلى تأثيث المطبخ التونسي غير متأثر بما بلغته البلوريات وأنواع من السيراميك الحديث من تطوّر ومجابهًا السلع المستوردة من خارج البلاد.
يشهد قطاع الفخار إقبالًا كثيفًا في شهر رمضان (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)
خلال زيارتنا لدكاكين بيع المنتجات الفخارية في المكنين لاحظنا نوعين منها، إحداها قد تنفرد ببيع المنتجات المحلية من جرار ومحابس وأوان مختلفة الأحجام والألوان، أما دكاكين أخرى فقد أثثت بمنتجات محلية وأخرى من مدن تونسية مثل نابل وبنزرت وجربة وسجنان، وكانت جلها ذات طابع تونسي تقليدي صنعًا وتزويقًا.
ولعلّ ما اشتهرت به مدينة المكنين وبعض القرى الريفية المجاورة لها ما يعرف بالفخار المخروط والذي تنتشر ورشاته في منطقة محاذية للسبخة تسمى "القلالات " وبعضها بقي وسط الأحياء السكنية بالمدينة وتزود هذه الورشات السوق الداخلية والخارجية من المنتجات الفخارية ذات الأصول الضاربة في القدم في هذه المنطقة من الساحل التونسي.
خميس العريبي (تاجر) لـ"ألترا تونس": المكنين تتميز بصناعة الفخار الأبيض ومن الأواني التي تتميّز بها الخابية والقلّة والبقال
التقينا في أحد الدكاكين التاجر خميس العريبي الذي أكد لـ"ألترا تونس" أن "المكنين تتميز بصناعة الفخار الأبيض ومن الأواني التي تتميّز بها الخابية والقلّة والبقال والحلبية والقمصان، وقبل دخول شهر رمضان الفضيل كانت العائلات التونسية تستعد له باقتنائها الأواني الفخارية ". وأضاف العريبي أن "في شهر رمضان تتكثف الحركية التجارية على محلاته ومن بين الأكثر مبيعات صحفة الشربة وسفرية الشربة وصحن الكسكسي وشقالة العشاء والداقرة والمثرد والكبوشة (تستعمل للموالح) وطاقم الماء واللبن".
أما عن الأسعار فقال إنها "مناسبة لكافة الشرائح المجتمعية التونسية وذات قدرة تنافسية مع البضائع من أصناف أخرى غير فخارية، وتستقطب المكنين الحرفاء من كفة أنحاء الجمهورية وتعدّ قبلة الساحل التونسي خاصة ".
ويعتبر هذا النوع من الصناعات ذي عمق وأصالة وكان مستشريًا منذ القدم في هذه الجهة ويعبر عن تشكلات المجتمع الريفي الذي يحتفي بعاداته الغذائية حتى لقب "بالخزف الريفي"، وهو "خزف يدوي بحت يعتمد على قولبة الآنية مباشرة بالأيدي وتمثل هذه الصناعة ظاهرة ريفية معروفة منذ زمن بعيد في بلادنا وقد بقيت إلى اليوم كأحد العناصر الثقافية الأساسية للمجتمعات القروية المغربية بصفة عامة "، حسب ما ذكره الباحث الناصر البقلوطي في كتاب ثلاثون سنة في خدمة التراث للمعهد القومي للتراث والفنون ( أكتوبر/ تشرين الأول 1987).
اقرأ/ي أيضًا: "رائحة رمضان".. كيف تستعدّ المدينة العتيقة بسوسة للشهر؟
وجدنا أنواعًا مختلفة من المنتوجات الفخارية من بينها صناعات المكنين (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)
كما يذكر نفس الباحث أن "زخرفة الخزف الريفي بتونس تختلف باختلاف الملونات المستعملة وأشكال الرسوم. ففي الساحل يرسم الزخرف على المنطقة العلوية من جوانب الآنية وهي لازالت سخنة بحكها بمادة البليمة وهي زفت معدني والأشكال المرسومة عبارة عن على خطوط ونقاط سوداء متتابعة تشبه إلى حد بعيد الحرقوس".
ولا بد من الإشارة إلى أن أهم المنتجات التي اقترنت بشهر رمضان ما كان يطلق عليه بـ"داقرة الصيام"، وهي عبارة عن "قدح كبير مع غطاء شكله وزخرفه معروفان في صناعة الفخار القديمة بجزيرة جربة وقد تذكرنا الأشكال الزخرفية ذات اللون الأخضر والبني والتي تظهر فوق مهاد أصفر بأشكال مماثلة كانت تحلي الخزف الأغلبي وكانت الجدات تهدين هذا الوعاء إلى بنات أو أبناء بناتهن عندما يحل عليهم صهر الصيام".
وخلال زيارتنا لأحد محلات بيع الفخار في المدينة العتيقة بسوسة وجدنا أنواعًا مختلفة من المنتوجات الفخارية من بينها صناعات المكنين وكذلك مدن عدّة تونسية مثل نابل وجربة وبنزرت وسجنان. وكان لـ"ألترا تونس" لقاء صابر، الذي أثنى على الإقبال المتزايد على الفخار، فقال "يعتبر الإقبال على الخزفيات إحدى مؤشرات العودة إلى العتيق فهي موضة هذه السنوات، ولم يكن شهر رمضان وحده مناسبة للإقبال عليها بل يمتد على كافة أشهر السنة غير أن هذا الموسم يعتبر متميزًا على خلاف العادة".
حجم صادرات الفخار لمعتمدية المكنين وحدها بلغ سنة 2017 نحو 3.5 مليون دينار
وحسب آخر الإحصائيات التي تحصل عليها "ألترا تونس" من الإدارة الجهوية للصناعات التقليدية بالمنستير فإن مدينة المكنين تحتوي على عدد يتجاوز الخمس وثمانين ورشة لصناعة الخزف وتسمى القلالات موزعة على عدة مناطق من المدينة وذات طاقة تشغيلية تفوق 600 عاملًا. وتبلغ قيمة الصادرات 4 مليون دينار سنويًا نحو البلدان الأوروبية والأمريكية كما تمثل نسبة الصادرات من المنتوجات المصنعة بالمكنين 90 في المائة من الكمية الجملية.
أكثر من 90 في المائة من الفخار المنتج بالمكنين يتم تصديره إلى الخارج (ماهر جعيدان/ ألترا تونس)
ويُشار إلى أن حجم صادرات الفخار لمعتمدية المكنين وحدها بلغ سنة 2017 نحو 3.5 مليون دينار، وحقق القطاع بذلك نسبة تطور بلغت أكثر من 20 في المائة مقارنة بسنة 2016 علمًا وأن أكثر من 90 في المائة من الفخار المنتج بالمكنين يتم تصديره إلى الخارج، حسب المندوب الجهوي للصناعات التقليدية بالمنستير. ومن المنتظر أن يبلغ حجم صادرات الفخار بالمكنين لسنة 2019 بين 4 و5 مليون دينار حسب المصدر ذاته.
وتعتبر هذه المؤشرات ذات نجاعة في المساهمة في التنمية بالجهة رغم الصعوبات التي تعترضها خاصة من فقدان اليد العاملة وارتفاع كلفة الإنتاج بالإضافة إلى المسائل البيئية العالقة. ورغم السعي إلى تطوير القطاع تقنيًا وفنيًا ومحاولة إدماج معاهد الفنون الجميلة في الإبداع الجمالي فإن الدعوة إلى تدعيم تجميع الحرفيين ضمن تعاضديات تحمي صغارهم وتطور إنتاجهم باتت مطلبًا ملحًا للولوج إلى أسواق جديدة تعزز القدرة التنافسية وتعزيز وجودهم في السوق الداخلية.
اقرأ/ي أيضًا:
المستهلك التونسي في رمضان.. بين الانتحاري والعقلاني والضحية!