11-أغسطس-2019

خبز تقليدي يزيّن مائدة عيد الأضحى في بعض الجهات (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

 

تحرص العائلات التونسية في استقبالها لعيد الأضحى على إحياء تقاليد راسخة من شحذ السكاكين والتسوق لشراء الخضر والغلال والبهارات والبخور والأواني وغير ذلك مما تستعمله المرأة التونسية في مطبخها. ففي مدينة سوسة، تكتظ أسواق باب الجديد والعراوة ونهج فرنسا بالباعة والزبائن في حركية تجارية نشيطة، لكن تتكثف، بالتوازي، حركة حثيثة أمام المخابز التقليدية القديمة.

في نهج دار السايس الذي يروي تاريخ المدينة، يتوافد أهالي سوسة على أولى مخابز المدينة الساحلية ذات الأفران التقليدية ليس لاقتناء خبز عيد الأضحى فحسب، بل لإيداع أطباق من الخبز أعدتها العائلات خصيصًا ليوم العيد، وهو خبز دائري كبير الحجم أو على شكل مستطيل. كما تنتشر أطباق ما يسمونه بـ"المجامع"، وهو خبز دائري الشكل أو مخروطي تتوسطه بيضة كأنها في عش عصفور، ويُزيّن هذا الخبز بشكل مختلف من بيت إلى آخر.

تتوسّط بيضة خبز "المجامع" الذي يُعد بمناسبة عيد الأضحى (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

في المخبزة التقليدية التي تعود لسنة 1947، نرى صاحبها المنصف يتحرك بين الأفران رفقة العاملين فيها ملبيًا رغبات الزبائن الذين اصطفوا بالعشرات، وترى النسوة والرجال يتفقدون خبزهم الذين أعدوه في منازلهم و"المجامع" التي أعدوها لأبنائهم. فلم تكن لتثنيهم حرارة الصيف الموسمية علاوة على الأفران من إحياء عاداتهم التي توارثوها على أجدادهم.

التقينا في المخبزة مراد البحري، أحد سكان المدينة العتيقة في سوسة ورئيس جمعية "دار الحرفي"، وحدثنا أن العائلة السوسية (نسبة إلى سوسة) دأبت منذ القدم على إعداد خبز "السينية"، وهو خبز يُعجّن ويُزّين بالجلجلان (السمسم) والسينوج وحبة الحلاوة (اليانسون) والبسباس (الشمر)، ويعدّ عادة في حجم دائري كبير.

 خبز "المجامع" هو خبز دائري الشكل أو مخروطي تتوسطه بيضة كأنها عش عصفور تعده العائلات في الساحل والقيروان بمناسبة عيد الأضحى

وحول "المجامع" التي تعدّ للأطفال، أضاف البحري لـ"ألترا تونس" أن هذا الخبز من عادات الساحل التونسي وخاصة في سوسة والمنستير وفي الوسط بمدينة القيروان التي تعتبر المنطقة الأبرز في طبخ الخبز على الإطلاق وفق تأكيده. وبيّن أن "البيض في خبز المجامع هو رمز الخصوبة والتواصل بين الأجيال في العائلة الواحدة والعرش، وهو يزين المائدة التونسية في كافة المناسبات الدينية".

من جهته، أخبرنا المنصف بالحمرا، صاحب المخبزة التقليدية، أن مخبزته تضرّرت خلال الحرب العالمية الثانية جراء القصف ليرمّمها والده لاحقًا، مبينًا أن المخبزة هي النواة الأولى للمخابز في سوسة داخل أسوار المدينة العتيقة.

تحافظ المخبزة التقليدية على استعمال فرن روماني وهو ما يعطي نكهة خاصة للخبز (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

ورغم التطور التقني للمخابز ببيوت النار المائية، حافظت هذه المخبزة على الطابع التقليدي بفرن روماني يتميز ببناء يطلق عليه "القبو" المشيد بالآجر وهو ما يعطي نكهة خاصة للخبز لا توجد في المخابز الحديثة. وقد اشتهرت هذه المخبزة منذ نشأتها بأنواع من الخبز أهمها "السينية"، و"الميدة"، و" الشواي"، و"الكبير"، و"المجامع"، و"القلقال"، و"القواتن" وغيرها من أنواع الخبز. وأوضح لنا صاحب المخبزة أن ما يطلق عليه بـ"الخبز العربي" يتطلب مدة زمنية طويلة في القرن وهو ما يؤدي إلى ارتفاع كلفته.

صاحب مخبزة تقليدية في سوسة العتيقة: إن كانت الحلويات هي العنصر المميز لعيد الفطر، فإن أطباق الخبز هي العنصر المميز لعيد الأضحى

وتشهد المخبزة ازدحامًا خاصة في الأعياد والمناسبات عبر توافد أطباق الخبز وبالخصوص "المجامع"، ويختم صاحبها حديثه معنا قائلًا: "إن كانت الحلويات هي العنصر المميز لعيد الفطر، فإن أطباق الخبز هي العنصر المميز لعيد الأضحى".

وخلال تواجدنا بالمخبز، التقينا الحاجة صلوحة، وهي إحدى نساء المدينة العتيقة، كانت مصطحبة لابنها الذي كان حاملًا للأطباق من عجين الخبز و"المجامع"، وكنا نراها تتفقد مدى نضج خبزها وسلامته في الفرن، وهي التي أفاقت منذ الفجر لإعداده للعائلة الموسعة التي تجتمع على مائدة عيد الأضحى.

تشهد المخابز ازدحامًا في ظل توافد أطباق الخبز التقليدي وبالخصوص "المجامع" (ماهر جعيدان/ألترا تونس)

وفي حديثها لـ"ألترا تونس"، تقول صلوحة إنها تعد كل سنة هذه "المجامع" بإعداد نوعين منها أحدهما بعجين الخبز وآخر بعجين حلو يطلق عليه "البشكوطو"، باستعمال البسباس وحبة الحلاوة والقرنفل وقشور البرتقال مع إضافة تلك البيضة التي تتوسط الخبز.

فيما تضيف أن "السينية" تُعد باستعمال السميد والفارينة (الدقيق) والبسباس والسينوج والجلجلان وحبة الحلاوة، مبينة أنه يتم تزيينها في الأطباق المكتراة من المخبزة، وتسهر النسوة في الإعداد حتى يكون الخبز في أبهى حلة، كما تقول.

تكاد تختص كل منطقة في بلادنا بعاداتها في الخبز إعدادًا وطهيًا ومذاقًا على غرار "المجامع" الذي يظل خبزًا تختصّ به جهات سوسة والمنستير والقيروان تحديدًا

"إن لم تكن مهنة الخباز هي الأولى في التاريخ فإنها ستكون الأخيرة"، هو مثل يدلّ على قيمة الخبز ورمزيته ودلالته، إذ يمثل هذا المنتج الغذائي منذ 8 آلاف سنة عنصرًا أساسيًا في غذاء الانسان، وتتعدد اليوم أنواعه وأشكاله وطرق إعداده في العالم وكذا في تونس. إذ تكاد تختص كل منطقة في بلادنا بعاداتها في الخبز إعدادًا وطهيًا ومذاقًا على غرار "المجامع" الذي يظل خبزًا تختصّ به جهات سوسة والمنستير والقيروان تحديدًا.

مراسل "ألترا تونس" في مخبزة تقليدية في المدينة العتيقة بسوسة